جاري التحميل

أمين بن خالد الجندي

الأعلام

أمين بن خالد الجندي([1])

الشاعر الخالد والفنان العبقري والداعية لمجد العرب

مراحل حياة المرحوم الشيخ أمين الجندي الفذة

هو ابن السيد خالد بن السيد محمد الجندي العباسي، ولد في حمص سنة 1180 هجرية الموافقة لسنة 1764 ميلادية، وعاش بكنف والده الذي كان حاكماً فأحسن تربيته، وقد درس على علماء عصره وأدباء زمانه، ثم انتقل إلى دمشق وأخذ عن علمائها، وفي طليعتهم العلامة الصوفي المشهور الشيخ عمر اليافي، ثم عاد إلى حمص، وكانت علائم النبوغ والذكاء الفطري والميل لنظم الشعر تتقد مواهبها فيه كالكوكب الدري منذ صغره، وقد نظم الشعر وبرع به، وللمرحوم من الشعر ما لا يحصى، وكان له منظومات بكل بلد وجد بها، فشعره بحلب لا يعرفه أبناء حمص، وقس على ذلك، وشعره المحفوظ في الصدور بالنسبة لشعر ديوانه هو كثير من قليل.

الوضع السياسي الخطير في عهده: كانت صلة المرحوم الشاعر الشيخ أمين الجندي بعهدين خطيرين مرت أحداثهما على الأقطار العربية، كانت خلالهما مسرحاً لحرب دامت سبع سنوات بين الأتراك ومحمد علي باشا والي مصر، فقد كان يجول بفكر القائد العظيم محمد علي باشا بعد أن استولى على مصر تأسيس الإمبراطورية العربية، ولما كان المشار إليه لا يحسن اللغة العربية أوفد ابنه القائد العظيم إبراهيم باشا الذي يحسن اللغة العربية، وله باع طويل بالسياسة والتفرس بأخلاق الناس، ولأن همه الوحيد الأمنية الغالية التي كان يأمل تحقيقها محمد علي باشا، وبما أن المترجم الشيخ أمين الجندي كان من أهم الدعاة لفكرة تحرير العرب من نير الأتراك فقد استدعاه وقربه وجعله من خاصته ومستشاريه لا لسبب أنه شاعر القرن الثامن عشر كما ذكره المرحوم جرجي زيدان في تاريخه، بل للسبب المذكور آنفاً، ثم كانت الدول الأجنبية تحيك الدسائس للإيقاع بينهما حتى كانت الواقعة، فاكتسح إبراهيم باشا المصري بجيوشه فلسطين وسوريا، وتغلغل في قلب الأناضول،وكانت جيوش السلطان محمود الثاني بقيادة حسين باشا تتراجع أمام ضربات الجيش المصري، ولولا تدخل الدول الكبيرة وإجبارها محمد علي باشا على الانسحاب من البلاد التركية والعربية لاحتل عاصمة الخلافة وتحول مجرى التاريخ، وقد ذكر الشيخ أمين الجندي هذا الانهزام بقصيدة لم تنشر في ديوانه، نذكر منها قوله:

هذا ولما فاض جور الترك في

ظلم العباد وصار أمراً مشكلا

وتظاهرت أعمالهم بمقاصد

ومظالم وحوادث لن تقبلا

سلبوا البلاد من العباد فلا ترى

في حكمهم ذا نعمة متمولا

والملك ملك الله يؤتيه لمن

قد شاء لا هو بالوراثة والولا

من يخبر الأتراك أن جيوشهم

هزمت وأن (حُسَينهم) ولى إلى

علاقة الشيخ أمين بالفاتح المصري: لقد ذكر المؤرخ جرجي زيدان أن الشيخ أمين الجندي هو شاعر القرن الثامن عشر دون منازع، وقد سمع إبراهيم باشا قائد الحملة المصرية بشهرته، وتوثقت عرى الصداقة بينهما فكان لا يفارقه، وقد حضر معه أكثر المعارك الحربية، وكان يهنأ بمنادمته ويستبشر خيراً بقربه، ولا يرد له رجاء، وكان هذا القائد العظيم أسداً مهاباً تعتري الرعشة من يرمقه أو يتحدث إليه، ولا يستطيع التغلب على هذه الرعشة إلا من أوتي جناناً ثابتاً، وحباه الله منطقاًساحراً ومواهب علمية فذة، وكانت نشوة الظفر تؤثر على عاطفته، فيأمر بإحضار المطربين فينشدونه الأدوار والموشحات والقصائد وهم وقوف بحضرته وبجانبه الشيخ أمين الجندي الذي كان يلقى منه كل إجلال وتكريم.

سفره إلى مصر: سافر الفاتح إبراهيم باشا لمقابلة والده في مصر والتحدث معه في الشؤون الخطيرة المتعلقة بمصير الأقطار العربية التي افتتحها بسيفه، فاصطحب معه الشيخ الجندي مرتين، ولما حظي بمقابلة والده قال له: لقد أتيت لك بأعز هدية من البلاد الشامية، وقدم إليه الشيخ أمين الجندي، فلقي بالغ الحفاوة والإكرام، وقد توافد على قصر الخديوي أكابر القوم وفطاحل العلماء والشعراء والأدباء للسلام والتعرف على الشيخ أمين الذي طبقت شهرته الأقطار العربية، فكان إعجابهم بعلمه وشعره عظيماً، واتفق أن محمد علي باشا كان يبني في ذلك العهد جامع القلعة في القاهرة، فطلب إبراهيم باشا من الشيخ الأمين أن ينظم تاريخاً شعريًّا لبناء الجامع، فقال:

عروس كنوز قد تحلت بعسجد


مكللة تيجانها بالزبرجد

أم الجنة العليا ترفرف قاعها

بأبهج ياقوت وأبهى زمرد

إقامته بحلب: ولما عاد إبراهيم باشا إلى سوريا دعته الظروف والاعتبارات العسكرية أن يتخذ حلب مركزاً لتوجيه حملاته العسكرية استعداداً لفتح بلاد الأناضول، فأقام فيها مدة طويلة ومعه الشيخ أمين، وقد مدحه على إثر انتصاراته في المعارك الحربية التاريخية بقصيدة مطلعها:

توق ابتسام الليث في موقف الخطر


وخف بأسه إن غاب يوماً وإن حضر

إلى أن قال:

وليس كإبراهيم في موقف الوغى


هزبراً يري الأعداء حلماً إذا اقتدر

همام تهاب الأسد سطوة بأسه

وترجف منه الراسيات إذا زأر

أما أهل الفن في حلب فقد التفوا حول الشيخ أمين الجندي وأخذوا عنه موشحاته المطربة التي ما زالوا يتغنون بها، وهي محتفظة برونقها وطابعها الأصليين:

تزهو بخد وقد

من نور وجد وقد

ضيعت عمري وقد

خالفت عذاليا

مرت كريح الصبا

في الركب تشدو الصبا

لا كان قلب صبا

لحبها ساليا

لاحت بوجه سما

يفوق بدر السما

أما ترى المبسما

بدره حاليا

ما لي وللحاجب

عن وصلها حاجب

والنون بالحاجب
 

من الردى خاليا

على النوى مذ نوى

مدمدماً بالنوى

طرحت طرح النوى

سواه من باليا

وكذلك كان يغني الناس:

زين الكوادر ردا


شاكل على الخد

فقال رحمه الله:

يا قاتلي بالجفا


قتل الشجي ما حل

من حل حبل اصطباري

في الهوى من حل

أفدي حبيباً هوا

ه في فؤادي حل

وسيف ألحاظه قلبي لقد قد

وكذلك يتغنون بـ:

جوجحتني مرجحتني


دوختني دللتني

فقال:

هيمتني تيمتني


عن سواها أشغلتني

أخت شمس ذات أنس

لا بكأس أسكرتني

لست أسلوها ولو في

نار الهجر سلتني

وبقليل من التأمل في هذه الأدوار يظهر لنا جليًّا ما عليه أدوار الشيخ أمين الجندي من الفصاحة والبلاغة، وما هو كائن فيما عارضه من الانحطاط، وأمثال ذلك إذا جرى البحث عنه احتاج لزمن طويل.

أما موشحاته الخالدة فقد اشتهرت وانتشرت في أنحاء الأقطار العربية، وتعتبر مدينة حلب أكثر البلاد العربية تذوقاً وتمسكاً بحفظ موشحاته بأوزانها ومعناها ومغناها.

وعندما توجه الفاتح العظيم إبراهيم باشا إلى لبنان عن طريق حمص ـ طرابلس لزيارة صديقه الأمير المرحوم بشير الشهابي الذي كان حليفه من جملة من انضم إليه ضد الأتراك كان يرافقه في هذه الرحلة الشيخ أمين الجندي، ومكثوا في ضيافته مدة، ثم عادوا إلى حمص، وجرى لهم استقبال تاريخي حافل.

انسحاب الجيش المصري: وفي عام 1840 ميلادية تلقى إبراهيم باشا السيد عبد الله بن حسين الجندي ـ وكان من أحب المقربين إليه ـ بالذهاب معه إلى مصر والإقامة فيها، ومناه بإعطائه الأطيان والأملاك، ورضي هذا معه لولا إلحاح الشيخ أمين رحمه الله بإعفائه من السفر معه، وقد منحه عدة قرى بمراسيم لا تزال محفوظة لدى ورثته وموقعة بتوقيعه الخاص (سلام على إبراهيم)، وقد وقع أثناء انسحاب الجيش المصري بعض حوادث النهب والسلب في البلاد إلا حمص، فإنها سلمت من الاعتداء بفضل الشيخ أمين وحاكمها عبد الله الجندي المذكور، وقد مدحه الشيخ أمين بقصيدة هذه بعض أبياتها:

عج للمدام نديمي وامل لي القدحا


ففي الحشاة زناد الشوق قد قدحا

إلامَ تحسر عني الكأس معتقداً

تحريم راح يزيل الهم والترحا

ومنها:

ملثم بالثريا نور غرته


يريك تحت غمام النقع شمس ضحى

موقفـه مـع الأتراك بعـد انسـحاب الجيش المصري: لمـا كـان الشـيخ أميـن رحمه الله هو الداعية الأكبر لمجد العرب وتأييد الفاتح إبراهيم باشا المصري فقد كان موضع سخط الخليفة التركي الذي اهتم بأمره وأوفد أحد وزرائه الأشداء للقبض عليه، ولما بلغ الشيخ أمين أن الوزير الموفد قد نزل ضيفاً على نقيب الأشراف من عائلة الكيلاني بحماة ركب من حمص لمقابلته دون أن يخشى عاقبة الأمر، ولما دخلالمجلس خشعت أبصار الجميع تهيباً وإجلالًا لمقدمه الفجائي الذي كان بالنسبة لآل الكيلاني مفاجأة مهلكة، وخشوا أن تنالهم نقمة الحكومة بسبب صداقتهم معه، وخاطب الوزير التركي معرفاً بنفسه (أنا أمين الجندي الذي جئتم للقبض عليه)، ولما رأى الوزير التركي جرأته ومحياه الوقور تهيب زعامته ونفوذه وأدناه منه، وتحدث إليه في شتى المواضيع، وسافر معه في عربته الخاصة إلى حمص فدمشق، وظن الناس أنه قضي عليه لا محالة، ولما انجلت للوزير التركي حقيقة الأمر كتب إلى الخليفة يخبره باجتماعه مع الشيخ أمين وأن ما أسند إليه من أوضاع تخالف الحقيقة والواقع، فصدرت إرادة السلطان بالعفو عنه، ومدحه بالقصيدة الآتية، فحملها الوزير الموفد إلى الخليفة، وهي (وافتك بالعز خود زانها الطول)، وكان اجتماعه بالوزير التركي حديث الناس، وقال بأن سحر بيانه وفرط ذكائه وجرأته كانت السبب في نجاته من نقمة الأتراك.

الداعية الأكبر: ولم تقف بالشيخ أمين همته عند هذا الحد من التقدم في النظم والنثر، بل تعدتها إلى السياسة ومطالبة أولي الأمر بما يراه من موجبات الإصلاح، فكما عرفناه شاعراً أديباً كذلك رأيناه سياسيًّا محنكاً ووطنيًّا يعمل لصالح وطنه وبلاده.

ولما كانت آنذاك أمور الحج ودفاتر المحاسبة المالية بيد اليهود، وكانوا يكتبون الداخل والمصروف منها باللغة العبرية؛ فقد بعث بقصيدته المشهورة إلى السلطان محمود الذي أمر بالتحقيق وإقصاء اليهود من أعمال الدولة، وقلب دفاتر المحاسبةالمحررة باللغة العبرية إلى اللغة العربية، وإصلاح كل خلل، وهذه بعض أبيات من القصيدة المدرجة في ديوانه:

وافتك بالعز خوذ زانها الطول


بديعة لحظها بالسحر مكحول

ومنها:

تشكو لعلياه ما قاست رعيَّته

من اليهود وعقد الصبر محلول

حيث الدفاتر عبرانية رقمت

خلاف ألسننا والحال مجهول

وليس تعلم أتراك ولا عرب

ما خطَّ فيها ولا المنقول معقول

أموال عكة ماذا تصنعون بها

ما آن أخذ لها ما آن تحصيل

فكيف ترجون صدقاً باليهود وهم

قوم لئام ملاعين مناكيل

كم بالربا سحبوا ذيل الخراب على

تلك البلاد وكم قالوا لهم زولوا

إلى أن قال:

فالسيف في الغمد يخشى وهو منجدل


فكيف وهو بكف الليث مسلول

وكان رحمه الله إذا جادل أو ساجل كالبحر تدفقاً واندفاعاً، قوي الإرادة جبارها، كبير النفس مهيباً، جسوراً على المكاره والشدائد، عظيم التأثير جذاباً، وهو الذي قصم ظهور أعدائه فتكسرت سهامهم عند قدميه، وطغت عظمته على الحادثات، وهذا العبقري الخالد والداعية الأكبر الذي خدم أمته ووطنه لا تحد من حياته الأخطار، بل ستبقى أعماله ودروسه خالدات فيها ذكرى وعبرة للذاكرين، فهو دنيا تولَّت وبركان خبا، والبقاء للواحد القهار.

بعض منظوماته التي لم تدرج في ديوانه: وإثباتاً لما ذكرته بوجود منظومات شعرية كثيرة محفوظة في الصدور لم تذكر في ديوانه المطبوع فإني أورد هنا بعض أبيات شطَّرها وخمَّسها من قصائد الشعراء، فقد طلب منه تشطير بيت من قصيدة ابن الوردي بمناسبة واقعية، الأصل:

أنا لا أختار تقبيل يد


قطعها أجمل من تلك القبل

فقال الشيخ أمين رحمه الله مشطراً:

(أنا لا أختار تقبيل يد)


ما انتضت عضباً ولا هزت أسل

ويدٌ شحَّت وما سحَّت ندى

(قطعها أجمل من تلك القبل)

ويطيب لي أن أوجه الأنظار إلى ما في هذا البيت الرائع من معنى ومغزى.

ومن قول عنترة في قصيدته المشهورة:

لي النفوس وللطير اللحوم وللـ

ـوحش العظام وللخيالة السلب

فقال الشيخ أمين معلقاً:

والشعر للريح إن هبت عليه وللـ

أرض الدما ولأهل الميت الحرب

وقال الشيخ أمين مخمساً قول عنترة:

أنا دون وصلك يا مليحة باذل

روحي ولو أن الأنام عواذل

هيهات يشغلني بحبك شاغل

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي



لك قامة لا زلت أعشق لدنها

ولأجلها أهوى الرماح وطعنها

يا ظبية ضحكت فأبدت سنها

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم



وفاته: وفي شهر شوال سنة 1256ﻫ ـ 1840م دعاه ربه إلى منازله العلية، ودفن بمقبرة عائلته في حمص بجوار الصحابي العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وممن رثاه من الشعراء عالم حمص وخطيبها البليغ المرحوم الشيخ زكريا الملوحي حيث قال:

عيون الدهر تهطل كالسحاب


لفقد الحبر والأسد المهاب

على الشعرا أمين كان شمساً

وكيف الشمس تغرب في التراب

بأعلى جنة الفردوس أضحى

أمين بالبهاء وبالثواب

  ورثاه الشاعر المرحوم عمر المعري بقصيدة وأرَّخ وفاته بقوله:

دعيت لساحة الإحسان أرّخ


أمين الحب في عدن تقرر

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/27 ـ 30).

الأعلام