أحمد الزين
أحمد الزين([1])
(1899 ـ 1947م)
لقد قسا عليه الدهر فحرمه نعمة النظر، فكان مكفوف البصر، صهرت الآلام عبقريته، فكان أحد أعلام الشعر في هذا العصر، لقد تعذر علينا معرفة تاريخ ولادته وأصل أسرتـه، واستقصينا أخبار هـذا الشاعـر الكبير حتى تجمعت لدينا بعض المعلومات عن آثاره ومآثره، وقد توفي في العقد الخامس من عمره، فيكون من مواليد عام 1899م على وجه التقدير.
نشأته: تلقى علومه في الأزهر وحصل على شهادته العالية 1925م، وكان وهو طالب يتردد على الجامعة المصرية القديمة لسماع محاضراتها الأدبية، وفي سنة 1926م عين مصححاً بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، وظل بها حتى نقل إلى المراقبة العامة للثقافة بوزارة المعارف.
مراحل حياته: كان المترجم العبقري موظفاً باليومية في دار الكتب المصرية، لا تحسب في أجره الضئيل أيام الإثنين العطلة الأسبوعية في دار الكتب والإجازات والأعياد، وظل مرتبه اليومي يزداد قرشاً طيلة مدة خدمته حتى وصل إلى ثلاثة وأربعين قرشاً، يعطي منها ثمانية قروش لكاتبه الذي كان يلازمه للاستعانة به في عمله بحكم حالته، وجاء أخيراً ملاك العمال، فقفزت به أحكامه إلى الدرجة السادسة، وقد عدَّ من العمال لأنه يعمل باليومية مثلهم.
عصاميته: عاش هذا الشاعر العصامي الجبار صابراً على هذا الحال متجملاً بالتعفف، منطوياً على عزة نفسه، يروح ويغدو وفي وجهه ماء الكرامة والكبرياء، وكان إلى عظم منزلته الأدبية كبير النفس، فلم يكن ليصغرها بطلب شيء لذاته، وربما رجا لغيره، ومن هنا ظل شعره بعيداً عن أن يكون سبباً من أسباب الحاجات، وظل مع ذلك يصدح على أيكة الشعر ويخرج الأدب المصفى في بلد يحترق فيه كرام الأدباء وينال حظوه أولياؤه الهتافون ومن إليهم من سائر الوصوليين حتى داهمه المرض، وقد طال به أمده، واختلف الأطباء في تعليل مرضه حتى نفد القليل الذي ادخره من أجرة تصحيح الكتب التي اشترك فيها خارج عمله الحكومي، ونفدت أثمان حلي الزوجة، ثم قضى المترجم وخلف ثروة أدبية لا نفع فيها للأيم واليتيم الذي تركه في نحو العاشرة من عمره.
آثاره الأدبية: لقد كان المترجم شاعراً عبقريًّا من شعراء العربية المبرزين في هذا العصر، قرأ له الناس قصائد ممتعة في الأهرام والرسالة والثقافة، وقد طبع في مستهل حياته الأدبية ديواناً سماه (قلائد الحكمة) أكثره أراجيز تدل على بدء معالجته للقريض كما يدل ذلك على تخميسه لقصيدة امرئ القيس (قفا نبك)، وكان قد جمع شـعره في ديوان مخطوط وأزمـع أن يطبعه في الفرصة المواتيـة، ولكن شغلته متاعب العيش والمرض، ثم عاجلته المنية دون أن يحقق أمنيته.
كان يستمد شعره من نبع فياض هو نفسه الشاعرة، وكان يجل فنه ويقدسه، فلم يقصد به إلى منفعة ولم يتوسل به إلى كسب، وكان يقول الشعر يصور به نفسه ويعبر عن مشاعره، فقال كثيراً في الغزل العاطفي الرقيق، ولم يكن من المقلدين في الشعر والمزيفين للشعور، بل كان صادق الفن، يصدر عن ذات نفسه ويعبر عن خالص وجدانه، وكان مرهف الحس، دقيق الشعور، واضح المعاني، يؤدي كل ذلك في ديباجة مشرقة وألفاظ عذبة، لا تجد له لفظاً مستكرهاً ومعنى ملتوياً، وكان يعنى بالتوقيع الموسيقي في شعره، وأطلق عليه لقب (الراوية) لكثرة ما كان يحفظه ويرويه من أشعار العرب وأخبارهم.
كان له جهد جليل في تحقيق الآثار الأدبية وتصحيحها وإخراجها، وكان يعمل في ذلك بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، وقد أخرج ستة أجزاء من (نهاية الأرب)، وأخرج الجزء الأول من أشعار الهذليين، وكان يعمل في الثاني، واشترك مع الأستاذ أحمد أمين في إخراج كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، ومعه ومع الأستاذ إبراهيم الأبياري في إخراج أربعة أجزاء من كتاب العقد الفريد، واشتركالثلاثة في إخراج ديوان حافظ بتكليف من وزارة المعارف، وأخرج ديوان إسماعيل صبري وقدمه بدراسة قيمة، ولعل آخر مطولاته القصيدة التي قالها في ذكر أحمد تيمور باشا سنة 1945م، ومطلعها:
يمضي بها جيل ويقبل جيل |
ومنها:
لا تبك من قد عاش عمراً واحداً | إن التراب على التراب مهيل |
هل عاش أو هل مات لا تسأل به | فمماته بحياته موصول |
ما زاد عن تعب الولاد لأمه | والناس رهط إلى الثرى محمول |
ومن البلية أن أكثر من نرى | في الناس ذاك العائش المنكول |
فاملأ موازين الزمان فلن ترى | في الناس ميزان الزمان يميل |
تقضي العصور على الرجال بحكمها | والباقيات الصالحات عدول |
تيمور إن نفقد حديثك بيننا | فصداه في أفق الزمان يجول |
مرضه ووفاته: لقد استأثرت به المنية بعد مرض طويل، وكانت وفاته يوم الأربعاء الخامس من شهر تشرين الثاني سنة 1947م.
* * *