ألكسي اللاذقاني
ألكسي اللاذقاني([1])
الشاعر الأديب والموسيقار المتفنن الأستاذ ألكسي اللاذقاني
إن الفنون الجميلة لدى الأمم الراقية هي من العناصر الهامة في حياتها الاجتماعية، وتعتبر مقياساً لتمدنها وحضارتها، وهذا لا يكون إلا بنشر آثار علمائها وفضلائها، وقد سبق أن تحدثت عن الفنان العبقري المرحوم كميل شمبير، والآن أتحدث إليكم عن فنان غني بشهرته عن التعريف، هو النابغة السيد ألكسي اللاذقاني، أستاذ الكونسرفاتوار في بيروت، الذي لا يوجد في المجتمع الفني الراهن من يضاهيه بعلمه واقتداره وإجادته.
لقد أخذت على عاتقي بيان آثار الفنانين وإنصاف الأموات منهم إحياء لذكراهم، وتكريم الأحياء تشجيعاً لهم، وليكون ذلك بلسماً وعزاء لأفئدتهم المكلومة بالأسى والحرمان، وهم أشبه بالزهرة الفواحة يجني شهدها المتمتعون بفنونهم، نداها دموع مآقيهم المسفوحة على وجوه تشرق ابتسامتها بقنوط المحرق الدائم.
أصله: ولد الفنان ألكسي بن بطرس اللاذقاني في أنطاكية مهد الفنون الرومانية عام 1907م، وتلقى العلوم في مدارسها، ومنذ نشأ وميَّز كانت علائم النبوغ بادية في محياه، فكل من رآه يعلم بالفراسة أنه سيكون له نباهة وشأن فني، وقد تعشَّق الفن الموسيقي، تلقى الفن متأثراً بمناظر الطبيعة الخلابة على عود صغير نظراً لصغر أنامله، ثم نزح إلى مدينة حلب مهبط الوحي والإلهام الموسيقي،ومهد الطرب والأصوات الجميلة، وكان ذا ثروة من التجارة تعاطاها مع أخيه في بضاعة الأقمشة، ثم افتتح محلًّا لبيع الأجواخ والخياطة، وتلقى على فحول الأساتذة أجمل القطع والأوزان الموسيقية، وبقي مواظباً على الفن الذي يهواه قلبه السليم.
وفي عام 1922م نزح إلى مصر واندمج في المعهد الموسيقي الخاص بفقيد الأدب والشعر والموسيقى المرحوم إسكندر شلفون صاحب مجلة روضة البلابل الموسيقية، وتلقى منه قواعد النوتة الإفرنجية وأصول تصوير الأنغام على كل مقام، وبعد ذلك انتقل إلى المدرسة الموسيقية الأهلية التي كانت تدار من قبل الأستاذ منصور عوض وسامي الشوا، ودرس عندها أصول تهجئة النوتة الإفرنجية؛ (أي: الصولفيج)، وتلقى بعدها الفن على الأستاذ تلماك صاحب المدرسة الموسيقية،وهو تركي الأصل، وجمع ثروة فنية لا تضاهى من الكتب والمؤلفات والآلات الموسيقية النادرة.
وفي عام 1942م عاد إلى بيروت وأسس الكونسرفاتوار الوطني، والنادي الموسيقي الشرقي، وعصبة الأدب، والنادي الموسيقي اللبناني، والمجمع الموسيقي الشرقي، والنادي الموسيقي الأدبي البيروتي، وذلك خلال مدة سبعة عشر عاماً قضاها في الجهد المضني، وصرف ثروة كبرى في سبيل إحياء الفن الشرقي كانت تكفيه طيلة حياته، وما زال يعمل بكل شغف وإخلاص، ويناضل في فنه وماله وقلمه لتعزيز الفن والمحافظة عليه.
وفي عام 1942م أنشأ جريدة الفنون الجميلة، وما زالت تصدر حتى الآن.
وفي عام 1937م ساهم مع فرقته بتأسيس محطة الإذاعة اللبنانية، ورعاها بروائع فنه.
فنه: يعتبر الأستاذ ألكسي اللاذقاني خليفة المرحوم كميل شمبير فنًّا وعلماً وذكاءً، وهما صنوان جمع الفن بينهما، فاللاذقاني بعوده وكمانه وشمبير على بيانه وبيستونه.
ثم زار مصر مرة ثانية وأقام مدة يرتشف من مناهل الفنون، وعاد إلى بيروت وأسس حزب العمال العام، وهو يضم (65) نقابة، وكان النادي الموسيقي يطرب نقاباته في حفلاتهم.
وفي عام 1924م أقام حفلة تأبينية لفقيد الفن المرحوم الشيخ سيد درويش.
وفي عام 1937م أقام حفلة تأبينية كبرى لذكرى زميله الفقيد كميل شمبير.
وكان يدعى من قبل المفوضين السامين لترأس الحفلات التي كانت تقام في قصر البارك.
وفي عام 1948م تلقى من الحكومة التركية دعوة رسمية لزيارة أنقرة، فسافر مصحوباً بسلاحين ماضيين، هما روائع فنه على قيثارته وعوده، واللغة التركية التي يجيدها كأبنائها، واحتفل به أكابر الموسيقيين في محطة الإذاعة في أنقرة، وأذاعت له عدة برامج من وضعه وتلحينه، منها طلوع الفجر على الكمان، وأذان الصبح الخاص، ومارش أتاتورك العظيم الحماسي الحربي الصامت الذي كان يفتتح الحفلات بعزفه، واشترك بمعرض أزمير الدولي، وعزف على قيثارته وعوده قطعات من وضعه، وزار أضنة ومرسين واستانبول، وأقام عدة حفلات خاصة، ولقي من الحفاوة والتكريم ما لا يحد، ودعاه والي أزمير فكانت مسك الختام، حضرها العظماء والسفراء والأدباء، وأشادوا بفنه ونبوغه، ثم دعاه والي هاتاي لإقامة حفلة في أنطاكية، وعاد من رحلته وقد انتزع إعجاب أهل الفن في تركيا.
ثقافته وصفاته: يجيد اللغة الفرنسية، وعليم باللغة التركية كأحد أدبائها، وضليع باللغة العربية، أديب، هو بين الأدباء فارس الميدان، ألمعي في أقواله وأفعاله وأحواله، تستقي قريحته الوقادة من المنهل العذب، أحاطت به الفنون الجميلة إحاطة الهالة بالقمر، بيانه حديقة ورد وريحان، رياها عبير الفنون ورضاب الحسان، يفوح شذاها من سطور جريدته التي ما زال يغذيها بروحه وقلمه منذ ربع قرن، نشوته خمر العيون ممزوجة بندى الأقاح، إذا عزف على العود أو حرك قيثارته امتزجت ألحانه بالراح والأرواح، وسحر الألباب بأنغامه الشجية.
له خلق أرق من النسيم وأعذب، وكلام ألذ من سماع العود وأطرب، نبيل القصد، كريم النفس، يتغلب على المصاعب بالثبات والصبر والحلم.
قلمه سريع الإنتاج، فإذا ثار نار وضرام، وإذا صفا نور وسلام.
شعره: لقد كانت الطبيعة سخية على المترجم، فحباه الله بالمواهب الفنية والأدبية، ومن نظمه الرقيق قصيدة مدح بها صديقه مؤلف هذا السفر، منها قوله:
الفن فيك مجسم ونبيل | في كل يوم شاهد ودليل |
والفن أنت مقيله من عثرة | لولا وجودك لاعتراه خمول |
سبحان ربك قد حباك مواهباً | لا القل ينقصها ولا التعديل |
جذبت محبتك القلوب فكلها | أمست إليك ولا ملام تميل |
فلئن نطقت فأنت أكبر عادل | والحق بات يقيم حيث تقول |
وختمتها بقوله:
الفن لا ينسى الجميل حياته | حفظ الفنون مقدس وجميل |
وكان المترجم شغوفاً بمطالعة أحاديث المؤلف الفنية، ويشجعه على المضي قدماً في التأليف، وبعث إليه بقصيدة هذه بعض أبيات منها:
محضتك يا (جندي) ودي ومن به | سواك جدير من قصي ومن دان |
بذكراك تسكين لشوقي إذا طغى | كما أن في مرآك نور لأجفاني |
عرفتك أوفى من صبحت من الورى | فمدحك يشدو فيه سري وإعلاني |
ومنها:
إذا ما سرى في كل ناد عبيره | فأنت عبير الأرز في جو لبنان |
ومهما رماني الدهر في نكباته | كفاني أن قد كنت خيرة إخواني |
فلا زلت يا (جندي) للفن حارساً | وناديك معموراً بفضل وإحسان |
وزراه المؤلف في داره ببيروت في 3 كانون الثاني 1954م مودعاً بمناسبة سفره إلى البرازيل، وأطلعه على مهمته الأدبية والفنية، فبكى وأشفق، واستعطفه بالعدول عن هذه الرحلة الجوية الخطرة رحمة بالفنانين الذين يخلد آثاراهم ومآثرهم، ولما عاد هنأه بقصيدة بديعة مطلعها:
أهلاً بمن بعد التغيب قد بدا | وسناء طلعته يفوق الفرقدا |
عاد الصفاء بعوده من بعد أن | ترك الفؤاد لبعده متوقدا |
سافرت والجفن القريح مسهد | ورجعت والقلب الجريح تضمدا |
وبلغت أقصى ما تروم نواله | والسيف يظهر فعله لو جردا |
من ذلك الفن الجميل عليك قد | مطرت سحابة نعمة لن تجحدا |
فطلعت بدراً كاملاً بسما العلا | إذ كنت في دنياك شهماً مفردا |
ومكانة في حظوة في عزة | عزت ومثلك من يصيب السؤددا |
طارت إليك قلوبنا شوقاً فلو | أبطأت خلنا العيش في الدنيا سدى |
حييت من رجل كريم ذكره | يبقى بقاء الدهر فيه مخلدا |
لك في الزمان مآثر مشهورة | لك صرح فخر في العلاء تشيدا |
ومنها:
خذ من صديقك بنت فكر قد سعت | بعلاك إذ لم ترض غيرك سيدا |
من خدرها برزت تميس كغادة | ألبستها برد الثناء معسجدا |
شمساً غدت بسما القريض وقد بدت | من حولها كل الكواكب سجداً |
قل للملم بها رويدك واتئد | قد كان طرفك في سناها أرمدا |
واضرم قلوب الحاسدين بجمرة الشـ | ـشرف الرفيع ودم على رغم العدا |
لقد عز عليه ما حل بصنوه الفنان كميل شمبير، فاعتبر من قساوة الدهر بالفنانين، فكان مثالًا يقتدى به في الفضائل والشمائل الحميدة.
* * *