إميل البستاني
إميل البستاني([1])
(1907م)
نفس كبيرة عامرة وثابة، تتسامى إلى العلاء ـ ويأبى إلا التحليق في الفضاء ـ محطمة كل ما يعترضها من حواجز وقيود، يساعدها على تذليل الصعاب عقل كبير مفكر، وهمة قعساء لا تكل ولا تذل، وذاكرة عجيبة وقادة ساعدت صاحبها على تحصيل لغات وعلوم ومعارف كثيرة في مدة قصيرة، وهو في فجر الكهولة، ذلك هو العصامي الجبار سليل العباقرة والنوابغ الأستاذ إميل البستاني.
مولده ونشأته: هو ابن مرشد بن فارس البستاني المعلم الشهير والمربي القدير، وعمه العالم العبقري الأديب والسياسي العربي الكبير المرحوم وديع البستاني، ولد في الدبية سنة 1907م، وتلقى علومه في مدارس الأمريكان في صيدا، وفي جامعة عاليه الوطنية، وفي الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان يفوز كل سنة سحابة العهد الدراسي بالجائزة الخطابية السنوية التي خصصتها دار الهلال لكلية الجامعة.وبعد أن أحرز شهادة بكالوريوس في العلوم والآداب من الجامعة الأمريكية سافر إلى رام الله في فلسطين يتعاطى تدريس الرياضيات، ثم عاد إلى الجامعة الأمريكية يزاول التدريس مع التخصص في علم (الفلك) والعلوم الرياضية العالمية، ففاز برتبة معلم علوم، وكان الموضوع الذي نال عليه اللقب يتعلق في كيان الشمس والمتفجرات الذرية، وقد دل على تعمق ومقدرة سامية.
في الولايات المتحدة: سافر إلى الولايات المتحدة فدخل جامعة بوسطن، وهي أكبر معهد للهندسة في العالم، فظفر بتفوق عظيم بشهادة الهندسة ورتب الجامعة، وكان موضع الإعجاب بمواهبه ومواقفه الخطابية.
ولما عاد من أمريكا عين مهندساً في شركة بترول العراق، وفاز بعظيم إعجابها وتقديرها، ثم ترك خدمتها وأصبح من أشهر المقاولين لها، وأسس شركة للمقاولات والتجارة، ولها فروع في الأقطار العربية وأوروبا، وهي التي أتمت إنشاء خط البترول الجديد من كركوك إلى طرابلس، وطوله نحو 900 كيلو متر خلال مدة إحدى عشر شهراً.
السياسي الأديب: وفي 15 نيسان 1951م انتخب العصامي الفذ نائباً للشوف في المجلس النيابي اللبناني، وقد أبدى نشاطاً سياسيًّا بارزاً، فهو عظيم في صراحته وجرأته وصدق مبادئه، يتلهب غيرة على الأمة والوطن، ويحس ويشعر بأن منافع الوطن مقدمة على المنافع الذاتية، وهذه العاطفة النبيلة جعلته محط الأنظار، فانعقدت على جبروت عقيدته المثالية الآمال الجسام، ونبه المستغرقين في الهجود الذين في آذانهم وقر وفي طبائعهم جحود إلى التجرد والإخلاص في العمل لصالح الأمة والوطن، وهـو مـع وفـرة أعماله الخاصة أديب، يخطب ويكتـب ويحاضر في كل موضوع، وقد أذاع عدة محاضرات علمية وأدبية، ومن أبرز ما كتبه في جريدة التايمز اللندنية يخاطب الرأي العام البريطاني ناصحاً أن من الصواب لمصلحتهم عدم تعاونهم مع إسرائيل دون العرب في الشرق العربي، وأثبت أنه عدو الاستعمار تحت سماء الشرق.
وقد انتخب رئيساً لجمعية متخرجي الجامعة الأمريكية في بيروت، أما نفوذه السياسي، فيتجلى بفوز قائمته الانتخابية فوزاً ساحقاً عن عقيدة منزهة عن الرهبة والمادة، فانتخب في عام 1953م نائباً لدائرة دير القمر ـ شحيم ـ في المجلس النيابي التاسع.
آثاره العملية: ألف رسالات خطيرة الشأن في مواضيعها، وهي:
1 ـ العرب والغرب وسياسة لبنان الخارجية، وقد أوضح فيها رأيه بصراحته المعهودة، وأظهر الضرورة الملحة لاستعادة بريطانيا والولايات المتحدة ثقة العرب، ملقياً التبعة بذلك على الدول الغربية نفسها، وذلك عند انعقاد مؤتمر الدبلوماسيين البريطانيين في بيروت.
2 ـ أضواء على سياسة الغرب في العالم العربي، وهو موضوع يبحث عما رآه في رحلته إلى إنكلترا، وأنه لمس في لندن تبدلًا أساسيًّا في السياسة البريطانية حيال البلاد العربية، وأن الصهيونية العالمية غذت هذه المعارضة وآزرتها وساهمت في الدفاع عن النظرية القائلة بأن الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط يجب أن تتولاه القوات البريطانية بالاشتراك مع حلفاء بريطانيا الغربيين، وأشار إلى الخطأ الفادح الذي ارتكبته بريطانيا في الشرق الأوسط ورسمها خطة اتجاه سلبي في سياستها.
3 ـ رسالة حول الموازنة اللبنانية لعام 1955م.
4 ـ المعارضة في جلسة الثقة بحكومة دولة الرئيس سامي الصلح، وكان موضوع محاضرته تعديل الدستور، وإلغاء الطائفية، وبعث الجامعة العربية، والقضاء على الفساد.
5 ـ محاضرة بعنوان من أجل مستقبل أفضل للبنان، وقد تحدث فيها بمواضيع شتى.
6 ـ محاضرة على لبنان والعالم العربي.
7 ـ محاضرة بعنوان (الصراحة أساس كل عمل)، وفيها مناقشة للحكومة في سياستها الداخلية والخارجية.
8 ـ محاضرة عن قضية الضباط اليهود بلبنان، وقد أثار في الندوة النيابية قصة وجود بعض الضباط اليهود في الجيش اللبناني، كان لها أبلغ الأثر.
أريحيته: هو محسان عظيم، أتحفه الله للمجتمع لتنعم الإنسانية من شذا مكارمه، فهو بمفرده أمة في رجل، وقد طغت شهرة مكارمه وأريحيته على كل أعماله، فتبرع بأموال وافرة لشتى الأعمال الحيوية والعمرانية والإنسانية، وفي مختلف سبل الخير والبر، ومن فضائله أنه اختار عدداً من الأولاد النجباء من قريتي والده ووالدته وجوارهما وأرسلهم إلى المدراس يعلمهم على نفقته إحياء لذكرى والديه، ووفاء بحق فضلهما عليه، وقد تحدثت الصحف البارزة، فأشادت بأخلاقه الفاضلة ومآثره وآثاره الحميدة، والمال في نظر هذا العصامي المحسان هو مشاريع ينتفع منها الناس، وقد أوسع الله في رزقه بفضل ما تحلى به من جود وصدق، وجعل غيره يغنم ليعيش.
يتمتع هذا العَلَم بشهرة عالمية بارزة، فلما تم طبع المهبراتة التي جادت بها أعظم قريحة من نوابغ العرب ـ وهو المرحوم وديع البستاني عم صاحب هذه الترجمة ـ حمل نسخة منها وطار بها إلى الهند يقدمها لحكومتها، فكان لهذه البادرة وقعها الحسن لدى حكومة الهند وشعبها، وقد لقي من الحفاوة والتكريم ما يليق بأمثاله من الرجال العظام.
على أن التاريخ العلمي والأدبي الذي هو أمام أسرة عربية عز نظير عبقريات أفرادها بين الأسر ليسجل بمداد الفخر أندى يد أنجبتها العائلة البستانية في المكارم والفضائل بين البشر؛ لمؤازرته بإخراج الدرر من مؤلفات نوابغ أسرته التي ما زالت مخطوطة، والتي هي ركن الطارف والتالد للمكتبة العربية.
* * *