جاري التحميل

أمين بن محمد الجندي

الأعلام

أمين بن محمد الجندي([1])

العالم المشرع الخالد في شعره وفنونه المرحوم أمين الجندي مفتي دمشق

لقد سبق أن تحدثت عن الشاعر الفنان الخالد المرحوم الشيخ أمين الجندي الحمصي، وقد تلقيت رسائل عدة يستوضح فيها أصحابها عن المرحوم أمين الجندي مفتي دمشق ودرجة قرابته من الأول، ومنهم من اختلط عليه الأمر واعتقد بأنهما شخصية واحدة، وقد أحببت قبل التحدث عن الأمين الثاني أن ألفت نظر القراء الكرام إلى أنه لا يطلب من مثلي أن يكون فصيحاً بليغاً بقدر ما يطلب منه أن يكون مخلصاً في دعوته معبراً عن الحقائق بشعوره، فأنا أنفر من الكتابة بالسجع المنثور، فهذا النسق يعيق الإنتاج، واللغة العربية يجب أن تتحرر من التزمت في اختيار الألفاظ، فإن كان للشعر أوزانه التي يعمل في حدودها الشعراء فكذلك للفن أهله وقوافيه، وإني لا أحجم عن نقد من يهفو ولا عن مهاجمة من تسول له نفسه التطفل على الفن ويضع قدمه في ميدانه موضع الانزلاق، ورحم الله الفنان البطش حيث قال: إن العزة لا تأخذه إلا عندما يخوض في ميدان شائك لا يستطيع اقتحامه إلا فرسانه.

أصله: هو أمين بن محمد بن عبد الوهاب بن إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد الجندي العباسي، ولد في المعرة سنة 1229 هجرية و1813 ميلادية، ويتصل نسبه بالمرحوم الشاعر الشيخ أمين الجندي الحمصي بالجد الأكبر محمد الجندي.

نشأته: كان والده مفتياً في معرة النعمان، فنشأ بكنفه، فأحسن تهذيبه وتربيته وتثقيفه وتعليمه، تلقى شتى العلوم فكان آية في النبوغ، وظهرت مواهبه وتفوق على أقرانه وهو فتى، ودل على أن الكفاءات الشخصية تفوق الكفاءات المكتسبة، ثم سافر إلى حلب وأخذ العلم عن أجل علمائها، منهم مفتي حلب الشيخ عبد الرحمن المدرس، وأخذ الحديث عن الشيخ محمود المرعشي، فكان حجة في العلوم العقلية والنقلية.

سفره إلى حمص: وفي سنة 1240 هجرية اقتضت لوالده مصالح خاصة فسافر معه إلى حمص، وأقام فيها إلى سنة 1248هجرية، وأقبل على طلب العلم، واستفاد بعد إعداده العلمي الرصين من الأدباء المعاصرين له، ثم عاد مع أبيه إلى معرة النعمان، وفي سنة 1253 هجرية تقلد فيها منصب القضاء.

مواقف الحساد: وقد شق على الحساد أن يروا المترجم في منصب القضاء، فبدأت حركات الدس والافتراء تظهر للوجود، على أن أميناً لم يهن ولم يتزعزع، فكان اسمه يلقي الرعب في قلوب أخصامه وحساده.

وفي عام 1260م حضر مع والده إلى الشام بطلب من واليها لأمر سياسي اقتضى ذلك، وتبلغا في عام 1262م الفرمان السلطاني بإقامتهما الإجبارية في الشام، فكان المترجم ووالده محط أنظار العلماء والأدباء والشعراء، وموضع احترامهم وإجلالهم.

وقد مضت بالفقيد الحياة في عبوس، فكان يطأ العراقيل بقدمه ويتخطاها كأنها طريق معبد انتشرت فيه الورود والرياحين.

العودة إلى معرة النعمان: وقد توسط محمد نامق باشا مشير الجيش الخامس بأمرهما، فصدر العفو عنهما، فعاد ووالده إلى معرة النعمان، فدخلاها في غرة شهر ربيع الأول سنة 1263 هجرية، واستقبلا كالفاتحين بعد غياب دام زهاء ثلاث سنوات، وتوجه على أبيه منصب الإفتاء وعليه منصب القضاء.

توليه الإفتاء في المعرة: وفي يوم الإثنين الرابع عشر من شهر شوال سنة 1264 هجرية استطالت يد المنون والده، فتوجه إليه منصب الإفتاء، وبقي فيه إلى سنة 1266هجرية، فكان فيه حر التفكير لا يربطه ولا يقيده إلا منطقه الخاص، فلا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه.

نقله إلى دمشق: وبزغت شموس مواهبه ومجده، فاشتهر أمره وذاع صيته، فاستدعاه إلى دمشق محمد أمين باشا مشير الجيش الخامس، وأعجب بعلمه وشعره ونثره، وتضلعه باللغات التركية والفارسية والعربية، وقربه وأعزه، وجعله أمين سره في الجيش، وبقي في هذه الوظيفة في عهود المشيرين المتتابعين، ثم التحق بالجيش الأرزنجاني، وأقام هناك مدة أربعة أشهر.

وفي عام 1274 هجرية توجه بالإذن إلى استانبول، وأقام فيها مدة خمسة أشهر تعرف خلالها على فضائلها، وعاد بعدها إلى دمشق، وفي عام 1276 هجرية سافر مرة أخرى إلى استانبول، وأقام فيها مدة أربعة أشهر، ثم عاد إلى الشام لأمانة السر في الجيش العربي.

توليه الإفتاء بدمشق: وعلى إثر وقوع حادثة النصارى في لبنان وامتداد شرارتها إلى الشام حضر فؤاد باشا وزير الخارجية وزيراً مفوضاً فوق العادة للتحقيق وإصلاح ما وقع، وأخذ المترجم مستشاراً له، وتجلت له عبقريته ومواهبه العلمية، فانتخبه إلى إفتاء الشام، وورد المنشور العالي في شهر جمادى الأولى سنة 1277هجرية.

تعيينه في مجلس شورى الدولة: ثم تولى ولاية الشام محمد راشد باشا الشرواني سنة 1279 هجرية و1860 ميلادية، وكانت بينهما مودة سابقة وصحبة أكيدة، وكانا منتسبين إلى علي فؤاد باشا الصغير، فلم تمض أيام قلائل حتى تضافرت جهود الحاسدين على محاربته، فكتب الوالي الشرواني إلى دار الخلافة بلزوم عزل أمين الجندي من منصب الإفتاء وإسدائه إلى المرحوم الشيخ محمود حمزة بدون سبب، فأقام في بيته، ثم دعا الوالي أدباء دمشق وشعراءها وفضلاءها إلى محفل عظيم، ومنهم أمين الجندي، ولم يتخلف عن قبول الدعوة بالرغم مما بينهما من اغبرار تفادياً من تأويل الحاسدين وشماتتهم، ولما اكتمل عقد الحضور أخرج الباشا ورقة حاوية على بيت من الشعر، وهو:

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

عند التقلب في أنيابها العطب

وطلب من الشعراء الحاضرين تخميسه، وكان قصده ظاهراً أن يقف على بداهة الشعراء منهم، وباطناً التبكيت على أمين الجندي خاصة، فأخذ الشعراء يتبارون في ذلك، وأظهر كل واحد منهم ما جادت به قريحته الشعرية، وأما أمين الجندي فإنه امتنع عن تخميسه واعتذر بقلة البضاعة واشتغال البال، فلم يقبل اعتذاره، وألح عليه الحاضرون بتخميسه، ولما لم يجد بدًّا من ذلك أخذ القلم وكتب ارتجالاً:

لا تغترر بليال نام حارسها

ولا بدولة فسق أنت فارسها

واحذر أسود الوغى يوماً تدانسها

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

عند التقلب في نيابها العطب

ناول الورقة للوالي، فلما قرأها خجل خجلاً زائداً، وندم على ما فرط منه بحق صديقه، واشتهر أمر تخميس هذا البيت الذي تجاوز فيه حد الإعجاب إلى الإعجاز بين الأوساط الأدبية لما حواه من رد مفحم.

وعيِّن في مجلس شورى الدولة، فكان أحد أعضائه، فسافر إلى استانبول بتاريخ 15 ربيع الأول 1285هجرية، واستلم مهام وظيفته، فكان المرجع الذي كانت تجتمع حوله مفارق الطرق وتلتقي عنده الأطراف، فالسلطات التشريعية كلها كانت تنزل المترجم في منزلة الثقة والتقدير، وكانت تفترق في كل شيء ثم تتلاقى في موقف من المواقف على يديه، وكان أكثر الأعضاء نشاطاً وإنتاجاً، وأقلهم سعياً وراء الدعاية والإعلان، وأبعدهم عن مهاترات الجدل غير المجدي، ومنح أسمى الرتب الملكية تقديراً لخدماته الجلى في حقلي التشريع والتأليف.

وفاة ولده: وشاء الدهر أن يعكر صفوه، فقد تلقى في غرة ذي القعدة سنة 1285 هجرية نعي ولده المرحوم محمد ذكي، فهزه الحزن والأسى، وسافر مأذوناً إلى دمشق، وبقي فيها مدة أربعة أشهر لتنظيم شؤونه الخاصة، ثم عاد إلى الأستانة مع أهل بيته.

رسول السلم والتنظيم: وفي رمضان سنة 1287هجرية ثار على الدولة عاصياً أمير جبل عسير المجاور لليمن المدعو محمد باشا بن غائض، وجمع كثيراً من القبائل، وحاصر الحديدة، وصدرت الإرادة بسوق الفرق العسكرية برئاسة الفريق رديف باشا لتأديب الثائرين، وعين المترجم قاضياً له، ثم عهدت إليه الدولة برئاسة مجلس تشكيل ولاية اليمن، فقام بهذه المهمة الخطيرة أحسن قيام، فأخمد الثورة وأصلح الإدارة والأمور، ومع قربه من مجرى الحوادث كان أبرز الذين سبق أن أوفدتهم الحكومة إلى اليمن إخلاصاً ونشاطاً وتأثيراً، وأشرفهم نزاهة وأخلاقاً، وأعظمهم اعتداداً بالكرامة، ثم عاد إلى دمشق فعهد إليه برئاسة ديوان محكمة التمييز.

صفاته: من أبرز العناصر التي تتكون منها عظمة الفقيد الفذ تواضعه وطموحه، وهذه الصفة من أكبر العوامل التي أدت لرفعته، كريم في خلقه مع أصدقائه ومعارفه، وكريم في يده، هذه اليد الكريمة التي تعطي دون منٍّ مع من يتحقق أنه معوز ويحتاج إلى العون، برٌّ بأهله وذويه، سريع البديهة والإلهام، يتناول الموضوع بالتلميح، فيغني عن التصريح، وإذا أُحرج تخلص من الموقف كالشعرة من العجين، كل ذلك بقوة بيان قلَّ من وهب مثلها، متعه الله بإيمان قوي وشخصية جذابة، يعرف كيف ينتهز الفرص ويذلل الصعوبات، أُوتي القدرة على حل المشكلات دون إجهاد.

كان رحمه الله رجلاً يملأ العين والنفس هيبة وسمتاً مع سماحة في محياه وبشاشة في قسماته وتعبيراته، قويًّا طاغياً في جرأته التي لا تعبأ بالحادثات والعقبات.

لقد جمع إلى حدة الذهن وذكاء القريحة رباطة الجأش وسعة الصدر، فكان هذا المزاج من أكبر عوامل فوزه على أخصامه، لأنه لم يكن يغضب، وإذا غضب كظم، فلا يؤثر غضبه على قريحته، في عينيه سحر وذكاء، وفيهما عبقرية لا تستطاعترجمتها بالألفاظ.

تآليفه: له من المؤلفات النظمية والنثرية باللغات العربية والفارسية والتركية الشيء الكثير، وأبرزها كتاب في اللغة التركية (في فضل الشام)، وتعريب كتاب (علم الحال نظماً ونثراً)، وله منظومة رائعة في أسماء أهل بدر الكرام، وديوان شعري عزَّ نظيره، وقد نبغ في الشعر العاطفي والديني والصوفي التأملي، ومن شـعره الجيـد قصيدة فـي الغـزل نقتـطف منهـا قوله ـ ولا عجب بذلك فوالده رحمه الله كان شاعراً بليغاً ـ :

بدا وجهها في ظلمة الليل كالبدر


ونمّ عليها عابق الطيب والعطر

وبشرنا بالوصل عند ابتسامها

بريق ثناياها الشبيهة بالدر

نهضت إليها فانثنت بلطافة

تقبلني والدمع من فوقها يجري

ومن قوله مضمناً:

قالوا عذار الحبيب غطَّى

ديباجة الخد قلت حسبي

قد كف فيه العذول عني

وإن هذا من فضل ربي

ومن قصائده التي مدح بها السلطان عبد المجيد خان بمناسبة إجلاء الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا من البلاد الشامية قوله:

ملكٌ به افتخر السرير وأُخمدت

بجلوسه فتنٌ بها الكون امتلا

من آل عثمان الأكارم من بنوا

في المجد بيتاً لا يزال مؤثلا

وقد عارض المترجم رحمه الله بقصيدته هذه ابن عمه الشاعر المرحوم الشيخ أمين الجندي الحمصي الذي هجا الأتراك بقصيدة منها قوله:

هذا ولما فاض جور الترك في

ظلم العباد وصار أمراً مشكلا

وتظاهرت أعمالهم بمفاسد

ومظالم وحوادث لن تقبلا

ويتضح للقارئ أن القصيدتين من بحر وقافية واحدة.

فنه: لقد تأثر الفقيد بفنون ابن عمه الشاعر الشيخ أمين الجندي لما أقام مع والده في حمص من سنة 1240 إلى سنة 1248 هجرية، ولازمه خلالها في كل مناسبة، وله منظومات كثيرة من الموشحات والمواليات، منها قوله:

من قصتي سطّرت بين الورى أوراق

ولم أجد في الهوى من عاذل أو راق

غنَّت على الغصن في جنح الدجى أوراق

فأذكرتني ليالي كنت ناسيها

وما تكدر من عيشي بها أو راق

ومن موشحاته البديعة قوله:

شادن تاه على بدر السما

وتجلى برداء سندسي

وببيض اللحظ والسمر حما

خمر ريق في ثغير ألعس

واقترح عليه بعض أعيان حماة في موقف بمدح خال ملاصق لشفة المحبوب، فقال ارتجالًا:

من الزنج خال في رياض خدوده

أقام زماناً في النعيم المكمَّل

رأى وردة فاقت فرام اغتيالها

فصادفه وشي العذار المسلسل

فقيده في جانب الثغر حارساً

فوا عجباً لص على الدر قد ولي

خطبه: لقد كان رحمه الله أبلغ الخطباء في عهده، وأعظمهم أثراً في النفوس وامتلاكاً لناصية الكلام، وكانت خطبه شهيرة مفعمة بآيات الحق والهدى واليقين، تتفجر من فمه الألفاظ خارقة قوية واضحة سريعة، رنين التنوين فيها كرنين القضاء المحتوم.

ملازمة العلماء والشعراء إليه: كانت داره في دمشق مهبط الوحي والإلهام الأدبي، ومرتع العلماء والشعراء والفضلاء، فقد كان رحمه الله تاجاً على رأس الزمن، وجادت قرائح الشعراء في مدحه، واسمع ما قاله الشاعر الهلالي في قصيدته الرائية الشهيرة:

ما لي بذي الدنيا إذا عضني الدْ

دَهر الخؤون سوى الأمين نصير

سعد الزمان بديعه وعصامه

فخر العلوم العالم النحرير

منها:

روحي الفداء لنسبة جندية

والله حزب جنوده منصور

شهدت له البلغاء لما جاءهم

منه بشير بلاغة ونذير

وفاته: ونرى منعاً للالتباس الواقع بين الأمينين أن نذكر هنا أن الشيخ أمين الجندي الحمصي ولد في سنة 1180 هجرية، ولما توفي سنة 1256 هجرية كان الفقيد المترجم له في السابعة والعشرين من عمره.

وفي أواخر شهر محرم سنة 1295 هجرية و1879 ميلادية لبى نداء ربه ليكون في منازله الخالدة كالبدر لا يعتريه نقصان ولا تحويل، ودفن في مقبرة مرج الدحداح، وقد فاضت قرائح الشعراء برثائه، وممن رثاه العلامة المرحوم الشيخ طاهر الجزائري بقصيدة منها قوله:

كفى عبرةً من حادث الدهر ما طوى

وسوف ترى طي الرواسي ولو طوى

ومنها:

ولو كان ينجي المجد أنجى من الردى

أمين العلا الجندي الذي الفضل قد حوى

همام غدا في عصره متفرداً

روى عن معالي مجده كل من روى

فقال الرجا للعفو والبشر أرخوا

هناء أمين المجد في جنة ثوى

رحمة الله ورضوانه وسلام عليه في الخالدين.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/31 ـ 34).

الأعلام