أحمد عقيل
أحمد عقيل([1])
نابغة الفن الموسيقي المرحوم أحمد عقيل
أصله ونشأته: هو السيد أحمد بن الشيخ محمد العقيلي، وتمت هذه العائلة بنسبها إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد بحلب سنة 1813م، وعاش بكنف والده، وكان كفيف البصر يسكن في محلة العربان بزقاق عقيل، تلقى عليه الفن الموسيقي، ودرس على علماء عصره قواعد اللغة العربية من صرف ونحو وفقه، وبعد وفاة والده أصبح مشهوراً في الأوساط الفنية بحلب، فكان المنشد البارز في حلقات التكايا والأذكار، وهي كثيرة تبلغ زهاء أربعين تكية وزاوية تقام فيها الأذكار ليلاً ونهاراً، وكان مشايخ الطرق يتهادون الفقيد لاستغلال فنونه، ويتسابقون للاستئثار بمواهبه، واختلفوا، ثم اتفقوا فيما بينهم فتقاسموا ليالي الأذكار، فكان هذا الفنان الألمعي مشاعاً للجميع، ويتقاضى من أصحابها الرواتب لقاء قيامه برئاسة الإنشاد وقيادة الذاكرين.
سفره إلى استانبول: وتجلت مواهب المترجم الفنية، فذاع صيته واشتهر أمره في الأقطار العربية، وفي سنة 1310ﻫ سافر إلى الأستانة ونزل في تكية المرحوم أبي الهدى الصيادي الرفاعي، وصار منشد ذكره، وكان يطرب لصوته ولعاً بفنونه، يقضي فصل الصيف فيها ويعود في الشتاء إلى حلب، ويدر عليه هباته وجوائزه، ويستحصل له المرتبات الضخمة من خزانة الدولة العثمانية وغيرها، وقد تعرف على فناني الأتراك وأخذ من فنونهم ومزجها بألحانه العربية، وكان هذا الفنان فطناً يضرب على الوتر الحساس، فيختار أبدع أقوال الإمام الحاجري المشهور فينشدها، فيطرب الشيخ العظيم الصيادي رحمه الله لروعة إنشاده وأقواله، وأنشد له مرة بعض أبيات للحاجري، فشطرها الصيادي وأبدع في الوصف، فقال:
(بالله ضع قدميك فوق محاجري) | أو ذر في عيني بعض ثراكا |
أو لح بأستار الكرى لي مؤنساً | (فلقد قنعت من الوصال بذاكا) |
(وأطل محادثتي فإن مسامعي) | تلتذ إذ يسري بها معناكا |
روحي وحقك يا حبيبي لم تزل | (تهوى حديثك مثل ما تهواكا) |
وكذلك كان يهوى إنشاد القصائد الصوفية لابن الفارض:
عطفاً على رمقي وما أبقيت لي | من جسمي المضنى وقلبي المدنف |
فنه وصوته: يعتبر الفقيد المترجم من أعلام الفن في الشرق، وكان ذا صوت جميل ينشد في طبقة متوسطة ويجاوب الجواب، حافظاً الموشحات والأوزان القديمة التي خلفها السلف الصالح، فكان حجة لا يجارى فيها، لحن الكثير من الموشحات البديعة، ومـن ألحانـه موشـح من نغمة العجم وزنه مصمودي (يا سيد الكونين يا هادي)، وبدل موشح (عيد المواسم) إلى نغمة النهاوند.
اجتمع الفقيد بفناني مصر المشهورين المرحومين عبده الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ سلامة حجازي لما حضروا إلى حلب واشتغلوا بمسارحها، وكانوا معجبين بفنونه وسعة اطلاعه، وكان صديقاً وفيًّا للمرحوم أبي خليل القباني الفنان الدمشقي الأشهر، ويتبادلان الزيارات والضيافات، وكان إذا زار حمص بمناسبة التفرج على خميس المشايخ نزل ضيفاً عند المرحوم الحاج محمد الشاويش الفنان الحمصي المشهور.
ومن أبرز مزايا الفقيد أنه روى أكثر تراجم الموسيقيين وبراعتهم ونكتهم، وعـن طريقـة (البشنك) الإمـام الحلبي للفـن الموسيقي، وعن تلميذه (الوراق) وما كانا عليه من المهارة والحذاقة الفنية، وكانت ذاكرته تزخر بالمحفوظات الفنية الكثيرة، ويذكر بتواضع بأنه لم يدرك شأو أولئك الفنانين، وأنه حسنة من حسناتهم، وبعدوفاته تلألأ نجم العبقري الفنان الحلبي الخالد الذي اجتمع به وسمع عنه المجتمع السوري، ألا وهو المرحوم (عمر البطش) الذي كان خاتمة الموسيقيين رحمهم الله.
صاحب رقص السماح: يلقب صاحب هذه الترجمة بصاحب السماح، ذلك الفن الشرقي الخالد الذي كاد يتلاشى خلال الفترة الواقعة بين مخترع رقص السماح ـ وهو العالم الجليل عقيل المنبجي بن الشيخ شهاب الدين أحمد البطائحي الهكاري المتصل نسبه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، والمتوفى سنة 550ﻫ، والمدفون في بلدة منبج من أقضية حلب ـ وبين صاحب الترجمة، لولا أن عمل هذا الفنان العظيم على إعادة تنسيق أوزانه وضبط قواعده حسب مقتضيات عصره.
وقد أخذ المرحوم أبو خليل القباني الفنان الدمشقي الشهير بفن الموشحات والتمثيل بعض فصول رقص السماح على ضروب شتى من الإيقاع والألحان عن المترجم أحمد عقيل، وأخذت عنه بعض الفصول الموسيقية العربية وخاصة رقص السماح زوجة قنصل إيطاليا في عصره، وكانت معجبة به، حتى قالت: إن السيد أحمد عقيل عز نظيره في هذا الفن حتى في أوروبا، وكذلك أخذ بعض هذه الفصولالمرحوم عبده الحمولي أحد مشاهير الفن في مصر خلال مدة اشتغاله في حلب.
أوصافه: كان المترجم رحمه الله مربوع القامة، معتدل القوام، ضعيف البنية، أشقر اللون، يعتم بالعمامة البيضاء، يرتدي القنباز الحريري وفوقه جبة من الشال العجمي النفيس، ويتمنطق بشملة عجمية ثمنها أكثر من ثلاثين ليرة سورية ذهبية، ويصبغ لحيته بالحنة الحمراء لتنطبق على وجهه، سريع الكلام بلفظ فصيح، خفيف الروح، يطارح النوادر والحوادث الطريفة، يمشي الهوينى، وكان في آخر حياته يؤذن في المشهد الحسيني بحلب لقاء راتب يتقاضاه من دائرة الأوقاف.
فاجعته بولديه: أعقب المترجم ولدين، الأول عبد الفتاح والثاني عبد الرزاق، وقد فرح بقرانهما وذريتهما، وقضى أيام حياته بالعز والبهجة والصفاء، إلا أن الدهر فاجأه بكؤوس مترعة بغصص النوائب، فانقلبت حياته إلى جحيم من الحزن والأسى، فقد اختطفت المنون ولديه وهما في ريعان الشباب، وكفل الجد أحفاده ورعاهما بعطفه وحنانه، فكان كلما نظر إليهما تقطر قلبه دماً وتجدد حزنه وبكى، ومرت أيام حياته الأخيرة وهو في مأتم لا عزاء فيه، وروى أقرب الناس إليه أن الفن الذي استولى على مشاعره وأفعم قلبه حبوراً وسروراً قد صهرته الآلام والأحزان فلم يهنأ بعيش بعد فاجعته بولديه، فكان أهل الفن يحتاطونه للتخفيف عن أحزانه وأشجانه، وإذا أرادوا الترفيه عن قلبه بإلقاء موشح أو قصيدة انقبض صدره وخنقته العبرات، وظل كذلك إلى أن لحق بهما إلى دار البقاء، وكانت وفاته عام 1903م، رحمه الله.
* * *