جاري التحميل

أحمد عباس الأزهري

الأعلام

أحمد عباس الأزهري([1])

المربي الكبير والعصامي الفذ العلامة أحمد عباس الأزهري

هو من علماء الدهر النادرين، بل كان أمة في شخص، رحمه الله.

أسس المدرسة العثمانية والكلية الإسلامية في مدينة بيروت، فانتشر تلاميذه في كل البلاد العربية، وكانوا كواكب وضاءة ونباريس ساطعة أنارت محجة الطريق للذين ساروا على الهدى.

إن العمل الذي قام به هذا العلامة الفرد عجزت عن القيام به جماعات وجمعيات، وأخوف ما كان يخافه في حياته أن يموت مشروعه بموته، وهكذا كان، ولكن إذا ذهبت الكلية الإسلامية وبني على أطلالها مساكن ومبان بعد موت مؤسسها فإن الروح التي تعهدتها والمبدأ الذي وضعت أساسه ما زال في نمو وازدهار.

لم نعرف تاريخ ولادة الأستاذ المرحوم ولا وفاته بالتدقيق، وجل ما نعرفه بأنه جاور ربه عام 1931م وعاش نحو 75 عاماً، فتكون ولادته عام 1856م، ونعرف أن والده جاء مع الجيش المصري الذي احتل سوريا، وبقي فيها، وأنه كان فقيراً، ولكن المترجم رحمه الله كان على جانب عظيم من الذكاء والهمة، فأخذ ينهض بالحياة تدريجاً، ثم سافر إلى القطر المصري ودرس في الأزهر، فكان من نوابغ العلماء، ومن أقران المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وكان مبتسراً في محيطه، فلم ينل مكانته ولم ينزل منزلته.

وعاد بعد دراسته إلى بيروت فافتتح مكتبة، وشرح بعض الكتب الأدبية المهمة، وطبعها لحساب مكتبته، منها رسائل المعري، وديوان أبي تمام، ومنها كثير لم يساعده الوقت على طبعه.

وكانت شمس العلم في بزوغها، فاقترح عليه وجهاء بيروت أن يؤسس مدرسة يجاري بها مدارس الإرساليات الأجنبية التي استفحل أمرها وخاف القوم من توسعها، وقدموا إليه أولادهم، فاضطر للنزول عند طلبهم آخذاً على عاتقه ما عجز عنه غيره، وها أن جمعية كبيرة غنية في بيروت ـ كان رحمه الله من مؤسيسها ـ تنوء بما كان قد أخذه على عاتقه بلا مال ولا نشب.

أسس المدرسة العثمانية وعهد إلى جهابذة المعلمين بأمرها، كما شكل لجنة من علية القوم لمناظرة هذه المدرسة والتشاور معهم في كل ما يؤول إلى نجاحها، فرأت إقبالًا عظيماً، واقترح عليه القوم إنشاء فرع داخلي، فلبى الطلب وامتلأت طلاباً حتى من الهند، وسار لمشروعه هذا قاطعاً أبعد المسافات مع شيخوخته حتى أقعده المرض السكري.

وجاءت الحرب الأولى وجاء زمن الإرهاب والبطش، فادعى المرجفون زوراً بأن الشيخ رحمه الله يعمل في مدرسته لمصلحة أجنبية، وأن معظم الذين أعدموا هم من تلامذته الذين رباهم على كره الدولة التركية، وكانت هذه التهمة كافية للقضاء على مشروعه ونفيه من بيروت إلى الأستانة وتعيينه هناك في إحدى المدراس الابتدائية براتب عشر ليرات «ورقا».

وكان رحمه الله مضطراً لإعاشة عائلته، وله ولد في سويسرا يدرس الصيدلة، وهو ينفق عليه، فكان يقتصد من إعاشته ليرسل إلى عائلته في بيروت وإلى ولده في سويسرا، واضطرته الحال إلى بيع شيء من خبزه كل يوم في السوق العامة على قارعة الطريق، فصدف أن رآه أحد مشايخ الأتراك وهو يبيع خبزاً ويرتدي لباسرجال الدين والعلم، فحركته العاطفة وتتبعه حتى عرف أمره، وأوصل خبره إلى المشيخة الإسلامية التي اعتذرت له وقدرته، وأنزلته منزلة رفيعة ضمنت له ما كفاه وعائلته وولده.

وانتهت الحرب الأولى، ورجع إلى بيروت فجدد نشاطه، وكان قبيل الحرب قد ابتاع أرضاً ليقيم عليها بناء للكلية الإسلامية، فبدأ عمله ببناية، وكان كل عام يبني قسماً أو قسمين حتى بلغت كليته درجة لا تقل عن أهم كليات بيروت.

وأقعده المرض فسلمها إلى المرحوم بشير القصار الذي اختلف مع أولاد المترجم بعد وفاته، وظنوا أنهم أكفياء لمتابعة المشروع، فقضوا عليه وحققوا مخاوف أبيهم رحمه الله.

عقيدته ومبدؤه: ما كان أحمد عباس من الجهلاء الحشويين، ولا البسطاء، بل كان رجل عقيدة ومبدأ، كان بعض الجهلاء المتعممين ينعون عليه عمله حسداً، وبلغه مرة ما كانوا يتقولون عليه فقال: إن هؤلاء فقراء مساكين يمدون أيديهم إلى الصدقات، وإن حالتهم تدل عليهم، فاللهم ارزقهم كما رزقتني، وأغنهم كما أغنيتني؛ لكيلا يحسدونني على ما آتيتني.

كان يسمع اللغو فلا يبالي، وحمد الله بأن حفظه من كيد كل عدو، فما استطاع أحد أن يؤذيه، بل كانت عداوة بعضهم واسطة للشهرة والفائدة.

 وكان من مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية، ثم استقال منها، وأراد البعض أن يحركوه ضدها فقال: إنني ما بنيت لأهدم.

كان يعتقد أن الحظ هو السعي، وأن الإنسان خلق ليسعى، وأن الذين لم يلهمهم الله السعي قد حرمهم نعمة الحظ، وقد قال تعالى: ﴿ ﭪ     ﴾.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/365 ـ 366).

الأعلام