جاري التحميل

إلياس فرحات

الأعلام

إلياس فرحات([1])

الشاعر العبقري إلياس فرحات

أصله ونشأته: ولد إلياس بن حبيب بن جرجس فرحات في اليوم الثامن من شهر كانون الأول سنة 1893م في قرية كفر شيما الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة بيروت، ويرجع نسبه إلى أسرة حيدر أو أبي حيدر في بسكنتا، ولقرية كفر شيما الصغيرة في تاريخ الأدب العربي الحديث ذكر ممتاز، فمنها بزغت نجوم آل الشميل وآل تقلا واليازجي وكسباني وغيرهم.

دراسته: تعلم في مدرسة الدير القراءة عند أحد القسوس، وترك المدرسة وله من العمر عشر سنين، ولم يدخل بعدها مدرسة، اشتهر منذ صغره بقول الزجل اللبناني المعروف بالقرادي، ورثه عن المرحوم أبيه، وامتهن في أول أمره صناعة تقشيش الكراسي؛ أي: نسج مقاعدها، ثم تردد واشتغل تارة في معمل تجارة عربية وأخرى في معمل نجارة إفرنجية، واتسعت دائرة شهرته كزجال، فكان شباب القرية يأخذونه إلى مجالس الطرب والأفراح لينازل مخول القوَّالين.

حبه الأول: وغزا الحب قلب هذا الشاعر المعنَّى، فقد تعرف بفتاة من أنسبائه، واشتهر أمر حبهما في القرية، فأرسلها والدها إلى مدرسة داخلية للراهبات، وأرسله والده إلى زحلة للاشتغال في ورشة نجارة، وقضى فيها بضعة أشهر، ولم يكن يصل ليده من المال ما يكفي لشراء تذكرة الركوب إلى كفر شيما، وكتب إلى المرحوم والده هذه القرادية:

العصفور اللي بعدو صغير

متشوِّق للضيعة كتير

في سجنو موش راح يبقى

بس يريش بدو يطير

وزار حبيبته في المدرسة وكان أهداها ديوان مجنون ليلى، فسألها عنه فقالت: إن الراهبات اكتشفن أمره فطرحنه في الموقد (لأن الحب خطيئة مميتة).

منضد حروف: دخل مستخدماً ينضد الحروف في جريدة الوطن لصاحبها الشاعر شبلي ملاط، وتعلم صف الحروف، ثم اشتغل في جريدة الحقيقة لصاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهري، واستفاد من معاشرة الأدباء ومطالعة الكتب والمجلات.

زجله: ونازل مرة الزجال أمين أيوب، فقال للشاعر فرحات :

بالأول كنت مغشوش

وخمنتك أنك ساوي

تاري بتسوى خمس قروش

وما بتلحق زهراوي

وما أنهى (ردته) حتى سمع من الشاعر فرحات الجواب الصاعق، فقال:

بالأول خمنتك شريك

وعدت لخلفي رجعتك

لو عطوني نحاسي ديك

بكون حمار إن ما بعتك

وطلب منه صديقه ملحم وكان يرافقه أن يقول فيه شيء، فقال:

يا من قشع يا من شاف

جروحي ما عادت تلحم

كل كلاب الناس ضعاف

وما في غيركلبي (ملحم)

شعوره الوطني: وفي سنة 1909م زار دمشق، وبعد سنوات قال فيها عن شعوره وعقيدته الوطنية:

يا دمشق الثكلى دعي الحزن للمسـ

ـتسلمين المقبلين الترابا

الألى مزقوا البلاد فكانوا

للوحوش التي اعتدت أنيابا

والألى حالفوا العدو على الجا

ر المآخي فضيعوا الأنسابا

والألى استعذبوا الحياة مع الذلْ

لِ فعاشوا بين الرجال كلابا

قدست أرضك الدماء التي سا

لت عليها وأكسبتها ملابا

وغدا العشب منك أسمى من الأر

ز الذي شق في السمو السحابا

فانهالت عليه شتائم المتعصبين بحجة أنه أهان الأرز، كأن الشاعر الذي يقول: هذه الفتاة أجمل من القمر والشمس يهين القمر والشمس!

ولبث في دمشق نصف سنة قضى معظمها في الفراش لورم ألم برجليه، فتعذر عليه المشي، ثم رجع إلى كفر شيما.

هجرته إلى البرازيل: وفي 27 تشرين الثاني سنة 1910م وصل إلى البرازيل، وعاش مع أخويه وديع وأسعد وكله آمال بأن يبقى مدة سنتين أو ثلاث ثم يعود بالنقود ويتحقق حلمه بالزواج ممن أحب، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد تزوجت حبيبته وصارت أمًّا، وما زالت ذكريات حبه تجول بخاطره، ومن قوله في هذا المعنى:

تذكرني عهد الصبابة من لها

 

على القلب من عهد الصبابة سلطان

 

وقد جهلت أن البياض الذي طما

على الشعر فيه للصبابة أكفان

حنانيك إن الذكريات لذائذ

عواقبها في خيبة القلب أشجان

دعيني أعيش اليوم فالأمس قد مضى

وما لغد في دفتر العقل حسبان

درس وحيد في اللغة العربية: وانتقل مع إخوته إلى بلدة (جويز دي فورا)، فجاء للسلام عليه أديب عربي كان ساكناً المدينة، فقال له: علمت أنك تنظم الشعر، فهلا أسمعتني من منظومك شيئاً، وكان في جيبه قصيدة حديثة النظم، وكان يظنها آيته الكبرى، فمد يده ونشرها، وقرأ منها هذا البيت:

ضروباً من الأهوال حمَّلني دهري

وجرَّ علي (الهمِّ والذلِّ والقهرِ)

فضحك الأديب السامع لما سمع العجز ضحكة أذهلت الشاعر وأجرت الدم في عروقه، وقال الأديب له: إن العجز كله غلط، فقال الشاعر فرحات: وأين الغلط؟ فأفهمه أن الكلمات (الهم والذل والقهر) مفعول بها، وبما أنها كذلك وجب أن تكون منصوبة، فقال الشاعر: وما يعني منصوبة؟ فقال: أي مفتوحة، ويجب أن تكون (الهمَّ والذلَّ والقهرَ)، لأن الفاعل يجب أن يكون مرفوعاً والمفعول به منصوباً، فكان هذا النقد الدرس الوحيد الذي تلقنته الشاعر في الصرف والنحو، وأكد الشاعر عن نفسه بأنه لم يقع قط في غلط الفاعل والمفعول بعد هذا الدرس.

عمله التجاري: واستخدم في محلات تجارية، ثم تعاطى مع أخويه نجيب ورشيد صنع الصناديق الخشبية، ثم رحل إلى بلدة (ديقينو بولس)، ومنها أرسل أول قصيدة للنشر في جريدة (أبو الهول) التي كانت تصدر في سان باولو، وكان ترك قول (القرادي والمعنى) وأخذ ينظم الشعر الفصيح، ونظم قصيدة في وصف حفلات المرافع فنالت الاستحسان مع تقريظ زعم فيه كاتبه أنه وإن كان الشاعر فرحات غير متعلم إلا أن شعره قد بذ المتعلمين، وقال عندئذ لنفسه: (يا أرض اشتدي ما حدا قدي ).

رحيله إلى سان باولو: وضاقت عليه ولاية ميناس فرحل إلى سان باولو، وبعث به صديقه المرحوم شكري الخوري لجباية بدلات اشتراكات الجريدة، ثم فارقه لاختلاف النزعات والعقيدة فيما بينهما، لأنه ما كادت فرانسا تظهر على مسرح السياسة السورية حتى استحال احتلاليًّا فرنسيًّا من الطراز الأول.

تعارف شاعرين: وتعرف في سان باولو بالشاعر القروي، وكان يسمعه شعره فيقول له: إن أحسن ما في شعرك أنك تنظمه ولا تعرف أن تقرأه... ذلك لأنه كان يجهل أبسط قواعد الإعراب.

طبع ديوانه: واجتمع عند الشاعر ديوان مخطوط وكان يريد أن يطبعه، فتعذر عليه لأنه حمد الله على الفقر الذي بفضله لم يطبع ذاك الديوان الذي لم يلبث أن أتلفه لاعتقاده بسخافة شعره، فقد أصبح مع الأيام يميز بين جيد الشعر ورديئه.

في حقل الصحافة: واشترك الشاعر مع الأستاذ توفيق ضعون على إصدار مجلة (الجديد)، ولم يطل عمر هذه الشراكة.

وفي أواخر الحرب العالمية الأولى ابتدأ الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، وأخذ النزاع يتفاقم بين أماني السوريين ومطامع الاستعماريين، وكانت صحافة الجالية كلها تقريباً في جانب فرنسا ومع الصحافة معظم المهاجرين، وكانت العزة الوطنية تظهر في جريدتين اثنتين في كل البرازيل، هما (الزهراوي) للمرحوم جورج أطلس ، و(المقرعة)، وهي لأول شهداء الوطنية في المهجر المرحوم سليم اللبكي، وانضم الشاعر فرحات والأستاذ توفيق ضعون لتحريرها، وأصبحت جريدة الأحرار، وكانت الصحافة العربية الأخرى تشيد بفضل فرنسا على السوريين وعلى العرب وعلى الدنيا كلها، وكان على هذه الجريدة أن تحاربها حرباً لا هوادة فيها داحضين حججها ومظهرين فسادها ومبطلين مزاعمها، ولم يرق لأخصامهم أن تكون نزعة الجريدة وطنية، فكانت مؤامرة دبرت لاغتيال صاحب الجريدة المرحوم سليم اللبكي، إذ اغتاله المدعو إلياس مسرة غدراً بالرصاص، وكان مأتم الشهيد على جانب عظيم من الأهمية، وقد أبنه الشاعر فرحات فقال:

اغمدوا السيف بالتراب خضيبا

حده الحاد بالدماء محنى

يا حسام الأحرار أغمدت غدرا

قبل أن تنجلي العجاجة عنا

إن فوز الأحرار قد صار مضمو

ناً فلا تجزعن ونم مطمئناً

وساء الشاعر أن لايستطيع البقاء في سان باولو بعد أن أنذر بالقتل، وهي المدينة التي شقي فيها وتعذب ونام ليالي دون عشاء، ومع هذا فقد كان يريد أن يبقى فيها قريباً من أصدقائه الأدباء. وسافر إلى ولاية (ماطوغروسو) كمتجول تجاري لمحل السيدين سليم وإبراهيم طعمة.

قصائده الحماسية: ولما اندلعت نيران الثورة في سوريا كان ينظم قصائده الوطنية وينشرها في جريدة الأفكار، ونقلتها جريدة القبلة التي كانت تصدر في مكة مع تقريظ لها بقلم المغفور له الملك حسين، وأرسله المرحوم الملك فيصل إثر نظمه قصيدة بدخول الجيش العربي إلى دمشق.

زواجه: وفي سنة 1920م التقى لأول مرة بالآنسة جوليا ابنة بشارة جبران من بشراي في (الريوناغروبرانا)، وما إن وقعت العين على العين حتى شعرا بخفقان القلبين وتفاهم الروحين، وفي 25 حزيران سنة 1920م أصبحا زوجين، وسافر إلىبيته في (كوروتيبا)، ولقي من والد زوجته كل تعنت، لأنه كان يريد أن يزوجهالأحد رجال المال، لا لشاعر كل ماله أقوال.

نظمه: ابتدأ في كوروتيبا بنظم الرباعيات، وفي سنة 1925م طبع ديوانه باسم (رباعيات فرحات)، وفي سنة 1932م تألفت لجنة من أدباء سان باولو لطبع (ديوان فرحات)، وكان يريد طبعه في جزأين، فأبت عليه اللجنة ذلك، وسيعيد طبعه إذا قدر له ذلك في جزأين يسمي أحدهما (الربيع) والثاني (الصيف)، وسيطبع جزءاً ثالثاً مما اجتمع لديه بعد طبع الديوان ويسميه (الخريف)، ويترك طبع (الشتاء) إلى الوراث، وصدر في عام 1951م ديوانه (أحلام الراعي) عن دار مجلة الشرق بالبرازيل التي وزعته هدية على مشتركيها، وسيبقى ديوانه كذلك حتى يمن الله عليه بمن يطبعه، واسمع قوله في ذلك:

لدي كتب لقل مالي

ما لي إلى طبعها سبيل

إن مت عنها يكون موتي

عن قصر ما لهم كفيل

لا ينظم الشعر إلا عندما يرد عليه من الخواطر السانحة، وينظم ماشياً في السوق، أو مسافراً في الحافلة أو القطار، أو نائماً.

رحلته إلى الأرجنتين: وفي سنة 1933م فجعت الأمة العربية بفقد الملك فيصل الأول، فقامت المآتم بين الجوالي العربية، ودعيت جالية بوينس آيرس للاشتراك بحفلة التأبين، ورافقه الشاعر القروي، وبقي فيها أربعة أشهر ينعم بضيافة الجالية العربية، وعاد من الأرجنتين إلى محل إقامته في (لابا) فوجد خنازيره التي تركها قد ماتت جوعاً في غيابه، واتفق مع صديق له أن يتجول في داخلية الولاية لبيع اللحف، وبعد زواجه صار له بيت خاص يأوي إليه، واقتنى الكتب الأدبية ودوواوين الشعراء، وقرأ القرآن الكريم.

والشعراء يتبعهم الغاوون: وهام حبًّا بسوزانا، وأبدع بوصف محاسنها ووفائها، وتراه في صورته مع كلبته (سوزانا) وهي قرة عينه وسلوته الوحيدة، وقد نكبه الدهر ولم يرحم لوعته فيها، فمرضت سوزانا وماتت، فجزع على فقدها وبكى وفاءها، وتندَّر أصحابه ومعارفه بما جادت به قريحته الفياضة بحقها من رثاء بليغ، وغبطوا (سوزانا)، وتمنوا لو يخلدهم بمراثيه المبكية مثلها، وقد وصف حياته بقوله:

ثلث حياتي شاعر ينظم ما

في نفسه وثلثها فلاح

وثلثها الباقي وسيط فاشل

صعب عليه العرض والإلحاح

فلي من المنظوم ما يدفعه

جمهورنا الشتام والمداح

ولي من المزروع ما يتركه

نمل به يلم أو يجتاح

ولي من المبيع رزق تافه

وصاحب الرزق له الأرباح

والحمد لله فهذي نعمة

ليس لمثلي مثلها يتاح

ما دام عرض المرء موفوراً فما

على زمانٍ باخل جناح

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/170 ـ 172).

الأعلام