جاري التحميل

أمين الكيلاني الحموي

الأعلام

أمين الكيلاني الحموي([1])

الشاعر المتفنن والخطيب الألمعي المرحوم الشيخ أمين الكيلاني الحموي

من يمعن النظر في دراسة سير حياة الشعراء والفنانين يرى العبر في تباين مناهج حياتهم والغرابة في تفاوت أمزجتهم وطباعهم، وهم لولا آمالهم وبؤسهم لما سعدت الإنسانية بنبوغهم وعبقريتهم، وجادت قرائحهم الوقادة بمجموعات متناقضة زاخرة بأرق العواطف وأرهف المشاعر وأرفع العلوم والفنون.

لقد كان الفقيد المرحوم أمين الكيلاني من هذه العناصر الخالدة، لقد طارده اليأس في حياته فادرع للكفاح في ميدانها بإيمان قوي، وتغلب بصبره على العقبات والحوادث.

كانت حياته قصيرة كالنحلة، فقد جنى الشهد وقدمه من النوع المصفى للأفئدة بلسماً وللتعساء من أهل الفن عزاء وسلوى، وهب نفسه لخدمة العلم والنشء فأعطت جهوده ثمرات طيبة مباركة، ولعمري فآثاره ناطقة بفضله ومآثره؛ يراع يسيل ليسطر بدم الأجفان صفحة من نور وقد طواها الماضي القريب، وعبرات تسيل أسى وحرقة على فنان قد قضى نحبه وهو في عنفوان كهولته، فسقياً لروحه وعمراً طويلًا لكم.

لست أدري كيف أصف هذا النابغة وما تركه من مآثر خالدة، لقد تحدث عنه من هم أعرف به مني وأقدر على وصفه بما يوفيه حقه، ومع هذا فإني لا أجد بأساً في الكتابة عنه، ومن الواجب تكريم النابغين المستحقين للتكريم لما في ذلك من حسن الأسوة والترغيب في العلم والعمل النافع. 

نشأته وثقافته: ولد المرحوم أمين بن مصطفى زين الدين الكيلاني في مدينة حماة سنة (1896) ميلادية من أسرة عريقة ذات حسب ونسب وجاه وعلم وأدب، لا يستعظم منها صدور العوارف ولا تالد المجد والطارف.

هذا وإن ديوان الشاعر المشهور الشيخ أمين الجندي زاخر بوصف من أنجبته من شخصيات فاضلة، توفي أبوه ولما يتم الثالثة من عمره، ودرس في المدارس الإعدادية التركية ونال شهادته، ثم انتقل إلى دمشق لإكمال تحصيله في مدرسة (عنبر التركية) الثانوية، وقبل أن ينهي تحصيله فيها دعي للجندية وتخرج برتبة ضابط احتياطي، وعهد إليه بالدفاع عن إحدى المحطات قرب معان، ثم التحق بالثورة العربية، وكان مرافقاً للقائد علي جودت الأيوبي العراقي، خاض المعارك الحربية وارتقى إلى رتبة ملازم أول، اشترك في معركة تلكلخ يوم الاحتلال الإفرنسي في 24 تموز سنة 1920م، وأبدى شجاعة مشهودة، فكان يتقدم الصفوف مخاطراً ماضياً لا ينثني ولا يتردد، ثم استقال من الجيش إثر دخول فرنسا البلاد السورية.

اختياره للتعليم: كان من العلماء النادرين الذين طلبوا العلم لله لا للمال ولا للجاه، قامت نخبة من أفاضل حماة بتأسيس مدرسة دار التربية والتعليم الوطنية، وقد ساهم الملك فيصل حينذاك بهذا المشروع الثقافي الحيوي، فتبرع لها بألف جنيه، وشاء الحظ أن تسعد هذه المدرسة بتعيين الفقيد أستاذاً للغة العربية فيها بترشيح من فضيلة شيخ حماة وعالمها الجليل الشيخ سعيد النعسان، فكان المربي الناصح، والمرشد الصالح، واستفاد من مواهبه الكثيرون، وتفوق باللغة العربية من الطلاب من كانوا في حلقته الدراسية.

تآليفه: لم تكن نفس الفقيد تقف في العلم عند غاية، فقد نشأ رحمه الله على منهج الكمال، فكان حسنة من حسنات الدهر، اشترك في النهضة التمثيلية التي قامت في حماة في سني 1920 ـ 1925م، فكان البارع المتفوق في تأليف القطع التمثيلية وإخراجها بشكل ساحر جذاب، مبتكراً في أسلوبه، غزيراً في مادته، يمتزج مغزاها الوطني بالأرواح وتسري معانيها إلى أعماق القلوب، شهد له الفضلاء بالألمعية وقوة الإدراك، سرى في مناهج التعليم والإرشاد مسير القمر في أفلاكه، من اطلع على مؤلفاته الخطية والمطبوعة يدرك مبلغ الجهد الأدبي الذي بذله في سبيل تأليفها، ومن مؤلفاته التمثيلية (حول الحمى، يا فتى العرب، جد بالطلب، سر فبالتعب تبلغ الأمل، وادي موسى، وهي جزءان، واقعة الحسا، واقعة معان)، وكلها مطبوعة في حلب عام 1920م، وتدور حوادثها حول معارك الثورة العربية بقيادة المرحوم الملك فيصل، وأرَّخ وقائعها بقصص روائية خلابة، ثم رواية علي بك، وهي هزلية، وكتاب دروس التاريخ، ومنهج القراءة الجديد، وقواعد التحرير، وكلها مطبوعة.

أما مخطوطاته فتاريخية وأدبية وسياسية، فالتاريخية في ستة مجلدات تقع في 1454 صحيفة، والأدبية في سبعة مجلدات فيها 2624 صحيفة.

أما السياسية فتبلغ سبعة عشر مجلداً تجمع 6604 صحيفة، منها بعض تراجم كبار الرجال من عرب وغربيين، ومنها مقتطفات عن المثل السائر لابن الأثير، وتاريخ الإنشاء والخطابة منذ مبعث الرسول الأعظم منقول عن الطبري،ومنتخبات مقتبسة من كتاب البيان والتبيين، والوفيات لابن خلكان، وعيون الأخبار، ومنها كتاب المخصص لابن سيده في مجلد بلغ (713) صحيفة ولم يتمه، وترجم التاريخ العام للمؤرخ التركي المشهور رفيق بك في جزأين.

أما مخطوطاته السياسية، فتتعلق بجميع الحوادث وخاصة العربية والفلسطينية وكل ما قيل أو كتب عنها، وصور عن المعاهدات والاتفاقيات وسوى ذلك، وجميعهامعزوة لأماكن النقل بدقة متناهية تعطي ما كتبه صورة الوثائق، كان رحمه الله يكتب مقالاته السياسية بعنوان (الزفرات)، وتنشرها جريدة القبس بأسلوبه الشيق الرائع.

فنونه: لقد أدرك الوعي الفني الجامح وبرهن على نبوغ نادر، وأجمع الكل على الإعجاب به وتقدير مواهبه، فالذين عرفوه رأوا فيه مؤمناً عظيماً في وطنيته وإخلاصه وأهدافه، يتمتع بالذوق الحسن بجميع نواحيه، أدرك بقوة ذكائه وفراسته أن المرحوم الفنان السيد أحمد الإبري الحلبي مدير مدرسة دار العلم والتربية وأستاذ الموسيقى فيها سوف لا يطول عهد بقائه في حماة، فعزم على دراسة قواعد الفن الموسيقي، وتلقى عليه الدروس الموسيقية، ثم سافر رحمه الله إلى حلب فتابع دروسه على الموسيقار التركي المولوي حسن البصري، وتعلم العزف على العود والطنبور، وتبحر في دراسة الفن الموسيقي من جميع نواحيه، فكان عليماً بالتنويط والنغمات والأوزان، دأب على التعلم والتمرن على العزف حتى أصبح فناناً ممتازاً وعازفاً بارعاً، توصل إلى ما تصبو إليه نفسه في برهة يستحيل على غيره الوصول إليها.

لقد كانت ألحانه في غاية الرقة والإبداع والانسجام، اعتمد فيها على الصدق والقوة في التعبير عن المعاني التي يلحنها، منها النشيد الذي نظمه شاعر العاصي الكبير الأستاذ بدر الدين الحامد بمناسبة حفلة التأبين التي أقيمت في حماة للمرحوم الشهيد الشيخ خالد الخطيب بتاريخ 3 آذار سنة 1933م، ومطلعه:

يا فقيد لا توفيه العيون

حقه بالسهد والدمع الهتون

نحن من بعدك في أيدي الشجون

نذكر الأيام والذكرى فنون

فكان لحناً شجيًّا مؤثراً.

لقد جمع رحمه الله أحسن التآليف الموسيقية من عربية وتركية وغربية، واقتنى أثمن الآلات الموسيقية رغم عسر حاله.

شعره: كانت قواضبه يراعته وقوافيه في الشعر كشعوره المرهف، واسع أفق التصور، مشبوب الخيال، إذا انتضى اليراع وابتغى الكتابة استيقظ جميع ما في روحه وقلبه وصدره من عواطف، فغدا في ثورة وهياج وحريق وعاصفة، أما قوته الخطابية فكانت مستمدة من شيئين، من قوة شخصيته وروعة بيانه، تشهد له النوادي العلمية والمساجد الشهيرة أنه الخطيب المفوه، إذا اعتلى المنابر خشعت له الأبصار وهيمن على الجماهير كأنه يرسل إلى نفوسهم تياراً من الجاذبية والسحر، يتطرق للمواضيع المتعلقة بالمصلحة العامة.

أوصافه: هيبة قادرية، وسجايا كيلانية رضية، ثغر باسم، وكرم حاتمي موروث، صريح جريء، يكره التملق والنفاق والرياء المصطلح عليه في الهيئة الاجتماعية، كان مرهف الحس، متألماً، صابراً في حياته، حتى لكأنه كان يتنبأ عما خطت له يد القدر في صفحات المستقبل، لازمه في حياته كوكب زحل، وهو كوكب نحس، فكان في زمرة الفنانين الذين أشاح الدهر بوجهه عنهم فنكبهم بالأسى والحرمان، فإن كان من طبيعة الشعراء والفنانين التبرم في الحياة إلا أن الفقيد كان كالبحر الخضم يصعب سبر غوره، فما شكا ولا تبرم. 

وفاته: عين في سنة 1934م أستاذاً في تجهيز حماة، فكان أبرز أساتذتها طرًّا، ثم انتقل إلى تجهيز حلب عام 1937م وساهم في التدريس في معهدي الخسروية والفاروقية وفي كثير من الأعمال الخيرية، ثم اتجه بأواخر حياته نحو الفكرة الدينية واعتم بالعمامة البيضاء.

كان يهوى صمت الليل، أما صمت الحياة فقد طاب له بلقاء ربه معيداً في الثاني لعيد الفطر عام 1361ﻫ الموافق يوم 10 تشرين الثاني 1943م، وهكذا قصفت يد المنون القاهرة فجأة يانع غصنه الرطيب، فكان فقده شاقًّا على أهله وصحبه، وتوجع لنعيه كل من عرف فضله، وفاضت قرائح الشعراء والخطباء بالمراثي، منهم الشاعر الملهم الذي لا يحب الشهرة والظهور السيد إبراهيم العظم، حيث قال في قصيدة رائعة مطلعها:

نفد الدمع في رثاء العوالي

ما لعيني وللدموع وما لي

ومنها:

يا شباباً ذوى طوته المنايا

آه منهن ما طوت من خلال

ومثالًا من الكمال عليا

ما له في شبابنا من مثال

ومنها:

وإذا الخطب بالنعي مهيب

أن أصابت أمين عين الكمال

أمل ضائع تحوم عليه

طائرات القلوب والآمال

ومنها:  

وحماة للعبقريين سجن

مدلهم مقطع الأوصال

يلمسون العلاء في البعد عنها

ويرون المفاز بالترحال

فهم بين خامل وصموت

وغريب معذب جوال

هذا وإن الأبيات الأخيرة هي سلاح بيد الحمصيين على إخوانهم الحمويين الذين يرمونهم بكل مناسبة بالجذب والجمود، فما رأي الأستاذ أحمد علوش الذيينشر (باب الحمصيات في جريدته) بمعنى ومغزى هذه الأبيات.

ولحن الفنان أحمد الإبري قصيدة من نظم الشاعر المبدع السيد إبراهيم العظم يوم حفلة تأبينه مطلعها:

شرقت بالدمع عين الناظرين

حينما قالوا قضى الغالي أمين

غمر الوادي حزن صدعت

منه في الوادي قلوب وعيون

وجملة القول في الفقيد أنه لا يختلف أحد ممن يعرفه في أنه خير أسوة في الخير وأكمل مثل للفضيلة، وقد حدث بفقده فراغ لا يملؤه ألوف الرجال، تغمدك الله برحمته يا أبا مروان وأسكنك فسيح الجنان.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/195 ـ 197).

الأعلام