جاري التحميل

جميل صدقي الزهاوي

الأعلام

جميل صدقي الزهاوي([1])

(1863 ـ 1936م)

مولده ونشأته:هو المرحوم جميل صدقي بن العلامة محمد فيضي الزهاوي مفتي بغداد، ينتسب أبوه إلى أمراء الأكراد من آل بابان، وهم يمتون إلى خالد بن الوليد، وأمه هي (فيزوج) من أسرة كردية، اشتهرت أسرته (بالزهاوي) نسبة إلى (زهاو)، وهي بلدة من أعمال ولاية كرمنشاه الفارسية.

ولد في مدينة بغداد في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1279ﻫ، يوم الأربعاء الموافق 18 حزيران 1863م.

تلقى العلم في مدارس بغداد وتركيا، وكان ذا ذكاء لماح، فبرع وفاق واشتهر أمره في العراق، وكبر شأنه بعد سفره إلى الأستانة بدعوة من السلطان، فمر بطريقه بمصر وتعرف على نخبة من أعلام العلماء والأدباء.

في الأستانة: ولما حط رحاله في الأستانة، أخذ الجواسيس يتأثرون خطاه، وعلم السلطان عبد الحميد أن أصحاب الجرائد يترددون عليه فأوجس منه خيفة، وأراد المترجم أن يرجع إلى بغداد، ولكن السلطان أمره أن يلتحق بالبعثة الإصلاحية التي كان أوفدها إلى اليمن، فذهب إليها ورجع بعد سنة إلى الأستانة، فأنعم السلطان عليه بالوسام المجيدي الثالث ورتبة البلاد الخمس تقديراً لخدماته، وعاد الجواسيس سيرتهم الأولى بمراقبته، فضاق ذرعاً، وقال في قصيدة يذم فيها سياسة السلطان:

أيأمر ظل الله في أرضه بما

نهى الله عنه والرسول المبجل

فيفقر ذا مال وينفي مبرَّأً

ويسجن مظلوماً ويسبي ويقتل

تمهل قليلاً لا تغظ أمة إذا

تحرك فيها الغيظ لا تتمهل

وأيديك إن طالت فلا تغترر بها

فإن يد الأيام منهن أطول

وكانت هذه القصيدة سبباً لسجنه مع الشهيد المرحوم عبد الحميد الزهراوي وصفا بك الشاعر التركي الشهيد ثم نفيه إلى بلاده.

في بغداد: ولما عاد إلى بغداد اصطدم بأحد رؤساء الوهابية، وأخذ يحرض عليه الحكومة بحجة أنه يطعن بسياستها، فطلب الوالي عبد الوهاب باشا الألباني إبعاده، فاضطر إلى أن يؤلف كتابه (الفجر الصادق) في الرد على الوهابية مصدراً إياه بمدائح السلطان عبد الحميد مخافة أن يناله المفسدون بسوء.

سفره  إلى الأستانة: رحل إلى الأستانة في السنة الأولى من الانقلاب العثماني، فعين في 30 تشرين الأول سنة 1906م أستاذاً للفلسفة الإسلامية في أكبر مدارسها، ومدرساً للآداب العربية في فرع الآداب من جامعة (دار الفنون).

عودته إلى بغداد: وعاد إلى بغداد بعد اشتداد المرض عليه، فعين مدرساًللمجلة في مدرسة الحقوق، وظل يواصل مراسلة مجلات المقتطف والمؤيد بالقصائد والمقالات، وأحدثت رسالته (المرأة والدفاع عنها) ضجة كبرى في العالم العربي والإسلامي، فهاج الناس لها وماجوا في بغداد، واحتجوا بتاريخ 28 أيلول سنة 1908م إلى والي بغداد ـ وكان ناظم باشا ـ يطلبون عزله من وظيفته، فأقاله الوالي، واشتد سخط الجمهور عليه، واضطر إلى ملازمة داره خوفاً من الاغتيال، ونصره الدكتور شبلي شميل والمرحوم ولي الدين يكن في مقالات نشراها في المقطم وغيرها، ورد عليه كثير من الشعراء، منهم الشيخ عبد الرحمن القصار الدمشقي في قصيدة، منها قوله:

قل لداع يدعو لكشف الحجاب

ما لهذا التهويل والاضطراب

أجحوداً لقول رب  غيور

(فاسألوهن من وراء حجاب)

وفي عهد الوالي جمال باشا أعيد إلى تدريس المجلة في مدرسة الحقوق.

في مجلس المبعوثين: وانتخب نائباً عن المنتفق، فذهب إلى الأستانة، وأقفل المجلس بعد أشهر فعاد إلى بغداد، وما لبث أن انتخب نائباً عن بغداد، ودافع في البرلمان عن حقوق العرب في مواقف عديدة، وكان في عهد الاحتلال البريطاني يقيم في بغداد يراقب الأوضاع السياسية.

في مجلس الأعيان: وعين عضواً في مجلس الأعيان العراقي، ولعل أفكاره الحرة الجريئة قد أثارت عليه الكثير من أبناء العراق، كما أضرت به هو أيضاً، فقد كانت آراؤه المتطرفة في الدين والاجتماع تغضب المرحوم الملك علي، وكان شديد التدين، فأثر في أخيه المرحوم الملك فيصل، فلم يعد انتخاب الزهاوي لعضوية مجلس الأعيان، وكان ذلك قبل عامين من وفاة الملك الراحل، ومنذ ذلك اليوم حنق الزهاوي على الحكومة والسياسة، وكان كثيراً ما يعلن سخطه في مجالسه، وقد امتاز بإيثار النزعة العالمية في تفكيره، فلذلك كثر ما كان ينظمه من الشعر في الوطنية والسياسة.

مؤلفاته: له مؤلفات كثيرة غير دواوين الشعر، منها ما يختص بالعلوم الطبيعية، وله مؤلفات علمية في الجاذبية الطبيعية والدفع العام، وألف في الإصلاح الاجتماعي، ومن تآليفه المشهورة: 1 ـكتابه في تحرير المرأة، وكان داعية متحمساً للإصلاح الاجتماعي حتى سلخ في سبيل هذه الدعوة عشرات السنين وهجر السياسة من أجلها.

2 ـ ودواوينه هي (الكلم المنظوم) وهو أول دواوينه. 3 ـ (بعد الدستور). 4 ـ (هواجس النفس). 5 ـ (بقايا الشفق). 6 ـ(رباعيات الزهاوي) وقد عارض بها أبا العلاء وعمر الخيام، وهي أربعة من بحور قصيرة وقسم خاص من بحور مختلفة، ونظم الغراميات، والبؤس والشقاء، والشعر والشعراء، والإنهاضيات الأخلاقيات والسياسيات، الفلسفيات والاجتماعيات والطبيعيات، والوصف والخيال، والشك واليقين، الجد في الهزل. 7 ـ (الشذرات). 8 ـ (نزغات الشيطان).9 ـ (عيون الشعر). 10 ـ كتاب الكائنات. 11 ـ (الفجر الصادق) ومحاضرة في الشعر، و(حكمت إسلامية درساري).

الزهاوي الرواية: وقد أولع الزهاوي بثلاثة أشياء، هي: التدخين الذي كان يسرف فيه بقدر زهده في الطعام، والقراءة والكتابة شعراً ونثراً، والجلوس بمقهى واقعة في شارع خالد بن الوليد وسط حلقة من تلاميذه والمتأدبين وجلهم من الشبان، فإذا جلس وبدأ يتحدث فلا يقاطعه أحد، ويظل يروي من نوادر الآداب العربية والتركية والفارسية ما يستعصي إحصاؤه، وله غير ذلك من ذكرياته عن الحكم التركي ونوادر الولاة ما لا ينضب معينه، كل ذلك محلى بالنكات الطريفة والفكاهات الأدبية المضحكة، وبأسلوب فذ وإلقاء شائق وبراعة في التنويع تدعو إلى العجب، وقد كان محدثاً راوية في قدرة المرحوم الشاعر حافظ إبراهيم المصري.

شعره: قال الزهاوي الشعر العربي والفارسي وهو صبي، وأجاد فيهما بعد أن تخطى الثلاثين، وذاع أمره في الأقطار العربية لتوغله في درس العلوم الحديثة والفلسفة.

وتجلت عبقريته الشعرية بعد أن رجع من الأستانة إلى بغداد منفيًّا، فإنه طفق ينظم القصائد الشيقة ويذيعها بتوقيع مستعار في المقتطف والمقطم والمؤيد.

وظل ينظم الشعر وأكثره بموضوع فلسفي أو اجتماعي مستنهضاً به أمته العربية، يريد إيقاظها من رقدتها، وأحدثت قصائده انقلاباً في الأدب، فدخل في طرز جديد لم يعهد قبله، فأخذ القراء يحذون حذوه في نظم المعاني المستحدثة، وأبدع الإبداع كله في سنواته الأخيرة، وهو يحسن اللغات الفارسية والتركية والكردية، وقد جال في ميدان النثر فكتب مقالات كثيرة في الفلسفة في اللغتين العربية والتركية، ونثره بليغ يماثل شعره.

ومن شعره قصيدة طويلة بعنوان (النائحة) يرثي فيها من شنق في سورية من أفاضل العرب، وقصيدة بعنوان (الصارخة)، آثرنا نشرها لا بقصد التشهير بل لأنها تعبر عن شعوره وفلسفته بأجلى المعاني البليغة، قال:

إن حزني في أرض بغداد باد

كل يوم في شدة وازدياد

رب بدل لي قربها بالبعاد

إن بغداد وهي أم بلادي

كرهتها نفسي ومل فؤادي

أنا من بغداد وبغداد مني

مبدياً ضجرة ومنها التجني

إنه ساء بالعواقب ظني

نجني رب نجني رب إني

قد سئمت الحياة في بغداد

إنني عائش بها بين قوم

ليس من نوع ما يسامون سومي

ليتهم ينتهون إذ طال لومي

ما أقاسيه ثم في كل يوم

شف جسمي وفت في أعضادي

لبثتني عوائقي تلبيثا

في ديار بالظلم فيهن عيثا

بين قوم لا يفقهون حديثا

ساقهم للدمار سوقاً حثيثا

ما لهم من جهالة وعناد

كم لهم من صحائف سودوها

بخطايا منهم بها خلودها

فتن إن تقادمت جدَّدوها

كلما نارها انطفت أوقدوها

بالوشايات أيما إيقاد

إنني في يم تلاطم شرّا

بين أمواج أزبدت ليس يدرى

أي موج يكون لي ثم قبرا

إنما زورقي توسط بحرا

ثار فيه الأمواج كالأطواد

كل يوم مصيبة تتجدد

لي فيها ومشكل يتولد

وعدو بشره يتوعد

بلدة عفتها على أنه قد

كان فيها لشقوتي ميلادي

بلدة عم جانبيها الخراب

ما بها عن قتل النفوس اجتناب

في حماها الذي دهاه اغتصاب

للعذارى من الدماء خضاب

في زمان الأعراس والأعياد

ظهرت في عز الجمال وبانت

قبل هذا بأعصر ثم هانت

وإلى الظلم والعذاب استكانت

أصبحت للشقاء أرضاً وكانت

في زمان الرشيد أرض رشاد

أصبحت بعد  ذاك بغداد أرضا

لنفوس من الجهالة مرضى

في رجال لا يستطيعون نهضا

أين بغداد في زمان تقضى

حيث كانت بغداد أرقى البلاد

أين تلك الآمال تلك الأماني

أين تلك الرياض تلك المجاني

أين تلك الربوع تلك المغاني

أين تلك الشبان تلك الغواني

أتواصوا جميعهم بالنفاد؟!

أين ذهن قد كان يشبه برقا

سرعة في فهم الأمور وخفقا

حرقته نار التوقد حرقا

إنك اليوم لو تفتش تلقى

جمرة منه في ركام الرماد

ويح قلبي فإنه قد ريعا

حين سار الأظعان سيراً سريعا

عن ربوع كانت لهن ربيعا

فالبسي إذ فنوا وبادوا جميعا

لهم يا بغداد ثوب الحداد

لا تقم بالديار فهي خلاء

فارقتها الدمى وعز اللقاء

ارتحل فالبقاء فيها شقاء

ذم في هذه الربوع بقاء

بعد سلمى وزينب وسعاد

ليست من وشي النظام برودا

في زمان قد انقضى لن يعودا

ليته دام ظله ممدودا

هي كانت للعلم فيه عهودا

جاد تلك العهود صوب العهاد

إن حكم الزمان في الناس ماض

إنه لو علمت أحكم قاضي

رضي المرء أو غدا غير راض

كل ملك فإنه لانقراضي

كل كون فإنه لفساد

أهل بغداد بدلوا الصدق زورا

رب لا كان ذنبهم مغفورا

زرعوا للشرور فيها بذورا

أيها الزارعون ثم شرورا

سوف لا تحمدون يوم الحصاد

أهلها (لا كانوا هناك أهلا)

ذهلوا عن طريقة العلم ذهلا

وسعوا يطلبون بالعلم جهلا

أيها السائرون في الجهل مهلا

ستذمون سير هذا الوادي

إنما العلم للمالك صون

حيث بالجهل ليس يثبت كون

بين هذا وذاك لا شك بون

إن هذا لون وذلك لون

لا يكون البياض مثل السواد

من يكن عالماً فليس يحقر

علماء البلاد أعلى وأكبر

بعد ربي من كل ما يتصور

إنها كالجبال قدراً على الأر

ض وإن الجبال كالأوتاد

بي (وإن هان عند قومي حياتي

أهل بغداد قد رقوا درجات

فلهم باسمي شهرة في الجهات

أنا كالصفر لست شيئاً بذاتي

وأزيد المقدار في الأعداد

ستثير الأيام فيها دخانا

ويزيد الفساد آناً فآنا

ليت من كان مفسداً لا كانا

كلما جئتها لأصلح شانا

سارع المفسدون للإفساد

إن نفسي يا ويح نفسي تحس

ألماً ما حسته تالله نفس

كبد لي مقروحة لا تجس

يا طبيب الأدواء إنك نطس

هل تداوي القروح في الأكباد

قد كسبنا علماً لنكسب قدرا

ما حسبنا أن يحسب العلم وزرا

في بلاد للجهل أمست مقرا

هجرتها أفاضل الناس هجرا

بعد أن كانت كعبة القصاد

أيها العلم أنت في الشرق نكر

وآثام وأنت في الغرب فخر

بك تؤذى ناس وناس تسر

فيك نفع وفيك يا علم ضر

إنما أنت جامع الأضداد

حالة في بغداد لا ترضيها

مذ خلت من علومها وذويها

ليس منها فيما سوى مدعيها

قل لمن جاء يبتغي العلم فيها

عطلت من معلميه النوادي

أهملوا إذ توهموا الغي رشدا

من حياة لهم جهاداً وجهدا

فأعيضوا من ثورة الملك فقدا

جهلوا لا هداهم الله قصدا

إنه في الحياة كل الجهاد

إن أرضاً لها يقال العراق

قُبِّحت من رجالها الأخلاق

كل ما فيهم فليس يطاق

نخوة عن وقاحة ونفاق

مع لؤم وضلة في تمادي

أيها الناس فات وقت الملاهي

أيها الناس إنما أنا ناهي

أيها الناس قد دهتكم دواهي

أيها الناس سارعوا لانتباه

أيها الناس أنتم في رقاد

استنيروا بالعلم فالعلم نور

إنه بالعلوم تنفى الشرور

ضجرت من هذا السكون القبور

انهضوا للنجاح طرًّا وثوروا

أنا ناديت لو يثور المنادي

إنما العلم أصل ما نحتاج

فيه خير لنا وفيه ابتهاج

فهو الرأس أو على الرأس تاج

أو على التاج درة أو سراج

مستنير كالكوكب الوقاد

إن حرية الكلام رداح

تتفانى في حبها الأرواح

غادة وصلها لغيري مباح

أعلى من يقول حقًّا جناح

رب قد طال كربتي واضطهادي

وعدتني قرباً ولم تف وعدا

بل أراها تزيد في البعد بعدا

وجد الوحش في المعاهد معدى

بعد سعدى إن العدالة سعدى

ليت سعدى مقيمة في بلادي

أيها العدل أنت أنت الحبيب

إن عيشي ما غبت ليس يطيب

ما لمن قد دعوته لا يجيب

كل هذا الصدود منه عجيب

أعدته عن الوصال العوادي؟!

جئت يوماً إلى حماه أخب

فسباني منه الجمال الأحب

فإليه ما زلت مذ ذاك أصبو

وله انقاد فيه مني قلب

كان لولا الغرام صعب القياد

فاق منه الجمال كل جمال

لست أدري وحبه شغل بالي

ألبخل قد صد أم لدلال

أنا في حبه مريض فما لي

لا أراه يجيء في عوَّادي

إن ذاك الحبيب جم المحاسن

حبه في غيابة القلب كامن

هو صعب الحصول غير مواطن

يطلب الناس أن ينالوه لكن

دون ما يطلبون خرط القتاد

ليس فيكم لا در در أبيكم

من يحامي عن حوضكم ويقيكم

فأملوا ذاك في ذراري بنيكم

واصبروا ربما سيولد فيكم

رجل باسل طويل النجاد

إنما حادث الليالي موالي

لأعادي ما للأعادي وما لي

كيدهم فوق طاقتي واحتمالي

ارحميني يا حادثات الليالي

لا تعيني علي كيد الأعادي

أنت يا عدل كالضياء وأجمل

ما لآس إلا عليك المعول

بك أحلام ليلنا نتأول

أيها العدل إنما أنت للقلـ

ـب مراد وفوق كل مراد

أيها العدل أنت بدر التمام

تتوارى حتام تحت الغمام

إبد كيما تشق جيب الظلام

كم كرام ضمن السجون نيام

يشبهون السيوف في الأغماد

رب أنت الخبير أنت اللطيف

رب إني كما علمت ضعيف

رب إن السجون رب تخيف

رب يا رب إن جسمي نحيف

ليس لي طاقة على الأصفاد

ويح نفسي مما تعانيه نفسي

إن حزني في يومه مثل أمسي

أنا بالموت وحده متأسي

على عيني إذا تبوأت رمسي

تستطيب الرقاد بالألحاد

لي في كربتي سبات عميق

أنظر الموت حين منه أفيق

مثلما ينظر الصديق الصديق

إنه وحده علي شفيق

سينجيني من ذوي الأحقاد

للمنايا لو يعلم المرء فضل

إذ بها من همومها النفس تخلو

يتساوى هناك عز وذل

إن طول الرقاد في القبر يحلو

لي بعد العنا وطول السهاد

المنايا لطف فلولا المنايا

خلدت في الشقاء هذي البرايا

بالمنايا انقضاء كل القضايا

في المنايا نهاية للرزايا

للمنايا على البرايا أيادي

قل لمن مات ثاوياً قر عيناً

إنك الآن قد تأديت دينا

حين لاقيت من كروبك حينا

إن للموت في الكروب علينا

منناً كالأطواق في الأجياد

لي ظن أو إنه بعض وهمي

يذهب الفيلسوف فيه لذمي

أن سترقى روحي لألمع نجم

وسيبقى في وهدة القبر جسمي

هل إلى الجسم حاجة في الوهاد

ليس في فسحة المجرة ضيق

إنها للأرواح نعم  الطريق

هل لنفسي إذا تعالت معيق

نظرٌ لي إلى السماء عميق

يتحرى نهاية الأبعاد

حين يهتز في الفضاء الأثير

أين تمضي أمواجه وتسير

لست أدري وهل بذاك خبير

أعلى الروح في الثريا أمير

مثلما في الثرى على الأجساد

حسن هذي النجوم يا روح يقضي

إن في الجو مرتقى لك يرضي

بعضها في نظامها فوق بعض

إنما نحن ساكنون بأرض

هي أدنى مراتب الإيجاد

ارتقي يا نفس ارتقي للسماء

والحقي بالشعرى وبالجوزاء

ثم بيني للأرض بعد المساء

مثل نجم مغلف بضياء

هو للمدلجين في الليل هادي

لا تلاقين في السماء خصوما

لا ولا ظالماً ولا مظلوما

ليس عيش في جوها مذموما

إن في أعماق السماء نجوما

سابحات سبحاً بغير استناد

سبحت في الفضاء عرضاً وطولا

ساقها سائق لها أن تجولا

معقبات بعد الطلوع أفولا

يقرأ الفيلسوف فيها فصولا

من كتاب الدهور والآباء

كل نجم منها بدون شبيه

دائر في بعد بوجه وجيه

فلك جاز كل عقل نبيه

المبادي مثل النهايات فيه

والنهايات فيه مثل المبادي

ربَّ ناه في مصر وهو خليلي

حاسب دجلة كوادي النيل

عاذل لي على البكاء والعويل

ما لديه علم بخطبي الجليل

أنا في وادي والعذول بوادي

أنتم الناس أيها السعداء

ما أصابت بلادكم ضراء

لكم الروح إن قبلتم فداء

ما عليكم وأنتم قدراء

لو مددتم لنا يد الإسعاد؟

لم يدرس الزهاوي في مدارس تسير على النمط الحديث، ولم يلج الجامعات الكبرى في أوروبا أو أمريكا، ولا تعلم لغة أجنبية إلا لماما، وأحرز بانكبابه على المطالعة كثيراً من العلوم والفنون، وهو بهذا الاعتبار يعد من النوابغ الأفذاذ.

أحواله وأطواره: تزوج ولم يرزق ولداً، وكانت نفسه طموحة إلى آمال كبيرة لم يوفق إليها، فحنق على الحياة.

وكان سيئ الحظ شأن كثير من النوابغ، وكان مولعاً بسماع الغناء المصري.

وقد عرف الزهاوي بنزعته الإلحادية التي بغضته إلى قلوب العامة، والحقيقة أنه لم يكن ملحداً، بل كان يتغالى في التشاؤم، ولذلك لم تكد آلام كتفه تنذره بالخطر حتى تطلع إلى السماء ورفع صوته قائلاً: (يا أرحم الراحمين).

وكان لا يحفل بالدنيا ولا يأبه لتكاليفها، ولعل هذا هو السر في أنه عاش تسعين سنة ظل نصفها نحيلاً متهدماً مريضاً تثقل الشيخوخة كاهله، إلا أنه كان يدخر في جسده روح شاب ولسان شاب، وعاش قنوعاً بزوجته لا يقترف معصيةولا يشرب خمراً، وكان راضياً بنصيبه من الدنيا، فلم يحاول أن يتزوج مرة أخرى في طلب الأبناء بالرغم من أنه كان موسراً.

وفاته: لقد نكب الزهاوي في صحته منذ أوائل أيام شبابه، إذ أصابه وهو في الخامسة والعشرين من عمره داء عضال في النخاع الشوكي فلم يبرأ منه، ثم شلت ساقه اليسرى وهو في الخامسة والخمسين من عمره، وكان يتنقل من مكان إلى آخر راكباً حماره، حتى إذا أصلحت شوارع بغداد كان يتنقل في عربات الأجرة يرافقه خادمه الأمين محمود، فإذا نزل من العربة توكأ عليه حتى يصل إلى مجلسه، وفي سنة 1936م انتقل إلى عالم الخلود، وهكذا طوى الموت عالماً من أعلام العلماء، وقائداً من قادة النهضة العراقية الحديثة، ونابغة من ذوي العقول الكبيرة، وشاعراً عبقريًّا في حلبة البلاغة، ووقف الشاعر العبقري المرحوم الرصافي على قبر زميله يؤبنه ويرثيه.

*  *  *

 



([1])   (أ) (2/ 188 ـ 196).

الأعلام