جاري التحميل

إبراهيم طوقان

الأعلام

إبراهيم طوقان([1])

فقيد العروبة شاعر فلسطين الخالد المرحوم إبراهيم طوقان

إن حياة ذوي العقيدة الوطنية القومية كنز لا يفنى، والأحداث هي التي تظهر أفذاذ الرجال، فالإنسان لا يصل في دنياه إلى المكانة الاجتماعية السامية بلا أثريخلده، أو مناقب حميدة تذكر في حياته ومماته، إن تكريم النوابغ أمر واجب وفاء لهم، لما في تخليدهم من حسن الأثر، وقد أخذت على عاتقي أن لا أعنى بترجمة أحد من الموتى أو الأحياء إلا إذا كان في ترجمته عبرة تجلت فيها عناصر النبل والوطنيةالمثالية.

وإني أقدم للتاريخ شاعراً فذًّا سيبقى رمزاً للعروبة في عقيدته القومية الصادقة وجرأته النادرة، ذلك هو الشاعر الخالد الفقيد المرحوم إبراهيم طوقان، الذي عصفت المنية بحياته وهو في ريعان شبابه.

أصله ونشأته: ولد المرحوم إبراهيم بن المرحوم عبد الفتاح طوقان في مدينة نابلس سنة 1905م، وأسرة طوقان نابلسية الأصل، عريقة في الحسب والنسب، اشتهرت بما أنجبت من رجال كان لهم القدح المعلى في خدمة البلاد، نشأ بكنف والده في بيئة فاضلة مثقفة، تلقى دراسته الابتدائية في المدرسة الرشادية في نابلس، ويعود الفضل الأكبر في تضلعه باللغة العربية إلى أساتذته النابلسيين الذين تخرجوا من الأزهر، وبعد أربع سنوات انتقل إلى مدرسة المطران وكان في الرابعة عشرة من عمره رحمه الله، ثم انتقل في سنة 1923م إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، ورأى فيها ما يطلق حريته وشاعريته فجادت قريحته، وفي ذلك يقول:

أول عهدي بفنون الهوى

بيروت، أنعم بالهوى الأول

وفي سنة 1934م أصابه مرض فترك الجامعة وعاد إلى نابلس، فدخل المستشفى ولقي من عناية الراهبات بخدمة المرضى الشيء الكثير، فتأثرت عواطفه، فنظم قصيدته المشهورة (ملائكة الرحمة)، وقد أبدع بوصفهن فقال:

بيض الحمائم حسبهنه

إني أردد سجعنه

رمز السلامة والودا

عة منذ بدء الخلق هنه

في كل روض فوق دا

نية القطوف لهن أنه

فإذا صلاهن الهجير

هببن نحو غديرهنه

إلى أن يقول:

المحسنات إلى المريـ

ـض غدون أشباهاً لهنه

مر الدوا في فيك حلـ

ـو من عذوبة نطقهنه

وفي سنة 1929م نال الشهادة الجامعية بتفوق، وذكرت شقيقته الآنسة فدوى في كتابها (أخي إبراهيم) أنه من المنصة التي منح عليها (البكالوريا) مشى إبراهيم إلى سرير المستشفى، وكان يشكو ألماً في معدته، وكثيراً ما أقعده ذلك عن مواصلة الدراسة وعن الاستقالة من الوظائف التي تقلب فيها.

وقد علم في كلية النجاح في نابلس سنة واحدة، فحبب إلى طلابه الأدب والشعر الوصفي وغرس فيهم الروح الوطنية، وهكذا افتقد الوطن العربي هذا الشاعر الملهم في ظرف كان في أشد الحاجة إلى شاعريته وقيادته الوطنية وثورته الروحية، ولعمري فالخسارة فادحة، فقد مات إبراهيم طوقان وضاعت فلسطين وخسر الأدب والوطن العربي بفقده خسارة لا تعوض، ومن هو ذلك الشاعر الذي يستطيع أن يعبر بشعوره الصادق ويراعه الصارم كما عبر طوقان بشعره وروحه عن الحقائق؟!

زواج الشاعر: وفي سنة 1973م اقترن الشاعر، فكان سعيداً بحياته العائلية، وأنجب ولدين (جعفر وعريب)، واشتغل بعدها مراقباً عامًّا للقسم العربي في إذاعة القدس، ثم أقيل من عمله سنة 1940م بسبب الهجمات التي شنت عليه من اليهود والحكومة؛ لأن أحاديثه كانت تشكل خطراً وتهلب النفوس حمية وحماساً.

شعره: كان رحمه الله يختار القوافي الرنانة والوزن المؤثر، وكانت ثروته الأدبية من ذلك الطراز الرفيع الذي أكسبه إياه إدمانه قراءة عيون كتب الأدب، ومن الأسباب التي أعانته على النظم حفظه للشعر المنتخب واحتفاله الكبير بالقرآن الكريم، فجعل منه شاعراً مطبوعاً انقادت لبلاغته القوافي.

وأبرز شيء في شعره الخالد ما نظمه في مضمار الوطنية والغزل، وقد تنبأ رحمه الله بكارثة فلسطين، فأيقظ أبناء وطنه من غفلتهم وما يضمر لهم عدو البلاد من أخطار وعواقب، فقال في قصيدة نظمها في عام 1935م:

أمامك أيها العربي يوم

تشيب لهوله سود النواصي

مصيرك بات يلمسه الأداني

وصار حديثه بين الأقاصي

لنا خصمان ذو حول وطول

وآخر ذو احتيال واقتناص

تواصوا بينهم فأتى وبالا

وإذلالاً لنا هذا التواصي

مناهج للإبادة واضحات

وبالحسنى تنفذ والرصاص

وقد حلت كارثة فلسطين سنة 1948م، وهذا ما يدل على مدى صدق إحساسه وما توقعه لبلاده وما أنذر به قومه، وأرسل بصره إلى العرب فتألم من جمودهم وتخاذلهم فقال:

تمكن الذل من قومي فلا عجب

ألا يبالوا بتقريع وتأنيب

ما أشرف العذر لو أن الوغى نثرت

أشلاءهم بين مطعون ومضروب

لكن دهتهم أساليب العداء وهم

ساهون لا هون عن تلك الأساليب

كأنهم لم يشيد مجد أولهم

على السيوف وأطراف الأنابيب

ولما وقعت ثورة عام 1929م وصدر حكم الإعدام على ثلاثة شهداء نظم قصيدة (الثلاثاء الحمراء) قال فيها:

لما تعرض نجمك المنحوس

وترنحت بعرى الحبال رؤوس

ناح الأذان وأعول الناقوس

فالليل أكدر والنهار عبوس

طفقت تثور عواصف وعواطف

والموت حيناً طائف أو خاطف

والمعول الأبدي يمعن في الثرى

ليردهم في قلبه المتحجر

وفي الفترة الواقعة بين سنة 1926 ـ 1927م كانت أراضي العرب تباع إلى اليهود، فوجه الشاعر إلى ذوي النفوس المريضة سخطه وغضبه يوبخهم على تفريطهم في بيع أراضي وطنهم طمعاً في الغرض الأدنى فقال:

باعوا التراب إلى أعدائهم طمعا

بالمال لكنما أوطانهم باعوا

قد يعذرون لو أن الجوع أرغمهم

والله ما عطشوا يوماً ولا جاعوا

يا بائع الأرض لم تحفل بعاقبة

ولا تعلمت أن الخصم خداع

لقد جنيت على الأحفاد وا لهفي

وهم عبيد وخدام وأتباع

وكانت عصبة مجرمة من السماسرة تخون الأمة والوطن وتبذل الجهد لتسهيل بيع الأراضي وانتقالها لليهود، فقال عنها:

أما سماسرة البلاد فعصبة

عار على أهل البلاد بقاؤها

إبليس أعلن صاغراً إفلاسه

لما تحقق عنده إغراؤها

ومن نظمه البديع أنه رثى الملك فيصل بقصيدة رائعة مطلعها:

شيعي الليل وقومي استقبلي

طلعة الفجر وراء الكرمل

واخشعي يوشك أن يغشى الحمى

يا فلسطين سناً من فيصل

شعره الغزلي: كان رحمه الله يهوى الفن والطرب وتؤثر الأنغام على حواسه، وينقاد قلبه للجمال فتجود قريحته بأروع الغزل، ومن قوله في الممثلة المصرية فاطمة رشدي:

بين ابتسامتها وزأرة صدرها

جند من الأفراح والأحزان

وانظر إلى قصيدته «حيرة»، فهي تدل على حسن تخير الألفاظ حيث قال:

ما كنت أرغب أن أسمى قاسيا

فأنفر الأحلام من عينيها

والشوق يدفعني إلى إيقاظها

ويدي تحاذر أن تمد إليها

أدنو بلهفة عاشق لم يبق من

صبر لدي وقد حنوت عليها

فيصدني أدبي وأبعد هيبة

وأود لو أجثو على قدميها

والنفس بين تهيب مما ترى

وتلهب، فاحترت في أمريها

ولعل أشواقي بلغن بي المدى

فوقعت، لا أصحو على شفتيها

وإن قصيدة (يا تين يا توت يا رمان يا عنب)، تلك القصيدة الرائعة التي تناقلتها معظم الصحف وأذاعتها أكثر الإذاعات، وغناها أشهر المطربين، تدل على اتساع أفق خياله في نظم الغزل، فالحب والجمال يوقظان حس الشاعر الفنان المرهف، ولهذه القصيدة مناسبة واقعية، فقد شاهد في حيفا آنسة شامية من (آل تين) تسير وسرب من الفتيات، فناداها: يا تين يا تين فلم تبال، فزاد بقوله: يا تين يا توت يا رمان يا عنب فلم تنتبه له، فذهب يشكو حاله إلى أصحابه، فقالوا: إن هذا مطلع قصيدة فأكملها، فقال في عنوانها حدائق الشام:

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

يا در يا ماس يا ياقوت يا ذهب

الله الله ما هذا الدلال وما

هذا الصدود وما للقلب يضطرب

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

الشمس ما الشمس إن الشمس تنكسف

البدر ما البدر إن البدر ينخسف

الدمع ما الدمع إن الدمع ينذرف

يا ربة الحسن هل وصل وأنصرف

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

يا تين يا ليت سرح التين يجمعنا

يا توت يا ليت ظل التوت مضجعنا

وأنت ليتك يا رمان ترضعنا

والكرم يا ليت بنت الكرم تصرعنا

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

يا جارة الكرم يا قمرية الوادي

يا غادة لا عداها ريِّق الغادي

لئن ظفرت بقرب بعد إبعاد

يوماً فإني من الزلفى بميعادي

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

يا نفحة الآس يا ورد البساتين

ويا شذا نرجس غض ونسرين

ويا هزاراً شدا بين الأفانين

أراحل أنت أم باق إلى حين

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

يا كوكب الحسن يزهو في العشيات

ويا ربيبة أتراب السماوات

يا مطلع الفجر وضاح الثنيات

طوفي علينا بأكواب الحميات

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

باكرت يا تين نحو التين أجنيه

وأذرف الدمع من عيني وأسقيه

أسندت رأسي إلى غصن أناجيه

فردد الطير نوحي من أعاليه

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

هل نظرة لعميد القلب مفتون

هل نهلة من لماك العذب ترويني

أواه أبكي على من ليس يبكيني

يا من رأى نرجساً يبكي على تين

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

حدائق الشام عين الله ترعاك

ولا سرت نسمة إلا برياك

يا مرتع العرب والأتراك نعماك

تفتر عن بهجة الدنيا ثناياك

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

مرض الشاعر: وعاد المرض فنغص حياة الشاعر واضطره لدخول المستشفى وإجراء عملية جراحية في معدته، وقد نجا بأعجوبة، وقال طبيبه آنذاك: لا شأن لفن الطب في هذه العملية، وخرج الشاعر من المستشفى وهو يقول:

إليك توجهت يا خالقي

بشكر على نعمة العافية

إذا هي ولت فمن قادر

سواك على ردها ثانية

وللطبيب يد في الشفا

ء ولكنها يدك الشافية

تباركت أنت معيد الحياة

متى شئت في الأعظم البالية

فمن هذه الأبيات تلمس إيمان إبراهيم الصادق بالله.

سفره إلى بغداد: سافر الشاعر الفقيد إلى بغداد بعد أن سخط على حجز حريته في بلده وعلم في دار المعلمين الريفية، أتعبت الشاعر الأمراض، فغادر بغداد إلى المستشفى الفرنسي في القدس، وما هي إلا أيام معدودات حتى وافته المنية وهو في أحسن حال يرتل آيات كريمة من سورة (التوبة)، وذلك مساء الجمعة الثاني من شهر مايس سنة 1941م، وأسند رأسه إلى صدر أمه وقد نزف دمه وخارت قواه، وهناك أسلم روحه الطاهرة واستراح الراحة الأبدية.

ومن الغرابة أن الشاعر الفقيد تنبأ بقصر أجله بوحي إحساسه حين أفرغ شاعريته المطبوعة في قصيدته «حسرة الأمل» التي يقول فيها:

يلذ لي يا عين أن تسهدي

وتشتري الصفو بطيب الكرى

لي رقدة طويلة في غد

لله ما أعمقها في الثرى

ألم تري طير الصبا في يدي

أخشى من الغفلة أن ينفرا

طال جناحاه وقد يهتدي

إلى أعالي دوحه مبكرا

أرى الثلاثين ستعدو به

مغيرة أفراسها في اغتراب

وبعد عشر يلتوي عوده

وينضب الزيت ويخبو الشباب

ولقد قضى إبراهيم حقًّا قبل انقضاء عشرة أعوام على هذه القصيدة، فوافاه الأجل المحتوم وهو في السابعة والثلاثين من عمره بعد أن أدى رسالته كشاعر أمة على أتم وجه.

وقد أفاض الشعراء برثائه، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/ 374 ـ 377).

الأعلام