حافظ جميل
حافظ جميل([1])
(1908م)
مولده ونشأته: هو الشاعر الملهم الأستاذ حافظ جميل بن الشيخ عبد الجليل ابن أحمد جميل، وأسرته شامية الأصل، جاءت إلى العراق واستوطنت بغداد منذ مئة عام.
ولد في بغداد سنة 1908م، وأتم الدراسة الثانوية فيها، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج منها سنة 1929م، وقد عين مدرساً للغة العربية وآدابها في ثانوية بغداد ودار المعلمين، واستقال من وزارة المعارف سنة 1932م والتحق بوزارة المالية سنة 1940م، ولم يطل عهده فيها فاختار العمل في وزارة المواصلات والأشغال، وبقي فيها حتى الآن بوظيفة معاون مدير عام لمصلحة البرق والبريد والهاتف.
مؤلفاته: طبع في سنة 1924م مجموعة صغيرة من شعره عندما كان طالباً في الثانوية اسمها (الجميليات)، ولديه ديوان مخطوط أعده للطبع بعنوان (صور وأشباح)، وترجم كتاباً عن الإنكليزية إلى العربية وعنوانه (عرفت ثلاثة آلاف مجنون).
وقد قام بسياحة إلى النمسا وإيطاليا بقصد الاستجمام، وزار مكتباتها باحثاً ودارساً ما يستهويه من أدب الغرب.
مواهبه الأدبية: يعتبر الشاعر المترجم من أعلام اللغة العربية في العراق، ومن أبرز شعرائها بعد الكاظمي والرصافي، وقد تأثر بأشعار أبي نواس وابن الرومي وشوقي، وثقافته عميقة الجذور مؤيدة بشهادة جامعية، وقد ساهم في تكوين التراث الأدبي منذ نشأته، وهو الشاعر الصادق الذي أخرج المعارضة من مغاور الهمس، فكان جريئاً في عقيدته الوطنية، لم يبغ من ورائها غنماً ولا جاهاً، ولعمري فهو سليل الوجاهة والثراء، أكرمه خالقه بموهبة عز نظيرها، تلك الموهبة التي تفيض بوحي من الإلهام الشعري، تأخذ صيغها البليغة سبيلها إلى أعماق القلوب، وهذه خريدة عصماء تجلت في معانيها عبقريته وطموح خياله المشرق، نقتطف منها قوله:
وا عظم بلواك من هم تعانيه | ومن جوى ألم في النفس تخفيه |
وا حزن قلبك والأوجاع تصهره | وا ذوب جسمك والأسقام تبريه |
يلومك الناس عن جهل فتعذرهم | وأي عذر كضافي الصمت تبديه |
ورب حشرجة في صدر محتضر | أفشى من النطق في إعلان ما فيه |
لله آهتك الحرى إذا انبعثت | عن لاعج في سواد الليل تذكيه |
في كل زفرة حزن منك تبعثها | مشبوب نار على الأكباد تلقيه |
يقسو عليك الدجى في طول وحشته | وأين قسوته مما تقاسيه |
عاصيت بالسهد سلطان الكرى فأبت | هموم قلبك إلا أن تعاصيه |
يا راهباً وظلام الليل معبده | حتام تقرع حزناً في دياجيه |
حركت في لوعة الملتاع ساكنها | وهجت من دنف المحزون ساجيه |
أين الخلي من الشكوى لتزعجه | والمستريح من البلوى لتضنيه |
حب المسهد ما رتلت من ألم | تدمي القلوب جراحاً من دواميه |
لو أنصتت لك من تشكو ظلامتها | قامت إلى جرحك الدامي تواسيه |
وهل تواسيك بالأحلام هاجعة | لم تلق منها ولو طيفاً تناجيه |
عادت مآسي الهوى تصليك لوعتها | وعاد وجدك يحيي عهد ماضيه |
وداهمت قلبك الملسوع داهية | تزري بكل عظيم من دواهيه |
يا قلب هلا فضضت الجرح فاتعظت | بالحب نفسك فيما أنت راجيه |
وهل سألت دفين الوجد ما تركت | آلامه فيك أو أبقت مآسيه |
يا قلب هبك نسيت الجرح ملتئماً | هل أنت للألم المكبوت ناسيه؟! |
يا قلب أين أمانيك التي سخرت | من كل شامخ قلب في أمانيه |
وأين ناعم أحلام نعمت بها | أندى شذى من جني الورد زاهيه |
يا قلب يا جدث الأحلام كم حلم | عذب طويت وحلم سوف تطويه |
يا قلب يا مرقد الأوطار كم وطر | حي قبرت ومقبور ستحييه |
يا قلب يا مصرع الآمال كم أمل | ضاحكته ورجعت الآن تبكيه |
أنخت جنبك لم أسمع سوى أرج | بين الأضالع من نحب وتأويه |
وطفت حولك لم أشهد سوى لهب | من العواطف تذكيه وتطفيه |
وهكذا انطوت السنون فباركه الدهر في سن الكهولة، وما زالت العزوبة قرة عينيه وسر حياته المكنون، وللعباقرة أسرار في أطوارهم لا يكشف عن ألغازها إلا انطلاق شاعريتهم الوجدانية، وهذه قلادة شعرية بعنوان تحت الدخان سمت معانيها بأمير القريض العربي إلى أوج نبوغه، نقتطف منها قوله:
داويت بالألم الممض تألمي | وشفيت بالندم الطويل تندمي |
واعتضت عن نزق الصبا بصبابة | خرقاء يفضحها شديد تكتمي |
أوصدت دون الناصحين ونصحهم | سمعي لأفرغ من سماع اللوم |
يستفهمون متى أوان هدايتي | يا حيرتي ردي على المستفهم |
ولأنت يا خرس الدموع تكلمي | ولأنت يا لغة العواطف ترجمي |
خلت الشباب طريق كل ضلالة | عمياء تنذر بالمصير المظلم |
حتى إذا استخلفته بمضلل | أقوى على التضليل منه وأعظم |
باركت شيطان الصبا وترحمت | نفسي على مترفق مترحم |
فكأنني ورايت عهد شبيبتي | ليظل عهد كهولتي في مأتم |
يا جذوة الحب التي لا تنطفي | إلا لتلهب عن جوى متضرم |
أإذا تصرم لاعج عللتني | سلفاً بعودة يومه المتصرم |
* * *
يا من ختمت بها طويل فجائعي | إلا فجيعة حبها لم تختم |
من ذا الذي ناغيت وادع قلبه | واحتاط من قدر عليه محتم |
سيان عندي من أناط حياته | بيديك أو بيد القضاء المبرم |
أشفقت من عنت السقام يهدني | فتركتني أشفى بعطف المسقم |
ردي إلي عليل جسمي غير ما | دنف بعلة حبك المستحكم |
ردي إلي عبوس وجهي غير ما | أسوان من بؤس عليه مخيم |
ردي إلي حزين قلبي مفعماً | بالحزن غير مضرج ومهشم |
بالدمع أقسم يستمد أواره | من خافقي وشراره من أعظمي |
ما شفتي كهواك يخبر بدؤه | عن مفرح وختامه عن مؤلم |
لا تعجبي إن لاح وجهي ضاحكاً | للناس لم يعبس ولم يتجهم |
وتفحصي العبرات بين يتيمة | سجنت وبين حزينة لم تسجم |
أرأيت في المأساة أفجع مشهداً | كالدمع يذرف عن فم متبسم |
ولأنت أجمل في الأسى أن تشهدي | دمع اليتيم ولا دموع متيم |
غزله: هو شاعر الغزل والحب والعاطفة، وإن قصيدته الرائعة (يا تين) تدل على أن نفثاته الشعرية الملتهبة فوق كل وصف، وقد اشتهرت هذه القصيدة في الأقطار العربية، ولحَّنها المنشدون من مقامات شتى، وقد اختلف الرواة في تعيين الشاعر التي نظمها، فنسبت إلى الشاعر الفلسطيني المرحوم إبراهيم طوقان، ولهذه القصيدة قصة طريفة واقعية رأينا إيضاحها خدمة للحقيقة والتاريخ([2]).
لقد كان المرحوم إبراهيم طوقان والدكتور وجيه البارودي الحموي والأستاذ حافظ جميل العراقي شعراء وزملاء في الجامعة الأمريكية ببيروت، وإني أنشر الحديث الذي بعث فيه الشاعر حافظ جميل ناظم قصيدة ( يا تين يا توت) إلى مجلة الينبوع سنة 1946م، والذي يتحقق منه أنه هو ناظم هذه القصيدة المشهورة، وأن المرحوم إبراهيم عارضها ببعض أبيات، وقد أثبت هذه القصيدة بكاملها، وهي تختلف عن نفس القصيدة المنشورة في ترجمة الشاعر المرحوم إبراهيم طوقان في الجزء الأول من مؤلف أعلام الأدب والفن.
يا تين
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | يا خير ما جنت الأغصان والكتب |
يا مشتهى كل نفس مسها السغب | يا برء كل فؤاد شفه الوصب |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
يا تين يا ليت سرح التين يجمعنا | يا توت يا ليت ظل التوت مضجعنا |
وأنت ليتك يا رمان ترضعنا | والكرم يا تين بنت الكرم تصرعنا |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
يا تين سقياً لزاهي فرعك الخضل | يا وارف الظل بين الجيد والمقل |
هفا لك التوت فاغمر فاهه بالقبل | فالكرم نشوان والرمان في شغل |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
يا تين يا خير أثمار البساتين | يا لاوياً جيده فوق الأفانين |
طل الندى لك مخضل الرياحين | فافتر ثغرك عن ورد ونسرين |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
يا تين حسبك صحن الخد راووقا | ولو درى التوت ما تحسو حسا الريقا |
وهب من نومه الرمان مفروقا | وأهرق الكرم يا تين الأباريقا |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
يا تين زدني على الأكدار أكدارا | ولا تزدني تعلات وأعذارا |
هبني هزاراً وهب خديك نوَّارا | فهل يضيرك طير شم أزهارا |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
هتفت يا تين فاهتزت له طربا | وقلت للتوت كن أقراطها الذهبا |
واحذر إذا انتفض الرمان وانتصبا | أن يأخذ الكرم من حباته الحببا |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
حدائق الشام عين الله ترعاك | ولا سرت نسمة إلا برياك |
ملهى العذارى وكم يممن ملهاك | يشربن بارد طل من ثناياك |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
يا يوم أقبلن أمثال التماثيل | يرفلن في عقص بيض الأكاليل |
تبعت (ليلى) وليلى ذات تضليل | ليلى فديتك ما أقساك يا ليلى |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
حلفت بالكرم يا ليلى وبالتوت | وما بصدرك من در وياقوت |
لأجعلن عريش التين تابوتي | تين الخمائل لا تين الحوانيت |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
ناداك بالتين يا ليلى مناديك | والتين بعض جنى الأطياب من فيك |
لو كان يجدي الفدا في عطف أهليك | لرحت بالروح أفديهم وأفديك |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب | |
كتمت حبك عن أهلي ولو عرفوا | شددت رحلي إلى (بغداد) لا أقف |
أغالب الدمع لا بخلاً فينذرف | يا منية القلب هل وصل وأنصرف |
يا تين يا توت يا رمان يا عنب |
* * *