إسكندر شلفون
إسكندر شلفون([1])
نابغة الموسيقى، الأديب الشاعر، لقد شغف بالموسيقى طفلاً، فأنشد وعزف في الخامسة من عمره، رافقته في كل مراحل حياته، ففي الهناء كانت تضاعف هناءه، وفي الشقاء كانت بلسماً لجروح شقائه، في طفولته رقص لها وهلل، وفي شبابه تمعن فيها وتأمل، وفي رجولته تألم لها وبكى، فالموسيقى التي تملأ قلوب الناس أفراحاً كانت تملأ قلبه أحزاناً وأشجاناً، والألحان التي ترقص الجماهير كانت تقف به جامداً أمام هيكل الفن الضيق المنهار، والمعاني التي ترددها الناس بالإعجاب والدهشة رددها بالأسف والحسرة، ذلك هو نابغة الفن الموسيقي المرحوم إسكندر شلفون.
أصله ونشأته: هو المرحوم إسكندر بن بطرس شلفون، ولد في القاهرة سنة 1877م، ونشأ في مهد الفن والأدب، فقد كان والده يؤلف فرقة موسيقية من أولاده الثلاثة إسكندر ونجيب وفريد من عود وقانون وكمان وناي، فورث عنه حب الفنون والأدب والتهذيب، تخرج الفقيد مع إخوته من مدارس الفرير في بيروت، وكان يتقن اللغات الإنكليزية والفرنسية والعربية إتقاناً بليغاً.
نبوغه الفني: وبرزت مواهبه ونبوغه في مصر، فقد رحل إليها وعيِّن في سنة 1909م موظفاً في ديوان وزراة الأشغال العامة المصرية، واستمر فيها حتى سنة 1923م، كان مثال الجد والنشاط، لا يضيع دقيقة من أوقاته سدى، وفي سنة 1920م أنشأ وهو يرسف في قيود الوظيفة مجلة روض البلابل، وفتح مدرسة موسيقية بشارع كلوت بك بالقاهرة، فكان يخرج من عمله المرهق ويذهب إلى مدرسته دون أن يمر على بيته ليتفقد شؤون عائلته، أنشأ هذه المدرسة في الوقت الذي أسست الحكومة المصرية المعهد الموسيقي الشرقي، وبدأ البراز الفني، فتطاول على عبقرية الفنانين المصريين، وهو أول من حثَّ عشاق الفن لتعلم النوطة الموسيقية، وربط أقوى موشحات أبي خليل القباني بالنوطة، منها الموشح المشهور «برزت شمس الكمال»، وله أدوار وقصائد وموشحات وأناشيد كثيرة نشرها في مجلة روضة البلابل.
نبوغه العلمي: كان الفقيد شاعراً مبدعاً، وخطيباً كبيراً، وناثراً بليغاً، وملحناً مبتكراً، وأستاذاً ألمعيًّا في الموسيقى الشرقية والغربية، يعزف البيانو، ويجيد العزف بالقانون والكمان والعود، وهو مؤسس المعهد الموسيقي المصري، وقد اعترفت المعاهد الموسيقية في أوروبا وتركيا والشرق أجمع بنبوغه الفني، وتتلمذ عليه كثير من المطربات والفنانين المشهورين، ومن تلامذته المطربات: سكينة حسن وملك وسوسن وغيرهن. كان رحمه الله ذا صوت جهوري متموج رخيم، وقد لحن عدداً كبيراً من البشارف والسماعيات البديعة، ووضع أوبرا عربية، وأنشأ جوقة موسيقية، فتعرض لها الحساد من الفنانين فلم تنجح، وخلال رحلة المؤلف إلى البرازيل في الربع الأول من سنة 1954م تعرف على الشاعر المتفنن والتاجر الثري الكبير في سان باولو الأستاذ إبراهيم البسيط، فاطلع على آثار فنية كثيرة كتبت بخط النابغة إسكندر شلفون وتوقيعه، مما يدل على أنه كان فناناً يهوى الخطوط العربية على اختلاف أنواعها لا سيما الخط الفارسي، وقد كان الأديب البسيط زميله في عهد الوظيفة بالقاهرة.
حبه الأول: وألهب كيوبيد إله الحب قلب الفقيد فأحب المطربة سوسن، فافتتن بجمالها وسحر صوتها، فكانت قرة عينه «وما الحب إلا للحبيب الأول»، فأذاب روحه في تعليمها، فأخرجها فتنة للناس، وكانت من آيات روائعه الفنية، وازداد هيامه بها فترك منزله وأشغاله ورحل بها إلى دمشق فبيروت، وأقام معها حفلات عديدة ما زال يتذكرها عشاق الفن.
أحواله الخاصة: كان هذا الفنان الذي ضحى بمنصبه ومستقبله أمام هيكل أنوار الفن قليل الحظ، سيئ الطالع إلى حد بعيد، عبس الدهر بوجهه بالرغم من علمه الغزير وثقافته العالية، يشكو مآسي حياته إلى أصدقائه ومناصريه، ومن هؤلاء تلميذه الوفي الموسيقار المتفنن ألكسي اللاذقاني، وقد بعث إليه برسالة قبل وفاته بخمسة أيام، نشرتها جريدة الفنون الجميلة، وهي أبلغ ما خطته يد كاتب بائس.
المرجع الفني: لقد كان في جبروته الفني فذًّا لا يبارى ولا يجارى، فقد تقدم في سنة 1922م إلى مصطفى باشا ماهر وزير المعارف في مصر بتقرير شامل عن حالة الموسيقى المصرية، وأبان له السبب الأساسي في انحطاطها، وما ذكره الموسيقار الفرنسي الأستاذ كامبل سانسانس في تقريره الذي قدمه إلى المعهد الموسيقي الفرنسي بأنه زار مصر ورغب في إدراك كنه الموسيقى المصرية، فلم يجد فيها عهدئذ من الأكفاء من يباحثه في مواضيعها باللغة الصحيحة التي يتحدثون بها عن الفنون. ولعمري لو درى الفقيد المترجم بأمر هذا التقرير لناقشه وأوضح له ما يريد بلغته وصان كرامة الفن الموسيقي الشرقي.
ألحانه: كان ينتقد طائفة من الموسيقيين المصريين الذين انحصرت مواهبهم في التلحين بشكل مزري سخيف، فكان أول من عني بتلحين الأغاني الأخلاقية والأناشيد الحماسية، وكل منها بحر عميق، ومن روائع ألحانه أنشودة وادي النيل:
يا وادي الهناء يا روض السما | يا نهر العطاء تسقيك السما |
وأنشودة عصفور الحقل وبلبل القفص، وفيه يقول:
غنت الأطيار أغـ | ـنية مجد للصباح |
والعصافير تبارت | بضروب الزقزقة |
والخزامى ضمت النر | جس في ظل الأقاح |
والسواقي قد تنادت | تحت شمس محرقة |
والعيش يحلو بالوجوه الملاح
وأنشودة الحياة:
املئي الكون جمالًا زاهياً | أطلقي شمس النهار |
واسكبي للزهر خمراً صافياً | حركي ماء البحار |
وامزجي الأثمار في جناتها | لبناً فيه العسل |
وقلوب الناس في هزاتها | قوة تحيي الأمل |
أرسلي صيحاً على وجه الغدير | نسمات محيية |
واملئي الوديان بالخير الوفير | والحقول النامية |
أنت روح في فؤاد الكائنات | في الورى منذ الأزل |
كل أجزاء البرايا في الحياة | أخذت منك الشعل |
وفاته: لقد أطفأ الموت نور هذا الموسيقار العالمي، فكانت فاجعة موته الفجائية مؤثرة تدمي القلوب أسى ولوعة، فقد كان في سنة 1934م يتردد على مقهى كوكب الشرق في بيروت، ويجلس في خلوة وعزلة عن الناس يضع كتاباً موسيقيًّا عالميًّا، فانهارت دعائم البناء فكان بين الضحايا رحمه الله.
* * *