أحمد العاصي
أحمد العاصي([1])
الشاعر أحمد العاصي
(1903 ـ 1930م)
مولده ونشأته:ولد الشاعر أحمد العاصي بـ(فار سكور) في صيف سنة 1903م، وكان أبوه من كبار التجار فيها، وماتت أمه ولم يتجاوز السادسة من عمره، عني والده بتثقيفه وألحقه بكلية الطب، وما زال يحصل دروسه حتى انتابته نوبة عصبية وهو في السنة الثالثة من دراسته، فقضى بلبنان ثلاثة أشهر عاد بعدها خفيفاً من بعض ما جثم على نفسه.
ثم عدل عن الاستمرار بدراسة الطب والتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، وقرأ تأملات (ديكارت) على الفيلسوف الفرنسي لالاند، وراقته الدراسات الفلسفية، لهذا جدَّ الشاعر في أن يعوض معايبه بالانطواء على نفسه، وفي سنة 1929م حصل على شهادة الليسانس وعين موظفاً بالجامعة المصرية.
كان المترجم مثال الشخصية المتناقضة في مرضه وحزنه وتفاؤله وتشاؤمه، وكان قميناً، خفيض الصوت لا يكاد يبين، وهو يصف نفسه ويقول:
ابن عشرين عذبته الليالي | وأطاحت بعزمه المشبوب |
لم يذق لذة الحياة ولكن | ذاق أنواع قاصمات الخطوب |
ساهم ساكن معنَّى مروع | في شباب مقنع بمشيب |
إن تحدثه قد يجيب بصمت | أو بهمس أو شارة أو دبيب |
مراحل يأسه: وزادت ظروفه العائلية من حدة نفوره من أبيه الذي تزوج من غير أمه بعد موتها، وهجر أخويه واعتزلهما وأقام بالقاهرة، وتملكته فكرة الانتحار فلم يجد عنها مصرفاً، حتى إنه كان يفكر ويمعن لا في العدول عن الانتحار، ولكن في اختيار أيسر السبل إليه وأخفها وطأة عليه، فقد وقف على جسر محمد علي ذات مساء ونظر إلى أمواج النيل وعزم على القذف بنفسه لولا أن حالت دون ذلك سيدة إفرنجية كانت تتمشى خلفه، فعدل، ولكنه آثر الموت عاجلاً أو آجلاً، فأوى إلى فراشه وبخع نفسه بمادة كاوية ظلت تحرق حجرة نومه من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة من اليوم التالي حيث اندلعت ألسنة الدخان من خلال النوافذ، ولم يكد المارة يقتحمون المنزل حتى رأوا هيكلاً بشريًّا صار هشيماً، وهكذا آثر الشاعر الموت على الحياة الباسمة.
شعره: كان شعره مرآة نفسه الجامحة، وقد صدَّر له ديوانه أمير الشعراء أحمد شوقي بأبيات منها:
هذا شباب السحر يلمح ماؤه | من جدول (العاصي) ومن ديوانه |
ومنها:
ويكاد يلمسك السرور يراعه | وترى يد الأحزان حول بيانه |
يشكو الزمان لنا ويا لك يافعاً | نامت بميعته هموم زمانه |
ولتعلمن إذا السنون تتابعت | أن التشكي كان قبل أوانه |
وهذا الشاكي الذي فارق الحياة غير آسف عليها ولم يبلغ السابعة والعشرين عاش نهباً للألم الدفين واليأس اللافح، وكانت أضالعه مرجلًا للصراع العاطفي العنيف، وأبواب ديوانه صورة من ذلك كله، فهو يشتمل على أبواب الأدب والنقمة والغزل والفخر والمدح، ومتفرقات من الشعر الذي قاله في أوقات متباينة، وختم ديوانه بمأساة هو بطلها وسماها (قصة الموت)، ودعا العاصي الناس أن يعودوا من حيث جاؤوا فيقول:
يا بني الأرض إن منها نشأتم | فارجعوا حيث كنتمُ في أمان |
ويمضي الشاعر بفلسفة الحياة وخداعها، وأن سر الحياة لن يدركه الإنسان إلا أن يترك هذا العالم فيقول:
نحن سر في الدهر والدهر سر | هو عنا مستَّر محجوب |
نحن في العيش كلنا ككرات | قذفتها كما تشاء الخطوب |
وصار عبداً للملذات، فإذا سألته كيف استعبدته اللذة أجاب:
ضقت بالهم فانتقمت لنفسي | بالملذات من همومي وبؤسي |
وهكذا قهره الدهر، فانتهت اللذة وانتقم لنفسه مما ترزح تحته من أرزاء، فوجد في النسيان ما يباعد بينه وبين مواقع الصراع، غير أنه ينصح بالزهد فيها وكسر شرة النفس، ويبذل هذه النصيحة لخبرته بالحياة، كان الشاعر المسكين يستشعر في نفسه بغضاً متبادلاً بينه وبين الناس، وكان يحب العزلة لاضطراب النفس وارتباك العقل، فكانت حياته كلها يأس وشقاء، وبؤس وهموم، وأنفاسه موزعة بين حسرة وزفرة ونقمة، والمجتمع الذي حوله مسؤول عما انتابه، فلو أنه لقي في صحراء العيش راحة للصداقة تروِّح عن نفسه؛ لفض همومه وسلك طريق المجد الذي طالما داعب طموحه، وهو الفيلسوف المفكر والشاعر المرهف، ولكنه يقول:
ضاعت سعادة نفسي وانبرى أملي | ونال ما بي من جسمي فأضناني |
إني ظمئت إلى خلٍّ ليؤنسني | فلم أجد مؤنساً ما بين خلاني |
فعمدت للهم عل الهم يؤنسني | إن كان في الهم أنس الواله العاني |
فلم يستجب له أحد وذهبت صرخته مشلولة الأصداء، لهذا كله حلت له العزلة بدار (لا يزور ولا يزار).
وشعره الغزلي يفضي إلى تيارين: أحدهما قبل العاصفة العاطفية التي جمحت به، والآخر وهو يتخبط في دياجير تلك العاصفة، وعلى كل حال فإنه عشق كسائر الناس وقد فشل في حبه.
ومن مزاياه أنه كان جريئاً، ثبت الجنان، نبيلاً، يؤذيه أن يرى ما بين بني قومه من شقاق، فيعتب عليهم في رفق.
هذا هو الشاعر العاصي الذي جاءت ألحانه صادقة في التعبير عن وجدانه، لم يتكلف الشعر ولم يكن إلا كالسيل يندفع نحو غاية بعنف، ومهما يكن من شيء، فشاعريته لها منزلتها التي تكفل لها الخلود.
* * *