جاري التحميل

توفيق الشيشكلي الحموي

الأعلام

توفيق الشيشكلي الحموي([1])

فارس الرعيل الأول الزعيم الوطني والأديب السياسي

المرحوم الدكتور توفيق الشيشكلي الحموي

ليس من السهل دراسة شخصية فقيد العروبة وأطواره وأخلاقه وعقيدته الوطنية، فالمواضيع متشعبة، والأمر يحتاج إلى مجلد ضخم ليستوعب وصف مناقبه ومآثره الفذة، غير أننا نجتزئ منها مزاياه البارزة.

أصله: هو المرحوم الدكتور محمد توفيق بن الحاج عبد الرحمن، وجده الأعلى محمد آغا المشهور بـ (الشيشكلي) بن عبد القادر بن خليل بن المنلا خليل، حضرت هذه الأسرة لحماة في أوائل القرن الحادي عشر هجري من معرة النعمان، وهي وآل المطوح في المعرة وآل الغزي في إدلب أبناء عم عصبيون، وللعائلة أبناء عم أيضاً وهم آل المعصرجي، وينقل شيوخ أسرتي الشيشكلي وآل الجندي أن بين الأسرتين في المعرة صلات قرابة وأنها عصبية، وأن الجدين الأعليين كانا أخوين أو على درجة من القرابة لا يعلم مداها، وكان أحدهما مفتياً والآخر قاضياً في مدينة المعرة بعهد السلطان سليم العثماني الأول، ولدى آل عبد الرحمن الشيشكلي حكم من قاضي المعرة الشرعي يثبت اتصال العائلة بالنسب الشريف الطاهر.

نشأته: بزغ نجم الفقيد في سماء حماة سنة 1303ﻫ ـ 1884م، وابتدأ دراسته الابتدائية في مدينة حمص حيث كان والده مستنطقاً فيها، ومن رفاقه في الدراسة المرحوم مظهر باشا رسلان والدكتور الشهير عزة الجندي وغيرهما، وبعد أن نال الشهادة الثانوية في حماة انتقل إلى مدرسة عنبر بدمشق، ثم انتسب إلى كلية الطب العثمانية بدمشق، وقد تخرج منها سنة 1911م، وكان في مراحل دراسته مثالاً يقتدى في الجد والاجتهاد، ومحبوباً من رفاقه وأساتذته وجميع معارفه. وقد وضع رسالة في الصرف والنحو، وترجم عن التركية القوانين المتعلقة بالأوقاف والكاتب بالعدل.

في العهد التركي: لقد كانت الحالة الاجتماعية والثقافية في العهد العثماني متأخرة في البلاد العربية، فكتب فقيد العروبة إلى عارف بك المارديني والي الشام يرجوه العناية بالمدارس والثقافة، وبدأت حماة ترى في ولدها البار غايتها المنشودة في قيادة زعامتها، واشتهر بخدماته الإنسانية أيام وجوده رئيساً للمستشفيات العسكرية في زحلة خلال الحرب العالمية الأولى، فكان يضع علمه وخبرته ومهارتهوالأطباء الذين تحت إمرته ومخازن الأدوية العسكرية لخدمة الأهلين، وما زال الزحلييون يذكرون عهده بالخير ويترحمون على جهوده وإخلاصه وإنسانيته، وقد أشاد الأستاذ إسكندر الرياشي صاحب «الصحافي التائه» بحياة الفقيد في زحلة وفضله ومآثره الاجتماعية النبيلة.

الفقيد الطبيب: لقد تخصص في معالجة العيون، ولعل ما حمله على ذلك انتشار مرض العيون في حماة، وقد كافح هذا المرض ونجح في عمله، وكان لطفه ومؤانسته لمرضاه وعطفه على الفقراء من أكبر العوامل في نجاحه في عاطفته الإنسانية.

أدبه السياسي: لم يكن الفقيد أديباً بالمعنى المعروف، بل كانت خطبه السياسية ومقالاته الاجتماعية تدل على أنه أديب سياسي بليغ، ولذا فهو يعتبر في زمرة الأدباء اللاحقين، وقد أصدر جريدة التوفيق في حماة، وكان يحررها بنفسه، وهدفها تأييد العهد العربي ونشر الإصلاح، ولكنها لم تعمر طويلاً، وأوقفها لأسباب سياسية. وقد ظهرت فيه موهبة الخطابة عندما برز إلى الميدان السياسي، فكان الخطيب الشعبي الألمعي، يدعو إلى مكارم الأخلاق والتآلف بعاطفة صادقة ولسان حر، وأسلوبه في خطابته يمتاز بالقوة والرشاقة والضرب على الوتر الحساس في أهدافه الوطنية، مما جعلته هذه الموهبة أن يكون خطيب الكتلة الوطنية تعتمده في كثير من المواقف الحاسمة والمناسبات القومية العظيمة.

مآثره الاجتماعية والسياسية: كان رحمه الله صاحب فكرة اجتماعية نبيلة وعقيدة سياسية مثالية، ويرى ضرورة الإصلاح الاجتماعي وتقديمه على العمل السياسي، وأن لا استقرار ولا استقلال إلا بإصلاح اجتماعي شامل ينظِّم الأمة ويقرب بين طبقاتها من بعضها، ويمحو الفوارق والعنعنات التي تسبب المشاكل الاجتماعية وتمزق وحدة الأمة، ويرى في إحداث الجمعيات والنوادي والمدارس وسيلة لبلوغ هذه الأمنية القومية.

خدماته الاجتماعية: انتظم في نادي الكلية في معهد الطب وانتخب رئيساً له، وكان مع زميله الدكتور الشهيد العربي المرحوم صالح قنباز في طليعة المؤسسين لدار العلم والتربية، وقد جعلا من هذا المعهد العتيد مصدر الإشعاع الوطني والاجتماعي، وكان من مؤسسي النادي العربي أيام المرحوم الملك الفيصل، ورئيساً للنادي الأدبي المؤسس في عام 1924م، هذا النادي الذي لعب دوراً كبيراً في توجيه الشباب الحموي وإشعال جذوة الوطنية ونار السخط ضد المستعمرين، وأنشأ مكتبة ضخمة فيه، وفرعاً لتعليم الأميين، وجمعية للإسعاف الخيري ترأسها رفيقه وزميله في العمل المرحوم محمد البارودي، وقد قضت ثورة عام 1925م على هذه المؤسسة العلمية، وانتخب عضواً في لجان الأوقاف والمعارف والبلدية، واستقال منها لأسباب سياسية معلومة، لقد كان حريصاً على الفكرة الاجتماعية واختيار الطرق الناجعة المجدية لدعم فكرته وتأييد رأيه في الإصلاح الاجتماعي المنشود.

مواقفه السياسية: لقد عمل في السياسة منذ صباه المبكر، ولكن الفكرة الاجتماعية كانت تسيطر عليه في عمله السياسي أيضاً، فقد ساهم في الحركة العربية الأولى، وحاول الالتحاق بالثورة العربية حينما كان في المدينة المنورة طبيباً في الجيش التركي، ولكن القيادة التركية أسرعت بنقله فحالت بينه وبين أمنيته. واشترك في كثير من الجمعيات الوطنية السرية التي كانت تعمل لإضرام الثورة ضد الفرنسيين، وكان من أركان حزب الاستقلال في حماة، وأسس في حماة (الحزب الديمقراطي)، ورشح نفسه للنيابة عن حماة عام 1928م، وحال التزوير والتلاعب في الانتخاب دون نجاحه، وأخذت الحركة الاجتماعية في حماة تنمو وتتسع، واليقظة الشعبية تقوى وتشتد حتى كانت المعركة الفاصلة عام 1931 ـ 1932م،إذ دحرت القوى الشعبية عناصر الرجعيين اندحاراً ساحقاً بزعامته رحمه الله.

زعيم حماة: ومنذ هذا الظفر الوطني أصبح الفقيد زعيم حماة دون منازع، وظل بعدها ينتقل من انتصار إلى انتصار في الميادين الاجتماعية والسياسية والقومية حتى غدا علماً من أعلام العرب البارزين الذين يمثلون وجهها الحقيقي في المجالس والمؤتمرات والمواقف الوطنية الحاسمة، وانتدب رحمه الله مع الوفد الذي ذهب إلى إصلاح ذات البين بين عاهلي الجزيرة واليمن.

أوصافه: كان رحمه الله يحمل أجمل وجه أبدعه الله بين خلائقه، ذا شخصية قوية جذابة حببته إلى الجمهور في كافة أعماله ومراحل حياته، إذا تحدث سحر بنطقه الألباب، لا يعرف الخور ولا المهادنة ولا الالتواء، وقد أعدته العناية الإلهية لزعامة مدينة حماة وفيها من المشاكل والمصاعب والعقد الاجتماعية ما لا يقوى على تذليلها غيره، فقد كان رحمه الله كامل الصفات والأهلية للزعامة الحقيقية بفضل ما تحلى به من سجايا جوهرية، جاءه الشعب الحموي منقاداً طائعاً فوضع بين يديه قضيته الوطنية، وألقى له زمامه ومقاليد أمره، يناديه فيلبي، ويدعوه فيجيب، وقد اعترف له بذلك خصومه من الأجانب ومنافسوه من الوطنيين.

وكان رفض الفرنسيين تصديق معاهدة 1936م درساً بليغاً للشعب السوري، فحدثت الفوضى في الصفوف في دمشق وحمص وحلب، أما حماة فقد ظلت أمينة لزعيمها، مخلصة لقائدها، فسميت حماة (قلعة الوطنية أو قلعة الدكتور شيشكلي)، وقد اعترف له الجميع بالتجرد والنزاهة والإخلاص والبعد عن المنافع الشخصية، وكان خصوم الكتلة الوطنية يقبلونه حكماً في قضايا الخلاف ويرضون بحكمه وينزلون عند رأيه.

ومن أبرز مزاياه وفاؤه النادر لأصدقائه وشممه وإباؤه، وقد كان صديقاً حميماً لزميله الدكتور عزة الجندي الشهيد العربي الأول، فاعتمد المؤلف بنشر تاريخ حياته على ما كتبه عنه.

اقترن الفقيد المترجم عام 1917 ولم ينجب أولاداً.

مرضه: أصيب الفقيد بمرض القلب، وظل نجمه يتألق وصحته تنحدر رويداً رويداً، ولما وقعت حوادث شباط عام 1936م في سوريا كان طريح فراشه، ولكن وحشية المستعمرين أبت إلا اقتلاعه من سريره وقذفه في معتقل الشرفة العسكري، وقد اشتد المرض عليه ودام سنة كاملة، وأنقذته العناية الإلهية من تلك الغمرة، فاستعاد كثيراً من نشاطه وأدار معركة الانتخابات النيابية سنة 1936م، وانتخب في المجلس النيابي أميناً للسر في سائر الدورات، وكان له الأثر البارز في تسيير شؤون المجلس النيابي والكتلة الوطنية.

وفاته: وفي صباح يوم 3 تشرين الأول 1940م ـ 1 رمضان 1359ﻫ استأثرت به المنية وهو في سن الكهولة، وفي فترة كانت البلاد بأشد الحاجة إلى زعامته وجهوده، فنقل جثمانه الطاهر إلى قاعة دار التعليم والتربية، وشيَّعته حماة في اليوم الثاني باحتفال عزَّ نظيره، وشاركت وفود البلاد العربية في توديعه إلى مقره الأبدي، كما قال أحد القراء:

وسارت حماة خلف نعشك كتلة

تشيِّع آمالاً وتبكي أمانيا

فأقسم لم تشهد حماة ولا رأت

كرزئك يوماً أو كيومك باكيا

ويحق لحمص أن تشارك حماة في فقيدها الأجل، شخصية مشاعة بين البلدين؛ لأنه نشأ بدراسته الابتدائية في حمص، وهي أساس التوجيه في المواهب.

*  *  *

 



([1])   (أ) (1/ 345 ـ 346).

الأعلام