أنيس نسيم
أنيس نسيم([1])
(1850 ـ 1926م)
تخليد الأدباء وإكرامهم واجب يستدعيه حقهم سواء أكانوا ممن رحلوا عن هذه الدنيا الزائلة أو أحياء ما زالت قرائحهم تجود بالروائع، ولكل أديب رسالة يؤديها، والتحدث عن كل شاعر ومتفنن يكون بمقدار ما أنتج وأثمر وأجاد وأبدع، فإن ضاع تراثهم كما وقع لكثير من الشعراء، كان الحكم على مواهبهم من حق المجتمع والتاريخ مما ظهر من نادر آثارهم. وفي هذه المناسبة أرى من الضيم الفادح أن ينطمس وجه الخير والمواهب، وقد مرت علي بعض الحوادث فيها عبر وعظات، فأنا لا أزيد الناس معرفة بالناس، فتجارب الحياة دلت على أن في البشر من ابتلي بالحسد والغرور، ولا سبيل لهم من الخطو نحو الصلاح والشفاء من هذا المرض الاجتماعي الفتاك الذي ينخر في أجسامهم.
إن في المجتمع الحمصي شعراء وكتاب لهم أسلوبهم الأنيق النضيد في النظم والنثر، وقد تجنى عليهم الحاسدون، ولا عيب فيهم سوى الكمال في السجايا والمواهب، سقت هذه المقدمة الوجيزة (وكل إناء بالذي فيه ينضح).
وبعد فإني ذاكر في حديثي هذا طرفاً من أخبار الشاعر الملهم المرحوم أنيس نسيم، وهـو مـن الحلقـة النورانية الأرثوذكسية التـي انطفأت أنوارها بعد موت أفرادها، وقد تبدد أكثر ما كتبه من نثر ونظمه من شعر دون رحمة أو تقدير.
أصله ونشأته: تنحدر أسرة (نسيم) وهي من أقدم العوائل المسيحية الأرثوذكسية من أصل عربي غساني، وتعتبر فرعاً من عائلة (المطران) الشهيرة في بعلبك.
ولد الشاعر المترجم في حمص سنة 1850م، وهو ابن أسعد بن نسيم، كان أبوه في بسطة من المال والجاه، فعني بتثقيفه على شيوخ عصره، وقد أتقن اللغة التركية، وقدم لطائفته أجل الخدمات الاجتماعية والإنسانية، وتمكنت بينه وبين العوائل الحمصية المعروفة الألفة والمحبة، وكثر ثناء الناس عليه لما اتصف به نبل وشمم وإباء.
أدبه: إن تحليل أسرار حياة هذا الشاعر يتطلب التعرف على دقائق حياته وبيئته، وليس لدينا من المعلومات أكثر من أنه عاش في منبت كريم، على أن ألفاظ الشاعر تمثله وتدل على ما في جوارحه وجوانحه من معان وأسرار، والحق أن جلال المبادئ ومكارم الأخلاق تترك في الشعراء حياة لا تفنى، فمن الشعراء من يجيد الرثاء أكثر من المدح والغزل، ومن أبرز ما امتاز به أنه كان شاعراً يتلهف ليظهر مواهبه في تواضع، ولم نر بين آثاره الأدبية قصائد مدح، إذ لم يسلك سبيل غيره من شعراء المديح في الكذب والنفاق، بل كانت أكثر قصائده رثائية نظمها للوفاء، فقد عصمه الله من الغلو والرياء، والشاعر صاحب هذه الترجمة عزيز كريم، وله علينا حق الوفاء؛ لما بيننا وبينه من روابط الود والولاء الموروث.
وقد عثرنا على قصيدة عامرة رثى بها صديقه الوجيه الحمصي المرحوم محمد ابن سليمان الجندي، وأشاد بفضله ومآثره، نقتطف منها هذه الأبيات، وهي تدل على قوة شاعريته وفصاحته وإبداعه:
مصاب عظيم عز فيه التجلد | وخطب جليل عنده الصبر يفقد |
فقد نعت الأخبار بالبرق سيداً | كريماً له جاه وفخر وسؤدد |
ومنها:
فمن للعلى والجود والمجد والنهى | يليق وللبهتان والزور يطرد |
هو العلم العالي إذا ما تفاخرت | كرام عصاميون أو طاب محتد |
سمي رسول الله من نسل عمه | وذا الشرف الأعلى له الحق يشهد |
فيا من حوى أدباً ولطفاً ورقة | وقلباً سليماً طاهراً ليس يحقد |
لقد قلت في يوم الوداع لجمعنا | مقالاً صداه كل قلب يردد |
إذا شاء ربي سوف أرجع سالماً | معافى من الأسقام والعود أحمد |
ومنها:
أيا ابن سليمان تواريت وانقضى | زمان به كنا لعدلك نقصد |
فكم من أمور معضلات حللتها | برأي سديد للأباطيل يكمد |
ومنها:
ومن يصنع المعروف لا شك رابح | ومن يزرع الإحسان للمثل يحصد |
فصبراً بني الجندي صبراً فإنكم | تثابون بالصبر الجميل لتحمدوا |
فما أنتم في الناس إلا كواكب | إذا غاب منهم سيد قام سيد |
لذاك لسان الحال قد جاء منشداً | لقد حل في دار النعيم محمد |
وشاء القدر القاسي أن يفجعه بفلذة كبده (تمام) وهي في عمر الورود، لم تتخط العشرين من عمرها، فاشتد به الحزن والجزع على فقدها وبكاها مدى حياته، فرثاها بقصيدة مؤثرة عنوانها (صدى الحزن العميق)، نذكر منها بعض أبياتها:
وغدت (تمام) صريعة فتفطرت | حزناً لمصرعها الأليم مرائر |
أتمام لو تدرين شدة لوعتي | وتفجعي والطرف باك ساهر |
ومنها:
يا من يرد الروح بعد فراقها | هيهات كيف يعود أمس الغابر |
يا ويح قلبي حين غيبها الثرى | عن ناظري يا ويح هذا الناظر |
وخاطب الطير الباكي فأجاد في مناجاته فقال:
يا طائراً يبكي فيفعل بالحشا | ما ليس يفعله الصقيل الباتر |
ويصعد الزفرات قد تزكي الجوى | ما ليس يزكيه البيان الساحر |
ويردد السجع العجيب بنغمة | هيهات يأتيه المغني الماهر |
إن كان إلفك قد قضى من علة | أم ناله ظلماً عقاب كاسر |
وبقيت في الدنيا كحزن ماله | معنى بلا إلف ودمعك غائر |
فأنا فجعت بفقد خير كريمة | وبقيت مثلك نائحاً يا طائر |
إنا كلانا فاقد وقلوبنا | فيها وقود للجوى ومجامر |
وفاته: لقد وافاه الأجل سنة 1926م وترك ذكراً حسناً بين معارفه، وأنجب الأستاذ نظمي، وهو أديب مغترب في كاليفورنيا (الولايات المتحدة)، اشترك في إصدار مجلة الفنون مع الشاعر العبقري المرحوم نسيب عريضة في نيويورك، وله قصائد رائعة باللغة الإنكليزية.
* * *