أمين الرافعي
أمين الرافعي([1])
(1886 ـ 1927م)
مولده ونشأته: هو ابن المرحوم عبد اللطيف الرافعي الذي أنجب عالمين سياسيين حقوقيين، وكاتبين بليغين مؤلفين، وقد خدما مصر في صحفها ومصنفاتها التاريخية أجل الخدمات، وهما أمين الرافعي وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، صاحب المصنفات المشهورة، وقد امتاز كل منهما في مراحل حياته بأخلاق فاضلة عزت أمثالها بين ذوي المواهب، وحافظا على شرف أسرتهما بقوة عقيدتهما، فتم بهما للأسرة الرافعية خدمة أمتهما العربية في وطنيهما سورية ومصر في شتى النواحيالثقافية والأدبية.
تجرده ونزاهته: هو رجل عاش حياته كلها يدافع عن الحق ويدعو إلى الله على بصيرة، ويبذل من ماله ومن دمه في سبيل أمته ما ليس وراءه غاية لمريد، ولا زيادة لمستزيد، ولو عرفنا أقدار الرجال بالمعنى الذي تعرفه الأمم الأخرى لجعلنا ذكرى وفاة هذا المجاهد الصادق يوماً من أيام القومية العربية، ولاتخذنا حياته الحافلة بالعظائم والجلائل نموذجاً لكمال الأخلاق وشرف التضحية والنزاهة المطلقة.
ولد أمين الرافعي في الزقايق سنة 1886م ـ 1303ﻫ، ونشأ في مهد العلم والفضائل، وتلقى دراسة أهلته أن يكون من أبرز رجال عصره علماً وأدباً وفضلاً.
ومن الأسف أننا نحن الشرقيين نؤمن بالمظاهر دون الحقائق، ولا نعرف قيم الرجال إلا بمقدار ما لهم من الحول والطول، وما حولهم من المتاع والحطام، ولست أدري كيف ترجو الخير أمة تنسى حقوق أبنائها الذين استشهدوا في ميدان التضحية، وكتبوا صحائف جهادها الوطني بمداد من دمائهم وقطرات من ذوب نفوسهم، ومن المؤلم حقًّا أن يوجد في الأمة العربية من يجهل فضل أمين الرافعي عليها وهو رجل يعتبر تاريخه تاريخاً للحركة الوطنية في جميع أدوارها، إذ كان له في كل ميدان جولة، وفي كل معترك صولة، وكان قلمه سيفاً في يد الحق، إذا تصدى للباطل زهق، وإذا انبرى للطغيان مرق، كأنما كانت تؤيده السماء بالتوفيق وتمده القدرة بالإلهام، ما عالج موضوعاً إلا أصاب الهدف، ونفذ إلى الصميم، وانتهى منه إلى الغاية المرجوة، لا صلاح له غير الحجة البالغة، والدليل الواضح وقواعد البحث الدقيق وقضايا المنطق السليم.
مواهبه: لقد كان الكاتب الوحيد الذي حفظ الله قلمه من العثار، وعصم لسانه من الفحش، فما جارت الخصومة في يوم من الأيام على أخلاقه، ولا ورطته العداوة في الكتابة إلى كلمة نابية أو عبارة مؤذية لا يرضى عنها الخلق، ولا يطمئنإليها الضمير، على أنه لم يكن يخاصم إلا في الله والوطن والحق، ولم تعرف له في حياته خصومة شخصية، لأنه كان ينظر إلى زخارف هذه الدنيا بعين الزهد والاحتقار، ولقد حاول الكثيرون أن يشتروا قلمه أو يخففوا من حدته بالكثير من المال والجاه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا، وعرضت عليه وظائف الدولة الكبرى فكان جوابه: (لا تفسدوا علي إيماني، فأنا لم أخلق لهذه الوظائف).
وطنيته المثلى: كان نعم العون لسعد باشا زغلول، وكان سعد يؤثره برسائله وهو مع الوفد في باريس، وحينما اختلف معه في مبدأ المفاوضات، كان سعد مع ذلك يثق به ويلقبه بالخصم الشريف، والرجل النزيه، ولما نفي سعد إلى شيسل كان أمين الرافعي أول المدافعين عنه مع اختلافه معه في الرأي، كما كان أول من نقد طريقة وضع الدستور، ومن مفاخره التي تدل على التضحية والشجاعة أنه في سنة 1914م حينما أعلنت إنكلترا الحماية على مصر، وقضت الأحكام العرفية على الصحف بنشر البلاغات الرسمية ومنها بلاغ الحماية، لم يشأ أمين أن ينشر في جريدة الشعب التي كان يتولى تحريرها في ذلك الحين بلاغ الحماية، وقرر تعطيلها من تلقاء نفسه لكيلا ينشر فيها هذا البلاغ، ورضي بما ترتب على ذلك من السجن والاعتقال، وقضى مدة السجن صابراً راضياً، وخرج منه مؤمناً قوي النفس والقلب، وكانت جريدة الشعب جريدة الحركة الوطنية، وكان الشعب يتلقف أعدادها بشوق وشغف، وهو الرجل الوحيد الذي احتج على بلاغ الحماية البريطانية بعدم نشره، وهكذا مات أمين الرافعي في شقاء الصحافة وجهادها.
الدستور المتشرع: ومن أعظم الأمثلة الدالة على عبقريته وسعة علمه بالشؤون الدستورية أنه الصحفي الوحيد الذي نبَّه الأمة والزعماء والأحزاب إلى أن قرار حل مجلس النواب الذي صدر في عهد حكومة زيور باشا يعتبر باطلاً؛ لأنه لم يحدد فيه موعد الانتخاب والتاريخ الذي يجتمع فيه المجلس، وأخذ الزعماء بهذا الرأي، واجتمع البرلمان في فندق الكونتيننتال في يوم السبت الثالث من شباط سنة 1925م، واتحدت الأمة والأحزاب، وعادت الحياة النيابية إلى البلاد، وانتفع الجميع بفضل هذا الرأي.
وإذا ما تقدم خصوم العقيدة الثابتة بأموالهم الوفيرة، وهباتهم العظيمة، ووعودهم الخلابة، كي يلعبوا بالعقول ويزعزعوا الإيمان، وجدوا من يقظة الضمير المؤمن أكبر مخيب لآمالهم، فإن كنوز الأرض لا تعدل شرف الإنسان، لأن الحياة الشريفة يمكن احتمالها مهما بلغت مرارتها، أما الحياة المجردة من الشرف فإنها لا تساوي قلامة ظفر.
وفاته: ومن صدق عقيدته وإيمانه أنه كان يستفتح يومه بتلاوة القرآن، ويدعو بدعاء الرسول عليه السلام، وقد استأثرت به المنية سنة 1346ﻫ ـ 1927 م.
* * *