إبراهيم العظم
إبراهيم العظم([1])
الشاعر المطبوع والفنان الملهم الأستاذ إبراهيم العظم
(1903م ـ 1957م)
وهذا أحد أعلام أسرة العظم الشهيرة بما أنجبت من أفذاذ الرجال، فقد ورث الأدب والشعر والسجايا الفاضلة عن جده الشاعر المرحوم أسعد العظم الحموي، فكان بما تحلى به من صفات عبقة هزار الأنس في مجالس الأدب والطرب، لا عيب فيه سوى الكمال والتواضع والزهد في الظهور، فمن الشعراء من استثمر شعره بالمدح والقدح، فقال الله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، إنما استثنى منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً، وصاحب هذه الترجمة من الشعراء القلائل الذين شملهم هذا الاستثناء الإلهي فكانوا أسوة مثالية بعزة نفسه وطيب عنصره.
نشأته ودراسته: هو الأستاذ إبراهيم بن طاهر بن أحمد بن أسعد العظم، ولد في مدينة حماة سنة 1903م ودرس في تجهيزها، ثم انتسب إلى معهد الحقوق ونال الشهادة في عام 1930م وكان أثناء دراسته في المدارس الثانوية موفراً على دراسة العلوم الشرعية والعربية على الأستاذ أسعد اليوسفي المعري المتوطن حماة اليوم، ثم على العلامة الأصولي الفقيه الحجة المرحوم الشيخ علي الدلال، ثم على الشيخ أحمد الدلال، ثم على الشيخ أحمد المرادي أمين الفتوى في حماة، ثم على المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني، وقد لازمه طوال المدة التي انتسب فيها إلى معهد الحقوق، فانتهل من مورده العذب واستفاد وأفاد، وكان حائزاً على رضا المحدث الأكبر وإعجابه بذكائه وأخلاقه الحميدة، وكان يقول له: (نحن نحبكم أكثر من والديكم).
شعره: أولع صاحب هذه الترجمة بالشعر فحفظ ديوان المتنبي بتمامه بالاشتراك مع صديقه الأديب السيد قدري الكيلاني، وديوان الحماسة جمع أبي تمام بتمامه، وكثيراً من شعر البحتري والأندلسيين، والقرآن الكريم مع إتقان تجويده على القراء المشهورين في حماة، له في الشعر الغزلي جولات رائعة، وهو مع كثرة نظمه في الغزل زاهد في شعره لم يطلع عليه إلا القليل من أصدقائه، وزهده فيه هو الداعي إلى عدم نشره، حتى إنه قال قصيدة في هذا المعنى:
ورأيت كلا منشراً ديوانه | وبقيت منطوياً على ديواني |
وهي أبيات كتبها منه الشاعر المطبوع أحمد صافي النجفي، منها قوله:
ما ساءني كابن القريض ونفسه | تسمو فينزلها بدار هوان |
والشعر هزاز النفوس إلى العلى | فعلام يوضع في أذل مكان |
والشعر من وحي السماء إلى ابنها | فله الخلود وكل شيء فان |
أما رأس ماله في الشعر فكله من شعر المتقدمين، لا يستسيغ من الشعر في هذا العصر إلا ما كان من شعر شوقي وحافظ إبراهيم وبدوي الجبل، ومن أبرز مزاياه حبه للخير والمعروف، يدل على ذلك قوله:
دع ما يشينك في الحياة ولا تكن | مستشرباً غير المعالي مشرباً |
وانظر إلى هذي النجوم محاولا | بالراحتين تناولاً كي تقربا |
لا تدخر إلا الثناء فإنه | عند الورود معينه لن ينضبا |
مال الضنين عليه أدنى شاهد | عند الملم فلا تلمه إن أبى |
وأبيك ما منيت نفسي بالغنى | يوماً ولكني فعلت الطيبا |
يهوى في الحياة مجلسين: مجلس علم وأدب، ومجلس فن وطرب، وما سواهما فمن سفاسف الأمور.
وهذه طائفة من نظم هذا الشاعر المبدع، وهي تدل على روحيته الهامة وبديع أسلوبه ومتانة بلاغته، وهو القائل:
وعيت من الشعر البديع روائعا | تقطع أعناق الطبائع دونها |
وحاولت أن أجري بحلبة مثلها | خيول قريض فامتطيت متونها |
نفرن ثقالاً ثم عدن كأنما | غبار القوافي كان يعشي عيونها |
فأبت وحظي أنني من رواته | وآثرت من نفسي الطموح سكونها |
وتتجلى روعة غزله فيما يكنه قلبه الكليم فيقول:
علمونا الهوى وضنوا علينا | ليت شعري متى يجود الضنين |
كل يوم يبدو لنا في هواهم | أمل ضائع وقلب خؤون |
وقد يكون للعذال شأن في الهوى، ولكن شاعرنا شديد الحذر منهم، فكم أبكى وأشجى بسحر حديثه ورقة ألطافه قلب الحبيب، وشفى غليله بلقائه، وترك عذاله صرعى الحيرة والكمد، واسمع بدائع وصفه في ذلك:
أنشدته ذوب روحي فيه فابتدرت | سوابق الدمع من عينيه تهتانا |
وقال لي وبه من عبرتي أسف | أوريت فانعم بحبي وحدك الآنا |
ومن سجايا هذا الشاعر الملهم أن عزة نفسه وقوة إرادته تتحكم بعواطفه، وهو من مذهب القارض القائل:
لا تنكروا خفقان قلـ | ـبي والحبيب لدي حاضر |
فإذا كتم شعوره وسعد بلقاء الحبيب فضح خفقان قلبه الموقف، وفي ذلك يقول:
قالت لواحظها لما رأت شغفي | وصاحب الوجد باد منه خافية |
ما بال قلبك لا يهدأ فقلت لها | يا هذه أنت أدرى بالذي فيه |
فنه: يعتبر الشاعر الفنان بقلبه الخفاق وحسه المرهف أرق شعوراً وأعذب مشرباً وتفهماً لروائع الفن أكثر من غيره من الشعراء العاديين، وصاحب هذه الترجمة ذو خبرة وذوق في كل فن، وهذا موشح من نظمه وألحانه من مقام الراست، وزنه مربع:
يا نجي الروح يا نور عيوني | يا هزار الروض يا روح النسيم |
كم على عين تراك من عيون | أنت من كل فؤاد بالصميم |
إن تكن عندي فمن عيني السواد | لا أغاب الله عن عيني سناها |
أو تغب عني فمثواك الفؤاد | أمتع الله فؤادي بمناها |
أنت في الحالين يا كل المراد | غاية نفسي إليها منتهاها |
يا وصولي لا تطل حبل البعاد | شقوتي فيك لقد طال مداها |
تبعث الحس بلألاء العيون | من رواء الحس والصوت الرخيم |
ما على المغرم لوم في الجنون | تيه إبداعك مهواة الحليم |
وهذا موشح بديع من نظمه وألحانه من مقام الحجاز، وزنه سماعي دارج:
يا من به الوله | والحسن كله |
كل يراك له | وأنت في شغل |
بالغت باللطف | وجدت بالعطف |
جللت عن وصف | بأكمل الحلل |
الأنس في لقياك | والروح في رؤياك |
والبدر من علياك | في جمرة الخجل |
أفديك من أهيف | كم في الهوى أدنف |
ولحظه المرهف | يسطو على الأجل |
في عطفة الخد | منه جنى الورد |
يا لذة الورد | في النهل والعلل |
القبلة الحيرى | من شوقها سكرى |
أنأى من الشعرى | لتبتغي القبل |
يختلف هذا الشاعر المترجم بمواهبه عن غيره في نواحي اختصاصه، فهو حجة وموسوعة قانونية، وكرة لامعة في شتى العلوم، تنقل في مناصب القضاء فكان مثال الحاكم النزيه العادل.
وفاته: فجع العلم والأدب بفقد الشاعر المطبوع، والناثر البليغ، والمتفنن الملهم، والعالم الديني والقانوني، القاضي الجريء، والعصامي النزيه، المرحوم إبراهيم بن طاهر بن أحمد بن أسعد العظم الحموي، فقد استأثرت به المنية في منتصف ليلة الثلاثاء 20 ربيع الأول سنة 1377ﻫ ـ 15 تشرين الأول 1957م إثر نوبة قلبية فجائية، وقد نقل جثمانه في الصباح إلى حماة، وألحد الثرى في مدفن أسرته.
* * *