جاري التحميل

إبراهيم الحوراني

الأعلام

إبراهيم الحوراني([1])
العلامة والشاعر العبقري المرحوم الشيخ إبراهيم الحوراني الحمصي

أصله ونشأته: ولد المرحوم الشيخ إبراهيم الحوراني بحلب في اليوم الرابع عشر من شهر أيلول سنة 1844م وأسرته حورانية الأصل من آل فرح الغسانيين، عاد به والده إلى وطنه حمص، وبرز ذكاؤه وهو في الخامسة من عمره عندما تعلم القراءة فأحكمها في ستة أشهر، ومن قراءته الآجرومية والكتب الشعرية واستظهاره القصائد البليغة وحله المسائل الحسابية نشأ في نفسه حب الشعر والرياضيات، وكان يقصد كل مشهور من علماء حمص للاستفادة منه، وبين أنوال النسيج كان ينظم الموالي وما زال المنشدون يترنمون بأوائل منظوماته.

دراسته: وفي سنة 1860م هاجرت أسرته إلى دمشق ومنها أرسله والده إلى مدرسة (عبية) في لبنان فأتقن فيها الرياضيات والصرف والنحو والجغرافيا، ثم أقام بدمشق يقرأ العلوم المختلفة على الدكتور ميخائيل مشاقة فأحكم علم الجغرافيا السماوية وكثيراً من الرياضيات والمنطق والفلسفة الطبيعية وقرأ الكيمياء، وفي دمشق أتقن كل آداب اللغة العربية، وفي سنة 1870م انتدبته الكلية الإنجيليةللتدريس فدرس فيها ثماني سنوات آداب اللغة العربية والمنطق والجبر والهندسة وقياس المثلثات البسيطة الكروية وسلك الأبحر وعلم التسهيل.

وكان يرصد النجوم في بيته فضلاً عن مرصد الكلية عدة سنين في أكثر الليالي ثم درس في المدرسة العالية الأمريكية للبنات ست سنين.

النشرة الأسبوعية: وفي سنة 1880م انتدبه المرسلون الأمريكيون لإنشاء النشرة الأسبوعية والترجمة والتنقيح، فزين صفحاتها ونسج بردها أكثر من ثلاثة عقود من السنين، وعلم عدة سنين في المدرسة البطريركية في بيروت.

حياته وفواجعه: وفي سنة 1857م اقترن بالسيدة جوليا بنت نعمة بركات وأنجب ثلاثة أنجال وكريمة، وفي سنة 1896م مني بفقد ولده نسيب وهو في ريعان شبابه، وتوفيت زوجته سنة 1907م، في غياب ولديه بديع وحبيب في ديار الغربة لم يبق عنده في مرضه الأخير إلا كريمته نجلا.

سفره إلى مصر:وفي سنة 1908م سافر إلى مصر، وكانت شهرته سبقته إليها، فاحتفل الأعاظم والأفاضل به وقابل الخديوي عباس حلمي وأنشده قصيدة بمدحه، وقد ترأس تحرير جريدة المحروسة بضعة أشهر إلى أن رجع إلى بيروت.

علمه ومآثره: لقد تبحر في العلوم فأحكم كل ما حصله من العلم أحسن إحكام بالمطالعة بنفسه أكثر مما حصله في المدارس، وهذا ما يشجع طلبة العلم الذين تساعدهم أحوالهم على الدخول في المدارس العالية ويعلمهم أن كل من جد وجد، فكان من العلماء النوابغ في عدة علوم، ملك نواحيها وتحكم فيها، وكان له القدح المعلى فأبدع وأعجب، فهو العبقري في الشعر والنثر والرياضيات والفلك والمنطق والفقه المسيحي، قضى حياته في التأليف والتدريس، فكل طلبة العلم الناطقين بلغة العرب مدينون له بالفضل في هذا العصر، وانتخب رئيساً للمجمع العلمي الشرقي.

شعره: لما بلغ العام الثاني عشر صار شعره موزوناً صحيحاً فكان شاعراً عبقريًّا بليغاً في نظمه، ينتقي القوافي الأخاذة، ولمقدرته في اللغة العربية كان قادراً أن يعبر عن أفكاره بكل وضوح وبساطة واختصار، امتاز شعره بسمو المعاني والحكموحسن الترتيب وفصاحة الألفاظ وبلاغة العبارات والخلو من التكلف، ولو تيسر جمع شعره كله لكان منه دواوين، ومن شعره الساحر قصيدة بليغة ألقاها في حفلة استقبال، نقتطف منها قوله:

يا أمي لست أخا الصبابة فاسألي

عمن يهيم بغير هذا المنزل

ما تبتغين من الذي هجر الهوى

كبراً وحطته النوازل من عل

ومنها:

يا آل حمص كلكم أهلي إذا

قام اليراع مقام حد المنصل

كان رحمه الله يميل إلى الفن الموسيقي، وقد شهد عرساً في دمشق فأنشد أحد المغنين أبياتاً تتضمن شكوى فراق الأحباب، وكان هنالك شيخ جاوز السبعين من عمره وقد فارق أولاده وأحباءه، فبكى بكاء الأطفال على مشهد الناس وسمعهم، فنظم الحوراني فيه أبياتاً تهكمية حمله على نظمها طيش الصبوة منها قوله:

ذكرى اللوى فحكى هشيم ربوعه

وجرى غثاء فوق لج دموعه

وبكاؤه للبين في شيخوخة

يحكي بكاء الطفل في أسبوعه

وعاقب الله الحوراني في كبره، فقد سمع إثر فراقه من أحب ممن فرق بينه وبينهم الموت منشداً يقول:

رحل الأحبة والفؤاد موجع

أسفي عليهم والمحاجر تدمع

فبكى الحوراني متذكراً مصابه بولده نسيب، وتذكر بكاء الشيخ الذي كوى قلبه الفراق وبكى وتهكم عليه فندم على ذلك، ومن قوله يوم وفاة ولده:

وأتى أساتك يرهفون نصالهم

والموت أقبل لا يهاب نصالا

يتحدثون بما يفيد ولم يفد

فرأيت جملة ما أتوه جدالا

ومن عيون شعره قصيدة رثى بها أستاذه العلامة الدكتور ميخائيل مشاقة منها قوله:

لم يبق بعد غروبكم من مطلع

في شرفنا لسوى نجوم المدمع

ومنها:

يا نور أهل العلم بعدك أظلمت

حلل العلوم كأنها لم تلمع

يا رمس ميخائيل لو درت العلا

أمسيت محسود المحل الأرفع

ومنها:

علمتني صبر الكرام من الصبا

واليوم بت ألوم من لم يجزع

ومن نظمه في صباه قصيدة طويلة مطلعها:

حمل النسيم لنا عبير شذاكا

ظبي الخيام فرحت من إسراكا

ورياض ربعك ضاع نشر خزامها

سحراً فضاع القلب في مغناكا

وقال معمياً في مريم فأبدع:

لي في مغاني الصفا هيفاء غانية

غيداء قلبي وطرفي من معانيها

ما بين ذيلي نسيم من خمائلها

ربا الخزامى رمت بالحب هاويها

ودعي لإلقاء خطاب علمي في احتفال مدرسة عالية بطرابلس فمدحه الشاعر المرحوم سليم شاهين سركيس بقصيدة مطلعها:

هب النسيم علي من لبنان

فاهتاج شوقي واستباح جناني

ومنها:

أومثل أنفاس الرسول مبشري

بقدوم عالم عصرنا الحوراني

ملك الفصاحة والبلاغة مطلقا

رب القريض وبكر كل معان

مؤلفاته: لقد ألف ونظم ونثر وابتكر واستأثرت بمؤلفاته الجامعة الأمريكية لطبعها وتدريسها وهي: الشهب الثواقب كتاب جدلي، جلاء الدياجي في الألغازوالأحاجي، مناهج الحكماء في مذهب النشوء والارتقاء، الحق اليقين في مذهب دروين، الآيات البينات في عجائب الأرض والسماوات، ضياء المشرق في علم المنطق وله مقالات وخطب كثيرة وما ترجمه أكثر من عشرين كتاباً، وجرت بينه وبين الدكتور شبلي شميل مناظرات حول النشوء والارتقاء، وكان الأستاذان جبر ضومط وعبد الله البستاني وهما من أعلام اللغة العربية إذا اختلفا في ناحية لغوية ارتضيا بحكمه، فكان قوله الحكم الفصل.

أوصافه: كان طويل القامة، عريض الجبهة، روماني الأنف، حنطي اللون، كبير النفس، ثابت الرأي، عفيف اللسان، حاد الطبع، سريع الرضا، مهملاً جمع آثاره، قليل العناية بحفظها، لا مطامع تستميله، ولا دخل له في سياسة، سريع الخاطر، قادراً على الكتابة أينما كان، بسيط القلب، بعيداً عن الحسد والبغض، قليل الكلام، كثير العمل، وكان يشبه في الخلقة الجاحظ المشهور، واسمع ما يقوله عن نفسه:

قولوا لمن قد ساءه خلقه

يزيل قبح الخلق حسن الفعال

لو أحسن القرد إلى عاقل

بدا له ظبياً بديع الجمال

مرضه ووفاته: لقد استقر في منزله في رأس بيروت إثر إصابته بمرض عضال لازم فيه الفراش نحو سنتين، فكان صبوراً في الضعف والألم، وفي الساعة الأولى بعد الظهيرة من يوم الأربعاء في الثالث من شهر شباط سنة 1916م وافاه أجله المحتوم ودفن في بيروت، وكتب بذيل صورته:

رسم يمثلني لكل مشاهد

أبقيته ليدوم ذكري في البشر

لكنه أثر يزول فما على

أرض البلى عين تدوم ولا أثر

وقد أفاض الشعراء والخطباء بتأبينه ورثائه، رحمه الله بقدر حبه لحمصه العزيزة وما أحسن إلى المجتمع الأدبي بمآثره ومناقبه الخالدة.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/ 46 ـ 48).

الأعلام