أسعد العظم الحموي
أسعد العظم الحموي([1])
الشاعر المتفنن المرحوم أسعد العظم الحموي
لقد أنعم الدهر على المجتمع فأنجبت الأسرة العظيمة فطاحل الأمراء والقواد الحكام والزعماء، والعلماء والشعراء والأدباء، فقدم هؤلاء الأفذاذ خدمات جلى للبلاد، وهم أشبه بأسر النحل الأصيلة التي تمتص من كل زهرة رحيقها العبق، وتقدم جناها إلى الناس شهداً شهيًّا، وقد تميزت هذه الأسرة بالفضائل، وامتازت نفوسهم الكبيرة بأبرز سجية مثالية وهي (النبل)، فكان دستورهم في الحياة ذا معنى ومغزى، وهو صون كرامات الناس لتصان كراماتهم، ولعمري فإن هذا الشعور الرفيع هو أنبل عاطفة اختلجت في نفوس البشر، وإني أتحدث إليكم عن عنصر كريم من أفراد هذه الأسرة النبيلة، وهو الشاعر الملهم المرحوم أسعد العظم الحموي أو (المعري)، وذلك بعد أن اختلفت حماة والمعرة وتنازعا على شرف نسبة موطنه.
أصله ونشأته: هو العالم الأديب الشاعر المتفنن المرحوم أسعد بن أحمد بن مصطفى العظم، ووالدته شروف بنت محمد بن عبد القادر العظم، جد المرحوم فريد العظم الثري الحموي المشهور بكرمه الحاتمي، ولد في معرة النعمان سنة 1236ﻫ ـ 1817م، وتوفي والده وكان عمره ست سنوات، فتزوجت والدته بالشيخ إسماعيل الكيلاني، فلم يرق هذا القران لعمها المرحوم حسين العظم، فأحضر المترجم من المعرة مع أخيه المرحوم مصطفى العظم وقام بتربيتهما، ولما بلغا السن السادسة عشرة رجعا إلى المعرة، ثم عاد الفقيد إلى حماة وبنى داراً وتوطن بها، وكان والد المترجم قائم مقام في إدلب وقبره فيها، وقد تفرس بذكاء ولده ونجابته، فأوصى بتثقيفه، فدرس في حلقات الدراسة التي تعقد في جامع البحصة في حي الحاضر، فأخذ العلوم العربية والشرعية عن العلامة الدباغ أمين الفتوى في حماة، وبرع في العلم وفاق، فكان الدباغ إذا رأى المترجم مقبلًا يقول: (أقبل القاموس يمشي)، يعني بذلك سعة اطلاعه على اللغة.
تولى الفقيد رحمه الله إدارة الرسائل في حماة، ثم عين قائم مقام للعمرانية، ولما حدث الطاعون في حماة لم يدخلها، بل انتقل رأساً إلى جبل زين العابدين مع أسرته ومكث فيه أربعين يوماً، ثم عاد إلى المعرة وكانت إقامته تارة في حماة وتارة في المعرة.
أحواله الخاصة: تزوج صاحب هذه الترجمة عدة نساء، منهن بنت السيد يوسفي، ومنهن بنت عمه مارية بنت سليمان باشا العظم، وأعقب منها (خضر)، وتوفي هذا فنظم به الأشعار الباكية، ومنهم خديجة بنت أحمد الإدلبي، وأعقب منها ولده الشاعر المرحوم محمد الأسعد العظم.
ضمن المترجم مرة أعشار بعض القرى، ولما حدث الطاعون وفر إلى المعرة أصيب بخسارة مالية، فطالبته الحكومة بما بقي عليه من أقساط الضمان، فأوقف ليلة من أجلها، فتأثر ومرض مرضاً شديداً لازمه مدة سنة، وجيء له بطبيب حمصي، فأقام على مداواته أربعة أشهر، وبعد شفائه ولد له ولده المرحوم الشاعر محمد الأسعد العظم، وليعلم حفيده الصديق مسعود العظم أنه لولا إرادة الله ونطاسة الطبيب الحمصي المجذوب لما أبصر نور الحياة.
ومن أطواره رحمه الله التي تنم عن خلق رصين أنه كان شديد الغيرة على الأعراض، ذا مروءة نادرة وغيرة بلغت حد الإفراط، فكان سكان محلته لايجرؤون على ترك أبواب منازلهم مفتوحة خشية أن يمر بها المرحوم المترجم فيوسع أصحاب الدور لوماً وتقريعاً، وكان يقفل على أسرته الباب مدة غيابه عـن البيـت، ولسـت أدري مـا كان فاعلًا لو طال به العمر إلى هذا الزمان ورأى ما وصلت إليه حالة الأخلاق وحرية السفور في هذا العصر.
شعره: له ديوان شعر في غاية الرصانة وحسن الديباجة (الفرائد النظمية والقلائـد العظمية) تضمـن فنونـاً مـن المـدح والهجاء والرثاء والحماسة والغزل والمعاتبات، وله المقاطع الدوبيت والقدود والموشحات وما ماثلها، وقد طبع هـذا الديوان فـي حياته وزاد عليـه بعـد الطبـع الشيء الكثير، ولم تطبع الزيادة، ومدح الرسول الأعظم ببديعية حوت أنواع البديع وقد شرحها، وشطر لامية العجم للطغرائي، وخمس التوسلية المشهورة للشيخ أمين الجندي، وله مراسلات ومساجلات شعرية ونثرية مع بعض الشعراء، وخاصة مع أستاذه المرحوم أمين الجندي مفتي دمشق، وقد أشاد بفضله وسعة علمه، وقرظ له ديوانه الشعري فقال:
وديوان لبدر الفضل محيي | مذاهب شرعة الشعر الثمين |
أمين المجد جندي المعالي | وحسان الزمان بدون مين |
حري أن ينقط باللآلي | ويكتب النضار على اللجين |
وكان المترجم رحمه الله عظيم المودة، وفيًّا لأستاذه أمين الجندي، فكتب إليه وقد أوجب الحال ذلك:
جفيتم وما لي جنحة توجب الجفا | وحاشاي في صدق الوداد أمين |
وما خنت يوماً صاحباً ذا وفا وهل | إذا كنت منظور الأمين أخون |
وقال يمدحه بقصيدة بليغة مطلعها:
هاتي حديثهم صبا يبريني | فمن الجوى خبر الهوى يبريني |
ومنها:
فامنح ودادك من يقوم بحفظه | مستخلصاً واجعله عند أمين |
فرد المعالي ثاني الغيث الذي | بالفضل أصبح ثالث القمرين |
جندي فضل لو يجاريه الحيا | لكبا يسابقه عثار حرون |
لله أنتم يا بني الجندي من | فرسان أفضال وأسد عرين |
مولاي يا نعم الأمين ومن غدا | فيه المديح منزهاً عن مين |
كان رحمه الله في عصره الذي تأخرت فيه اللغة العربية وغزتها اللغة التركية بدراً ساطعاً في ميدان العلم والشعر والأدب، وكان محبًّا لآل البيت، كثير الاستغاثة بالباز الأشهب، فخوراً بمدح الرسول ﷺ، ومدائحه أخذت قسماً كبيراً من ديوانه الفخم، وهو القائل:
فلا يتوهم المغرور أني | مضام أو مضاع ذو هوان |
أنا مداح خير الرسل طه | فعزًّا غير مجهول مكاني |
ولعمري فإن من يمتدح الرسول يرتجي به ثواب العقبى لأشرف نفساً ممن يتقرب زلفى في مدح توصلاً لغاية الغرض الأدنى، ولله في خلقه شؤون.
صبره واحتسابه: وكان رحمه الله مأموراً بجبل الكلبين بمهمة إصلاحية أوفده إليها الوالي محمد رشدي باشا، ووردته الأخبار بوفاة جملة من عياله بمناسبة مرض الطاعون فقال :
دعوا حادثات الدهر تفعل ما تهوى | لتظهر مني كيف تحتمل البلوى |
وقولوا لذي الأيام تجهد جهدها | لتعلم أن الحر فوق القوى يقوى |
أكان دمي للدهر ورداً وقد حلا | فلازمه عبًّا ولم أره يروى |
سيعلم إن طال التعارك أينا | يمل ويثني الجهد ساعده رخوا |
فلا وتليد المجد مني لوَ انني | أسام الردى منه لما بحت بالشكوى |
وشاء الدهر أن يجرعه كؤوس الأسى والغصص، فمات ولده (خضر) في حال غيابه، فجزع عليه ولم يرقأ له جفن بعده، ومن مراثيه المحزنة فيه قصيدة طويلة منها قوله:
آه لو ينفع التأوه لكن | عز أن يطفئ الزفير الزفير |
إن يوم الحمى ليوم عبوس | قمطرير وشره مستطير |
فيه فار العيون بالدمع وجدا | وعلى جمرها تفور القدور |
هكذا صدمة القيامة تأتي | وكذا يفدح الملم الكبير |
ومنها:
والرزايا جميعهن قليل | بعد خضر وكل خطب يسير |
خضر أضحت به القبور قصورا | وقصوري أمست وهن قبور |
وبكى شيخه المرحوم العلامة الدباغ فقال يرثيه:
بوفاته الدباغ أعقب غصة | للناس ما فيها الشراب يساغ |
فالعلم ينشد في حماة بعده | حلم الأديم وقد قضى الدباغ |
فنه: كان الفقيد غزير العلم، ملمًّا بالموسيقى وعلم الأوزان، وله الكثير من الموشحات والدوبيت والمواليا، ذا صوت حسن، يقرأ المولد النبوي الشريف الذي صاغه نثراً وشعراً.
وهذا موشح بديع من نغمة الصبا حسيني:
يا دار ريا في حمى يبرين | رياك من داء الجوى يبريني |
أيها الساقي أدر روح النفوس | وأسقنيها في ثغور في كؤوس |
راحة ما مسها أيدي القسوس | لا ولا من دنها السامي دنو |
وفاته: توفي هذا العالم الشاعر الملهم والفنان الألمعي في حماة سنة 1299ﻫ ـ 1880م عن سن ناهزت الثلاث والستين، ودفن في مقبرة الأسرة العظيمة الكائنة في موقع الحاضر، وأعقب ولده الشاعر المبدع المرحوم محمد الأسعد العظم،رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.
* * *