جاري التحميل

توفيق الحسيني

الأعلام

توفيق الحسيني([1])

الفنان الألمعي المرحوم توفيق الحسيني

رحم الله زماناً قد طواه الماضي القريب، ذلك العهد الزاهر الذي مر على دمشق فكان الدهر سخيًّا عليها، فأنجبت الرعيل الأول من الفنانين من حلقة أبي خليل القباني الفنان المشهور رحمه الله، والرعيل الثاني من حلقة المرحوم الشيخعبد الرزاق البيطار علامة دمشق، فقد زخرت دمشق بنخبة من البلابل والعنادل لم يسبق له مثيل في العهود السابقة، وكان أحد عنادل الشام في الحلقة الثانية المرحوم المترجم.

أصله ونشأته: هو المرحوم توفيق بن محمد الحسيني، ولد بدمشق سنة 1867م، وأصل هذه العائلة من مصر، انحدرت من أصلاب محمد أبي الأنوار الوفائي شيخ العلماء وشيخ طريقة السادات الوفائية في مصر، ومن راجع تاريخ احتلال مصر في عهد نابليون الأول والأدوار الوطنية التي مرت عليها يعلم مكانته العلمية والاجتماعية والروحية في مصر والأقطار العربية، نشأ الفقيد بكنف والده، فاعتنى به وأحسن تهذيبه، وعاشر مشاهير العلماء واستفاد من مواهبهم، ولازم حلقة المرحوم العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ مصطفى الحلاق والشيخ جمال الدين القاسمي رحمهم الله، وكانوا من أعلام الفن، فتلقى عنهم أصول الفن والإيقاع والموشحات، وأخذ عن فناني مصر أكثر الأوزان المصرية، فكان يحفظها بإتقان وإبداع.

رحلته إلى مصر والأستانة: وبعد أن تمكن من الفن سافر في عهد شبابه إلى مصر وأقام فيها مدة سنة تعرف خلالها على فنانيها البارزين، فأعجبوا بصوته وسعة اطلاعه الفني، وحالت التقاليد الاجتماعية السخيفة دون إبراز مواهبه وتسجيل صوته، ثم عاد إلى دمشق، وسافر قبل إعلان الحرية إلى الأستانة، وعاشر العلماء والفنانين، وحاز صوته وفنه الإعجاب والاستحسان، وتذوق من الفنون التركية ومزجها بألحانه العربية، فجاءت في غاية الإبداع والانسجام. وقد دعي إلى القصر فقرأ بحضرة السلطان عبد الحميد بعض آيات القرآن الكريم، وكان حافظاً ومرتلاً، بارعاً بأصول التجويد، فأحسن إليه وأمر بتعيينه بإحدى وظائف البريد والبرق بدمشق، وظل بوظيفته إلى أن أحيل إلى التقاعد.

فنه: كان الفقيد رحمه الله واسع الاطلاع بعلم النغمة والتصوير، يحفظ الأوزان الموسيقية بعدة روايات بأشكالها السورية والعراقية والمصرية والتركية والإفريقية الشمالية، وعلى طريقته هذه سار تلميذه الأستاذ سعيد فرحات بتدريس الأوزان الموسيقية في المعهد الموسيقي.

ليس للفقيد مؤلفات موسيقية، بل له ألحان خاصة من موشحات وأدوار وقصائد حفظها تلامذته، وكان الفنان المرحوم محمد علي الأسطة الدمشقي والأستاذ سعيد فرحات من أنجب تلامذته.

كان في فنون تصوير الأنغام أو (قلب العيان) آية باهرة، بارعاً في تقسيم المقام بحسب السلم الشرقي؛ أي: سلم الأرباع، فيصور جميع النغمات على كل ربع، ومن مواهبه أنه كان يرتجل في بعض المواقف إلقاء الموشح بنفس الميزان أو بميزان آخر بنغمة ثانية، كان كثير الاجتماع بالفنانين في عهده، فإذا أنشدوا كان إمامهم الفني.

صوته: كان رحمه الله ذا صوت جهوري عريض، يدهش السامعين بطلاوته ورخامته وانسيابه الهادئ، فإذا غنى تولى بنفسه الضرب على الرق بشكل بارع، يهوى الفنون ويتأثر بالجمال، إذا غنى أطرب وأفتن وألهب نفوس عشاق فنه بحلاوة صوته وابتكاراته الفنية، وكانت له جولات رائعة في المغنى التركي.

فاجعته بولده: وأبى الدهر أن يدعه يزهو بصفاء حياته وتقدير المجتمع لفنونه، فقد جرعه الغصص الأليمة ومزق كبده، فاختطفت المنون ولده وهو في الثامنة عشر من عمره، فتكدر صفوه، فكان إذا ثارت عوامل الحزن والوجد بكى وأشجى، ثم ألهمه الله الانتساب إلى الصوفية وتسلى بتدريس العلوم، فكان ذلك خير عزاء وسلوى لقلبه الكليم.

وفاته: وفي يوم الأحد الحادي عشر من شهر كانون الأول سنة 1932م عصفت المنية بروحه الطاهرة، وألحد الثرى مع أسرار فنونه وألحانه، ودفن بمقبرة الجورة في الميدان التحتاني بدمشق، وأعقب ولداً ذكراً هو الأستاذ نشأت الحسيني أحد كبار موظفي وزارة الخارجية وثلاث بنات.

رحم الله هذا الفنان الذي كان مضرب المثل بأخلاقه الحميدة وطهارة قلبه وورعه في طاعة ربه.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/ 264 ـ 265).

الأعلام