أديب إسحاق
أديب إسحاق([1])
المرحوم أديب بك إسحاق
(1856 ـ 1885م)
مولده ونشأته: هو الشاعر البليغ، المبتكر المجيد، والخطيب المفوه، قدوة المنشئين، وأحد نوابغ القرن التاسع عشر، ولد بدمشق يوم الأحد 21 كانون الثاني سنة 1856م، وهو من أصل أرمني، تلقى علومه الابتدائية والعربية والفرنسية في معهد الآباء العازاريين، وبدت عليه مخايل النجابة والذكاء النادر، فتفرس أساتذته أنه سيكون من نوابغ الدهر في عصاميته وعبقريته، وقد صدقت فراستهم، فقد نظم القريض قبل أن يتعلم العروض وهو في العاشرة من عمره، وأبى الدهر إلا أن يمعن في القسوة على أبيه المعوز، وعلى الفتى بالحرمان من نعمة العلم، فاضطر لترك الدراسة والخوض في ميدان الحياة للعمل وكسب الرزق وإعانة والده، فاشتغل في دائرة الضرائب الحكومية براتب ضئيل، وانكب على تعلم اللغةالتركية يدرسها، وهي لغة البلاد الرسمية، فأتقنها وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان يجيد العربية والفرنسية، فرمقته العيون بالإعجاب، وكان ينتهز ساعات الفراغ فيقرأ العلوم ويطالع الكتب وينظم القصائد والموشحات، فكان معلم نفسه بالاقتباس.
وفي الخامسة عشرة من عمره توظف في مصلحة البريد التي كان يعمل والده فيها بمدينة بيروت، وأعجبه محيطها الأدبي، فعاشر الأدباء والعلماء، فكان المجلي في ميدان المساجلات والمطارحات، واشتهر أمره فكان أحد أعلام الأدب في عصر كان فيه رهط من الأعلام أمثال المرحومين الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلات (البيان) و(الضياء) و(الطبيب)، وأحمد فارس الشدياق صاحب (الجوائب)، وخليل الخوري صاحب (حديقة الأخبار)، وبطرس البستاني صاحب (نفير سوريا) و(الجنان)، وتولى تحرير جريدة (ثمرات الفنون) وهو فتى، والإنشاء في جريدة (التقدم) وهو في السابعة عشرة من عمره، وفي خلال قيامه بإنشائها ترجم قسماً من معجم المعاصرين، ولم ينشره لضيق ذات يده.
ودخل في جمعية زهرة الآداب فأصبح رئيسها، وفي سنة 1875م أنشأ مع رفيقه المرحوم سليم الخوري (آثار الادهار)، وله في ثلاثة أجزاء منه فصول تدل على غزارة مادته وبهاء بلاغته.
هجرته إلى مصر: وضاق محيط بيروت بروحه الوثابة وطموحه الأدبي فرحل إلى مصر، وفي القاهرة داوم على حلقة المرحوم الفيلسوف الشرقي الشيخ جمال الدين الأفغاني، وعنه أخذ دروس الفلسفة الأدبية والعقلية والمنطق، واقتدى بمبادئه السامية في الحرية والمساواة، وأنشأ جريدة مصر، وجريدة التجارة اليومية، وقام مع رفيقه المرحوم سليم النقاش بالتمثيل، ومثَّلا في القاهرة والإسكندرية من روايات المرحوم مارون نقاش، ومن رواياته التي ألفها وقد لاقت رواجاً حسناً.
محنته: كان عليماً بالأمور السياسية، فثار قلمه على رئيس وزراة مصر نوبار باشا، وهو أرمني الأصل مثله، فأخرجه من القطر المصري، ورحل المترجم إلى باريس وأنشأ فيها جريدة مصر القاهرة، وتعرف فيها على بعض عظمائها وأدبائها، وصنف كتاباً سماه تراجم مصر في هذا العصر، وزالت الموانع فاستدعاه الخديوي توفيق باشا سنة 1881م إلى مصر، وولاه رئاسة الإنشاء والترجمة في دائرة المعارف، وأمانة السر في مجلس النواب، وأنعم عليه برتبة (بك)، وأعاد إصدار جريدة مصر، وعهد بإدارة شؤونها إلى شقيقه (عوني)، وبالرغم من تقيده بالخدمة واعتلال صحته كان يكتب القسم الأكبر منها، ولما نشبت ثورة عرابي باشا اختار الصمت والاعتدال، فأكره على مغادرة مصر وعاد إلى بيروت، ولما استتب الأمر للخديوي وقضى على الثورة العرابية سافر إلى مصر، فسجن بضع ساعات، ثم أجبر على العودة إلى بيروت.
مؤلفاته: أصدر ديوانه الشعري وهو في الثانية عشرة، والقسم الأكبر منه في الغزل والنسيب، وفي التاسعة عشرة من عمره ألف كتاباً سماه (نزهة الأحداق في مصارع العشاق)، وعرب رواية (اندروماك)، ورواية (شارلمان)، وألف رواية (الباريسية الحسناء)، ورواية (غرائب الاتفاق)، وترجم قسماً من معجم المعاصرين، وترجم عن الفرنسية كتاباً في الأخلاق والعادات، وكتاباً صحيًّا، وآثار الادهار.
شعره: كان شعره في مستوى نثره بالبلاغة والبيان، وله ديوان شعر مطبوع عنوانه (الدرر)، وكان من أبرز خطباء عصره، يتلاعب بأفئدة السامعين برنة صوته وسحر إلقائه، فكان يطلق قريحته في غير عنت أو إرهاق متى وأنى شاء كلما أعوزه النظم والنثر، ومن نظمه الغزلي في سنة 1872م ـ وكان الشاعر في السادسة عشرة من عمره ـ لما تحسس وخفق قلبه بالحب قوله يصف غادة جميلة:
سقام في لحاظك أم سهام | ودر من كلامك أم نظام |
وبرد في رضابك أم رحيق | وورد في خدودك أم مدام |
وذا بدر تبدى أم جبين | ذا شعر تجعد أم ظلام |
وذا سقم بجسمي أم بعاد | إذا ما طال أنهكني السقام |
كان يدافع عن المرأة وحقوقها، وقد شبه المرأة بالملك فقال :
حسب المرأة قوم آفة | من يدانيها من الناس هلك |
ورآها غيرهم أمينة | فاز باللذات منها من ملك |
فتمنى معشر لو نبذت | وظلام الليل مشتد الحلك |
وتمنى غيرهم لو جعلت | في جبين الليث أو قلب الفلك |
وصحيح القول لا يجهله | سالك في مسلك الحق سلك |
إنما المرأة مرآة بها | كل ما تفعله منها ولك |
فهي شيطان إذا أفسدتها | وإذا أصلحتها فهي ملك |
وكان يحب الفن الموسيقي والتمثيل، ويهوى الطرب، وله منظومات كثيرة من موشحات ومواليات، ومن موشحاته البديعة:
غرد البلبل في روض الحمى | فوق بان تحت جنح الغلس |
عندما أقبل معسول اللما | يتثنى في رياض السندس |
بأبي ظبي علينا شفقا | معرباً عن مبسم كالشفق |
وأتى نحوي فلما رمقا | لم يدع للصب غير الرمق |
ذا جبين كهلال أشرقا | فهدى بالنور أهل المشرق |
ولحاظ كنبال حيثما | رشقت كانت نذير التعس |
وخدود بعد سقياها الدما | غرست بالورد أبهى مغرس |
مرضه ووفاته: لما كان في باريس تعرض لبردها القارس ولم يكن يهتم بصحته، فأصيب هناك بعلة الصدر، وأشار عليه الأطباء بالسفر إلى مصر، فأقام في محطة الرمل بالإسكندرية طلباً للعافية والاستجمام، وتفاقم عليه المرض لما كان عليه من إباء النفس وسمو المطمع، وتعرض لمؤثرات بسبب مزاجه العصبي،وله في مصر ذكريات خالدة، فآثر العودة إلى بيروت لمصيفه بالحدث، فعصفت المنية بروحه وهو في فجر الحياة بعد ثلاثين يوماً من عودته، وذلك في صباح يوم الخميس الثاني عشر من شهر حزيران سنة 1885م، ودفن بها رطب الشباب غض الإهاب غير متجاوز من العمر تسعة وعشرين عاماً.
ومن الجدير بالذكر أن رجال الدين تعصبوا وأبوا إقامة الجناز لكونه من البنائين الأحرار، ومن مناوئي الآباء اليسوعيين، وعبث الحانقون بشطر من مؤلفاته وهو مسجى على النعش، واستنجد أهله بكاهن أرمني استحضروه من بيروت لإقامة مراسم جنازته ودفنه، وعبثت العوارض الطبيعية بقبره، وهدد الحكام الأتراك بعدم إقامة نصب تذكاري له، فلم يبق من أديب إسحاق سوى الشهرة الخالدة، وهكذا طوى الدهر زهرة الأدب وريحانة العرب في الأدب.
وقد كان أبيض اللون، براق العينين، طويل القامة والعنق، عريض الجبهة بارزها، سخيًّا محسوداً، ووطنيًّا خالصاً، ولو مد الله بأجله لجاء بالمعجزات الأدبية.
* * *