إبراهيم الدباغ
إبراهيم الدباغ([1])
العالم والشاعر الوطني المرحوم الشيخ إبراهيم الدباغ
أصله ونشأته: ولد المرحوم الشيخ إبراهيم الدباغ في مدينة يافا سنة 1851م ونشأ فيها إلى سن الشباب، ثم رحل إلى مصر واستوطنها حتى وفاته، تلقى دراسته العلمية في الأزهر، واشتهر بذكائه وجرأته وقد ذاع صيته فكان بيته ملتقى أهل الأدب والفضل، ورفاقه هم حافظ إبراهيم وأنطون الجميل وخليل مطران وزكيمبارك وزكي أبو شادي، فإذا كملت هذه الحلقة الأدبية تصدر المجلس وبدأ يناظر ويساجل ويروي الشعر وينفث الطرائف من مداعباته وتنكيته.
شعره: لقد جمع درر نظمه ونثره ودوَّنه ابن أخيه الأستاذ مصطفى الدباغ الأديب المعروف، وأصدر مما جمعه ديوان (الطليعة) و(حديث الصومعة)، ولديه ثروة أدبية تنتظر النشر.
كان رحمه الله شاعراً وطنيًّا حرًّا جريئاً، يعبر عن آمال الشعب وآلامه ونوازعه، ويصور بؤسه وفقره ومصائبه.
وكان موزَّع الحس، مبعثر التفكير، مضطرب العقل في باطنه وظاهره، في نفسه سأم وفي جسمه ألم، وقد وصفه الأستاذ محمود تيمور المصري فقال: «على جبهته العريضة تتوضح سمات من الألمعية وتوقد الذهن، ومن هذه الطلعة الزاخرة بألوان التعابير ينبعث نور يشعرك بأنك أمام رجل فذ وشخصية عامرة، وما أسرع أن يفيض عليك من نبعه المتدفق إيناساً وإمتاعاً، فيسترسل في حديثه وأنت مصغ إليه ترقب محياه النبيل الذي أسبغت عليه الشيخوخة روعة ومهابة، وكان الأستاذ محمود تيمور في عداد أعلام مصر الذين صاحبوه وترددوا عليه في أخريات أيامه ورأوا فيه واعظاً على غرار حكماء العرب السابقين الذين كانت تعقد حواليهم حلقات الدرس». وكان زواره يقصدون بيته الواقع في طريق «خان جعفر» فيجدونفيه شيخاً وقوراً قابعاً بعزلته يقضي أوقاته بين الذكريات العذاب.
أما الشاعر العبقري المرحوم خليل مطران فقد وصف عزلة الشاعر الدباغ وانطواءه على نفسه بأنها زادت أريج نبوغه عبقاً، وأنه لم يبق في الأقطار العربية من لم يردد اسم الشيخ إبراهيم الدباغ ولم يرو من روائع شعره أو طرفه من النثر شائقة أو لطيفة من لطائفه الأدبية تنهز لها النفوس، ومن شعره الوطني قصيدة بعنوان «صوت فلسطين» وهي تعبر عن آلامه وما أحاق بوطنه من فواجع وكوارث، منها قوله:
في عقر داركم هنتم فهان بكم | سيف تلقدتموه غير مشهور |
حتَّام يخلينا برق السياسة مشـ | ـفوعاً برعد وغيث غير ممطور |
وفيم يخدعنا مكر يكذبه | ما يشهد العدل من إفك ومن زور |
هذي فلسطين بعد الفاتحين غدت | خرافة أو مراحاً للأساطير |
كم عذبوها فلم تعبأ وما كفرت | بنعمة وهي دين غير مكفور |
كان رحمه الله رجل إصلاح يتحدث عن أمراء ووزراء ودول وزعماء وشعوب وقادة فكر ورسل إصلاح وطلائع نهضة، ويتغلغل بتفكيره في صميم الدنيا، وهومن الشعراء الذين اشتركوا في النهضة الأدبية، وكانت قصائده وأحاديثه تنشر في مجلة الزهور ويكتب بتواقيع مستعارة، ويحاول الأدباء معرفة شخصه المتكتم عبثاً، وقد ظل مغموراً إلى حين، بينما صعد زملاؤه وأصفياؤه سلم المجد وطبقت شهرتهمالآفاق.
وهذه قصيدته بعنوان «فلسطين الدامية» تدل على ما كان يختلج في صدره من مآسٍ، وقد غلبت عليه نزعة القول في الوطنية والاجتماع وتسجيل الحوادث الكبرى واستخراج أبلغ ما يدعو فيها إلى العظة والعبرة، نقتطف منها قوله:
يصول فيها العدا في جحفلٍ لجب | ولا يصدُّ بغير الجحفل اللجب |
أين الفتى العربي المستعان به | يوم الكريهة هل ضاع الفتى العربي؟ |
إني أرى حولها برقاً وجلجلة | وقد خلا رعدها من هاطل السحب |
إني أرى الفلك الدوار ينذرهم | بعاجل من خراب الدار مقترب |
وقفت بالدار أبكيها وترمقني | عيونها بلحاظ اللائم العتب |
بكيتها روضة جفَّت أزاهرها | وكرمة جرَّدت من رتبة العنب |
أبكي لها وأواسيها فتجرحني | جراحها وضمادي في يد الحقب |
يا دار حزني وآلامي ومنتجعي | لا دار أنسي ولا كأسي ولا طربي |
تطيب ذكراك في سمعي يرتلها | قلبي فيشقى بها حظي ولم تطب |
تحت الرغام أباة الضيم من بطل | حرٍّ وشيخ وطفل مثخن وصبي |
وا رحمتا لهم في الردم غالهم | على الطوى فقد أم برَّة وأب |
قومي وأهلي وما لاقوا ونجدتهم | تقيمني وعناد الدهر يقعدني |
وفاته: وفي أخيرات حياته خبت شعلة عينيه وانطفأ الضوء فيهما، وظلت شعلة فكره متقدة فياضة، واستمر في إنتاجه الأدبي حتى الثلث الأول من هذا القرن، وفي عام 1931م توفي إلى رحمة الله ربه ودفن في القاهرة.
* * *