جاري التحميل

إلياس أبو شبكة

الأعلام

إلياس أبو شبكة([1])

(1903 ـ 1947م)

مولده ونشأته: ولد الشاعر المرحوم إلياس بن يوسف بن إلياس أبو شبكة سنة 1903م في نيويورك بأمريكا الشمالية أثناء سياحة قام بها والده، وأصل الأسرة من قبرص، وكان جده يطرح الشبكة للصيد في البحر، فلقبت الأسرة بأبي شبكة.

درس علومه في مدرسة عينطورة سنة 1911م، ولما وقعت الحرب العالمية الأولى توقف عن الدراسة، وبعد انتهائها استأنفها في مدرسة الأخوة المريميين في جونية، فقضى فيها سنة دراسية واحدة، ثم عاد إلى مدرسة عينطورة، كان غريب الأطوار يتعلم على ذوقه، ويتمرد على أساتذته.

المعلم والصحفي: كان والده ثريًّا فاغتاله اللصوص سنة 1914م بين بورسعيد والخرطوم بينما كان قاصداً هذه المدينة لتفقد أملاكه، وبدأت مقدمات حياته تنذره وهو لا يعلم بما سوف يلقى من مرارة وألم وحرمان على مثل ما حدث لغيره ممن عقدوا آمالهم على حرفة الأدب، فخاض مجال العمل كادًّا كادحاً وراء الرزق، فكان يدرس في معهد أخوة المدارس المسيحية، وكلية المقاصد الإسلامية، وكلية القديس يوسف للآباء اليسوعيين، وتنقل من جريدة إلى جريدة للتحرير، وتجلت مواهبه على صفحات المعرض، والمكشوف، وصوت الأحرار، وشتى الصحف والمجلات التي نشرت له قصائده الداوية.

مؤلفاته وآثاره: لقد خلف هذا الشاعر اليائس على قصر عمره ما لا يقل عن ثلاثين كتاباً مطبوعاً في مختلف المواضيع والأحجام بين ترجمة وتأليف، ولعل أول ما نشره رواية (الحب العابر)، وآخر ما نشره (بودلير في حياته الغرامية)، وهذه أسماؤها: 1 ـ الحب العابر. 2 ـ عنتر. 3 ـ القيثارة. 4 ـ جوسلين. 5 ـ طاقات زهـر. 6 ـ العمـال الصالحـون. 7 ـ سـقوط مـلاك. 8 ـ مجدوليـن. 9 ـ الشاعر. 10 ـ المريض الصامت. 11 ـ تاريخ نابليون. 12 ـ الروائي. 13 ـ الطبيب رغماً عنه. 14 ـمريض الوهم. 15 ـ المثري النبيل. 16 ـ البخيل. 17 ـ مانون ليسكو. 18 ـ بولس وفرجيني. 19 ـ الكوخ الهندي. 20 ـأفاعي الفردوس. 21 ـ الألحان. 22 ـ المجتمع الأفضل. 23 ـلبنان في العالم. 24 ـ نداء القلب. 25 ـ تلك آثارنا. 26 ـقصر الحير الغربي. 27 ـ إلى الأبد. 28 ـ روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة. 29 ـ غلواء. 30 ـميكرو ميغاس. 31 ـ أوسكار وايلد. 32 ـ بودلير في حياته الغرامية.

وله في الصحف والمجلات العربية مقالات متنوعة وقصائد ودراسات وترجمات لو جمعت في كتب لأربى عددها على العشرين ويزيد.

شعره: كانت بوارق العبقرية تنبجس حيناً بعد حين من بعد انطلاقاته وجولاته الأدبية، وكان شعره وليد حالات نفسانية، ذا نفس متقدة، فعبَّر في قوافيه عن آلام لا حدَّ لها ولا طرف، آلام من الحب وآلام من أعباء الحياة، كان لا ينظم إلا مهتاجاً في ساعة يأس أو في ليلة خمر، فيؤثر شعره في قارئه، وقد سادتهالكآبة، واعتاد أن ينهض باكراً فينصرف إلى الكتابة، وكان يصطاف في مصيف (حراجل)، وصرف عشر سنوات في التغريد لإطراب الناس، فكان غزله المتعفف تشيع فيه ألوان الطبيعة ممتزجة بألوان كآبة النفس وألمها، لم يقتصر شعر صباه على الغزل وحده، بل كان له من إحساسه المرهف ما يجعله شديد الانفعال، تضطرب أعصابه لشتى العوامل التي تؤثر في نفسه، فما يزال يبلورها الشعور والخيال حتى يفجرها في شعره نقمة على أشخاص يجد الأذية منهم، أو ثورة على الظلم والحكام الجائرين في وطنه، ومن قوله في هذا المعنى:

أيود الألى يهابون لمسي


أن أضحي لهم بعزة نفسي

لا يؤمون معبد الله إلا

ليريهم مناحتي قبل عرسي

كل هذا لأنني لم أمالق

ولأني ما بعت باللؤم طرسي

على أنه بعد أن نضجت شاعريته واستوثق أسلوبه صار لا يرضيه شعر صباه، وبلغت قمة شاعريته في (أفاعي الفردوس)، وهي تحفة نادرة ولون جديد جدًّا في الأدب العربي ينفرد به، ويبقى له، لا تمتد إليه يد الفناء، ولا يستطيع أي شاعر أن يأتي بمثله أو يدانيه في الوصف.

كان متشائماً بالنساء جميعاً فقال:

ونساء هذا العصر إن


أحببن أطمعن الشفاه

أما قلوب العاشقا

ت فإنها وا خجلتاه

وأحب منظوماً إلى قلبه (غلواء)، فهي من بواكير خياله الخصيب، وشبابه الزاخر بالأحلام، وقريحته الجياشة بالأحاسيس الوجدانية، ولعل أول منظوماته الغزلية كان تشبيباً بالفتاة التي أصبحت زوجته بعد خطبة دامت عشر سنوات، وغلواء هو اسم صنعه الشاعر من اسم خطيبته (أولغا) قالباً حروفه رأساً على عقب، وكان قلبه يجتاز أزمة عنيفة في سنة 1928م، فإذا هي توجه شعره إلى ناحية الحب الدامي.

لقد وصف الحياة وغناها، وضرب على مفرق الحب، ومن قوله:

إن بيتاً على الجمال بنينا


ه لتأبى الحياة أن ينهارا

والنعيم الذي خلقناه فينا

وسقته السماء لن يتوارى

كلما غرق الظلام عيوني

أطلع الحب في دمي أنوارا

صفاته: كان منتصب القامة في طول ونحف، ذا جبين بين العريض والمعتدل، ابتدرته الغضون، وتسنمت ذروته شعور مشعشة ثائرة كأنما نموذج عما في الصدور من البراكين، كبير الأنف بين خدين هزيلين، حنطي البشرة، تطفوعليها سحابة من الشحوب.

كان أبيًّا ذا شمم وأنفة إلى حد أن الذين يجهلون حقيقة نفسيته كانوا يذهبون في اتهامه إلى أنه متكبر متعال، وهكذا خلطوا بين الأنفة والخيلاء، وبين الكرامة والكبرياء، وبين التحفظ والابتذال.

فهذا الشاعر الذي ولد غنيًّا لأن والده كان ثريًّا مات فقيراً، لم ينصرف إلى المدح بغية السؤال والاستجداء، فقصائده خالية من التهنئة والرثاء إلا ما كان لعالم أو أديب، ومن دلائل أنفه أنه لم يكن يشكو أمره إذا ساء، أو يتبرم بحظه إذا عبس.

لقد قضى نحبه ضحية الجهاد الأدبي والإجهاد الفكري، فسحقته الحياة سحقاً في عصر المادة، فعزة نفسه ما عرفت الزلفى، وكان قلمه عفيفاً يقوده قلب أبي عفيف، وكرامة تأبى عليه التمرغ في حمأة الشهوات الجنسية، وقد وصف العجوز في (أفاعي الفردوس) وهو أبعد ما يكون عن الفجور.

كان يحب النكتة ويأبى أن يضحي بالحقيقة في معرض المزاح، فهو على وداعته وشموخه فوق خصومات الناس، سريع الغضب، حاد البادرة، يهتز عنيفاً لأقل شاردة يتوهم فيها ما يمسه، كان حريصاً على كرامته إذا استثيرت بفلتة لسان، أو غمزة عين، ولكنه سرعان ما تهدأ نفسه الثائرة ويزول غضبه، كان يرفع كتفه اليمنى كأنه ينتفض، أو يأوي بكلتا شفتيه إلى اليسار كالمشمئز الراجف.

لقد بقي طول حياته مشطوراً بين نقيضين: استحسان الأدباء وذمهم إياه، يأخذون عليه أنه مكثر من القول عن بدائعه، وبدائعه كثر تستحق الإشادة بها، وكان من الحري به أن يصغي لإطرائها، غير أن الافتتان كان يلقي بالمهمة إليه، والمرء مفتون بشعره وولده.

مرضه: ظهرت على الشاعر أعراض فقر الدم في درجاته الأخيرة، فما بالى بها إلا بمقدار، وكان التعب الذي جزَّر سأمه بين (الزوق) وبيروت قد أضناه، وأدرك جسمه النحيل تعبان مضنيان: تعب الدماغ المفكر، وتعب النفس الكبيرة، ولم يبرحا حتى أورثاه داءه العضال، ودخل المستشفى وهو يتفادى ويغالب الداء، وكان في مرضه صابراً لا يشكو، وانتابته قبل وفاته تجارب قاسية، وتركت به محناً قاصمة، منها ما اتصل بروحه، ومنها ما تناول حياته المادية، وهدده في قوته اليومي، فصبر على هذه الصدمات في إباء وكبرياء، وكانت زوجته الفاضلة (أولغا ساروفيم) تشاطره الحياة حلوها ومرها، وهي من أنبل النساء في وفائها له حيًّا وميتاً، ولم يعقب منها ولداً.

كان الداء يمشي في شرايينه ويخالط دمه، ولازم سريره في الزوق شهراً كاملاً على إثر ما تصوره تسمماً من أكلة (شنكليش)، فأشار عليه الأطباء بالانتقال إلى المستشفى، وكان قد شرع في نظم ملحمة جديدة بعنوان زينب ملكة تدمر الشهيرة، ولكنه لم يكتب منها سوى ثمانية أبيات أو عشرة، وقد ضاعت هذه الأوراق ولم يعثر عليها بين أوراقه.

وفاته: كان الدهر يشح عليه في الهناء، فما أنصفته الحياة، ولا نعمت منه برضاً عنها، فتاق إلى عالم الخلود، وفي الساعة الرابعة من صباح يوم الإثنين في 27 كانون  الثاني سنة 1947م قضى نحبه، واحتفل المشيعون بجنازته فحملوا جثمانه على السواعد، ودفن في بلدة (زوق ميكائيل)، وهكذا غادرت تلك النفس الأبية الحياة وهي لم تهنأ قط في ميدان الجهاد.

وكتب رحمه الله تحت صورته :

اجرح القلب واسق شعرك منه

فدم القلب خمرة الأقلام

رب جرحٍ قد صار ينبوع شعر

تلتقي عنده النفوس الظوامئ

*  *  *

 



([1])   (أ) (2/410 ـ 412).

الأعلام