بدر الدين الحامد
بدر الدين الحامد([1])
الأستاذ بدر الدين الحامد
(1901م)
لكل شاعر حد في مواهبه، وحدود الشاعر البدر التسامي في مواهبه والشموخ في عبقريته المتشعبة المنطلقة في سماء الخيال، فهو بين الشعراء علم خالد.
مولده ونشأته:هو الأستاذ بدر الدين بن الشيخ محمود الحامد، من علماء الدين الذين عرفوا بالتقوى والصلاح والصوفية العميقة، وأمه (كوكب) من آل الجابي المعروفين بالعلم والفضل، وهي تمت من جهة أمها إلى الشاعر الحموي المشهور (الهلالي) بصلة القرابة.
بزغ نجم هذا الشاعر في اليوم العاشر من شهر شعبان سنة 1319ﻫ وتشرين الثاني سنة 1901م، نشأ في بيت مغمور بذكر الله، أخذ والده يعلمه منذ نشأته الأولى الثقافة العربية الدينية أملاً منه أن يكون في مستقبل حياته إماماً للناس في دينهم، ولم يهمل تثقيفه بالثقافة العلمية الفنية، فأرسله إلى المدرسة الإعدادية في حماة، وكان يرعاه بكثير من العطف ويرجو أن يكون شيئاً يذكر، فكان أحد الأعلام الخالدين في عالم الأدب.
نكبات الحياة: ولما أيفع شاعرنا البدر اختار الله والده إلى جواره، ولحقت به أمه، ولحق بهما ما خلفاه له من تراث قليل وهو في الخامسة عشرة من عمره، وله أخوان صغيران ليس لهما كافل غيره، فحمل عنت الدهر وتقلبات الأيام، ولقي من البؤس ما لم يلقه إلا القليل من أمثاله الأدباء الذين أمعن القدر القاسي بحرمانهم صفو الحياة ليفجر البؤس عبقريتهم، وما زالت الأيام ترفعه وتضعه وتتقاذفه أمواج الحياة حتى فتح الله له طريق الخير، فأحرز شهادة دار المعلمين.
في خدمة التعليم: وفي عام 1919م انتسب إلى سلك التعليم وعهد إليه بتدريس الأدب في المدارس الثانوية، ثم تزوج واستقر به الحال على عيش فيه الجهد والكفاف وفيه الأمل، وللشباب نزواته وطموحه وللشعر آفاقه، فأخذت نفسه بدراسة الآداب العربية والنظر في اللغة حتى امتلك نواصيهما.
نضاله الوطني:دخل الشاعر البدر غمار النضال في زمن الاستعمار وهو في فجر نبوغه وشبابه، فلم تلن له قناة رغم ما لقيه من عنت وتنكيل وسجن واضطهاد، وبقي في الميدان يرسل على المستعمرين من لهيب قوافيه ما كان بلسماً لجراح أمته حتى منَّ الله على الأمة بجلاء الغاصب المستعمر، فكان شعره سجلًّا حافلاً للأحداثالوطنية وحداء وأملاً ورجاء، ولا يزال حتى اليوم يستقي من هذا الينبوع السجاج، ويغترف من معين أمجاد هذه الأمة المجاهدة وفي نفسه أمل بأن يرى اليوم الذي تتحرر فيه البلاد العربية كلها من ربقة الاستعمار، فيغادر ميدان كفاحه الوطني في الحياة قرير العين.
خدماته: ما زال منذ سنة 1919م يضع مواهبه في خدمة العلم والثقافة، ويتقلب في وظائف المعارف على اختلافها، فتارة في الوظائف الإدارية وأخرى في الوظائف التعليمية، وقد زهد الوظائف والمناصب وأصبح ينتظر اليوم الذي سينقطع فيه عن العمل ويلزم بيته ليكون كعبة لعشاق أدبه.
لقد خلق هذا المربي الأجل نشئاً جديداً، وتخرج على يديه ألوف من الطلاب مما لا يزال الحمصيون يذكرون عهده الزاهر بالخير ويشيدون بفضله وأدبه ونبله، فقد أذكى الروح الوطنية في نفوس طلابه، وطبع في قلوبهم حب الفضيلة، وصانهم عن كل ما من شأنه أن يدنس ضمائرهم، ويرون في عهده فترة زاهرة سعدت بها حمص وأبناؤها بعبقريته وتفانيه في خدمة العلم والأدب.
شعره: لقد حالفه الشعر في سن مبكرة، ولعل لصوفية بيته وتعلقه بالجمال وهيامه بالفن والسماع أثر كبير في تكوين موهبته الشعرية.
أما أسلوبه في النظم فعربي خالص لا تشوبه شائبة من الترهات الجديدة التي بدأ يجنح إليها شعراء اليوم، وقد نظم في جميع الأغراض الشعرية وأكثرها فيالشعر السياسي القومي، فقد تجلت خلجات روحه في قوافيها ومعانيها الرائعة.
شعره العاطفي: شعره صورة أخلاقه وصدى أفكاره وعواطفه، وقد تفنن في شعره العاطفي فجادت قريحته بأروع القصائد والمقطوعات، فكان أهل الفن يتهافتون على تلحينها للغناء، ويعتبر الشاعر فناناً بروحه وطبعه، وصلته بالمغنين وشيجة جدًّا، ولهم عليه فضل كبير في بعث روحه وصقل وجدانه، وأجل هؤلاء المغنين شأناً وأثراً في نفسه المرحوم نجيب زين الدين الحمصي، ومن قرأ رثاءه فيه المدرج في ترجمة حياته عرف مدى تأثيره عليه.
وبالطبع فإن الشاعر البدر لا ينسى عهد وجوده في حمص، تلك الفترة الطويلة التي قضاها وهو في أوج شبابه، وتمر في مخيلته ذكريات حبيبة إلى قلبه قد أثرت في روحه وصدى عبقريته، ويحق لحمص أن تعتز بنبوغه الأدبي المشاع كما تعتز به شقيقتها حماة.
ديوانه: طبع ديوانه في سنة 1928م، وقد جمع فيه شعر الشباب الأول ورواية ميسلون، وهي رواية تمثيلية شعرية رائعة تتناول دخول الفرنسيين سورية واستشهاد البطل يوسف العظمة، وقد أخرجها سنة 1946م، ولديه ديوان كبير جمع شعره كله فيه من سنة 1928م حتى اليوم، وهو قيد الجمع والطبع، وسيكون هذا الديوان الأدبي الفذ حكماً عليه في المجتمعات الأدبية وميدان التاريخ.
شعره الصوفي: وقد حلق في سماء الخيال، فإن شعره الصوفي قد جعله في طليعة شعراء الصوفية الأقدمين، وانظر إلى قوله البليغ في قصيدته الخمرية (أنا في سكرين)، فقد أجاد وأبدع ما شاء له الإبداع:
أترع الكأس وطيِّبـ | ـها بعرف من لماك |
واسقنيها إن عيني | لن ترى شيئاً سواك |
وليقولوا ما أرادوا | أنا صب في هواك |
جنتي كأس الحميا | ونعيمي في رضاك |
وأما شعره الغزلي فعلى القارئ أن يعطي حكمه بروعة وصفه إذ قال:
يا هزاز الرياض غن الندامى | إنما الروض نفحة من هزاره |
أرأيت (الزمان) فتنة عين | كيف يأتي الهوى على جلناره |
قد تغار الشفاه منه ولكن | ما عليه وزهوه في احمراره |
لا تسلني عن الجمال فإني | بفؤادي ضللت في أسراره |
ورد نيسان برعم فتَّحته | نسمات الصباح من أيَّاره |
كان في ذمة الربيع جنيناً | كونته النطاف في آذاره |
أنا في الله حائر لست أدري | ما وراء الغيوب من أقداره |
فدعوني وما أهيم فقلبي | شاعر ينطوي على مزماره |
ومن نفثات غزله البديع الذي يستهوي النفوس ويسحر الألباب قوله:
حملونا عبء الهوى ونسونا | ما عليهم لو أنهم ذكرونا |
نحن منهم على خيال مقيم | يبعث الوجد والصبابة فينا |
إن جنحنا إلى السلو أرونا | بلحاظ العيون سحراً مبينا |
واسقونا عذل الحديث سلافاً | مثل قطر الندى صفاء ولينا |
يخفق القلب في الجوانح شوقاً | وتذبل العيون دمعاً هتونا |
خلفونا على الهوى ثم بانوا | ليتهم قبل بينهم ودعونا |
وهذا شعره القومي في (يوم الجلاء)، وهو من غرر شعره ودرر نفائسه:
هذا التراب دم بالدمع ممتزج | تهب منه على الأجيال أنسام |
لو تنطق الأرض قالت إنني جدث | فيَّ الميامين آساد الحمى ناموا |
يوم الجلاء هو الدنيا وزهرتها | لنا ابتهاج وللباغين أرغام |
وجه الغراب توارى وانطوى علم | للشؤم مذ خفقت لليمن أعلام |
يا راقداً في روابي ميسلون أفق | جلت فرنسا فما في الدار هضام |
تمر بي صور لو رحت أرسمها | لما شفتني أوراق وأقلام |
شتى مآثر من نبل ومن كرم | الحق يجمعها والدهر رسام |
(غورو) يجيء (صلاح الدين) منتقماً | مهلاً فديناك أقدار وأقدام |
هذي الديار قبور الفاتحين فلا | يغررك ما فتكوا فيها وما ضاموا |
مهد الكرامة عين الله تكلؤها | كم في ثراها انطوى ناس وأقوام |
نجر ذيل التعالي في مرابعها | المجد طوع لنا والدهر خدام |
يتمتع الشاعر البدر بمكانة سامية في الأوساط الأدبية، وهو محدث من الطراز الأول، كريم النفس، طيب القلب، مقدام جريء في أفعاله وأقواله.
* * *