حبيب اسطفان
حبيب اسطفان([1])
الدكتور حبيب اسطفان
الدكتور حبيب اسطفان في أوائل حياته
(1888 ـ 1946م)
هو الخطيب الاجتماعي العالمي المصقع، وأمير البيان في ذرى المنابر، التي طالما خشعت إكباراً لسحر بلاغته وفصاحته، هو الكنز الأدبي المتقد الذي سطعتمآثر مواهبه في أقطار المعمورة، فاعتزت الإنسانية بنبوغه وعبقريته الشامخة، فقيد المنابر العالمية والعروبة المرحوم الدكتور حبيب اسطفان.
مولده: بزغ نجمه وآية النجابة والنبوغ ترمقه في قرية بتاتر التابعة لقضاء الشوف في لبنان يوم السبت في التاسع من شهر آذار سنة 1888م، وهو ابن جرجس اسطفان، وأصل أسرته من رويسة النعمان في لبنان.
نشأته: نشأ بكنف والديه الفقيرين، وذاق مرارة الشقاء والحرمان، تلقى العلوم الابتدائية على راهب القرية، ثم لعبت به يد القدر فخضع لحكمه وانتسب لسلك الرهبانية وهو فتى لدن العود سهل القياد، فلما بلغ الخامسة والعشرين من عمره أهاب به طموحه أن يتعدى ما رسم له من إطار ضيق، فانكب على تحصيل العلوم ورشف منها ما صبت إليه نفسه، ودارت الأيام فإذا بهذا (الإكليركي) يخلع عنه ثوب الكهنوت ليصبح ذلك الخطيب الاجتماعي الإنساني العالمي.
حرمانه: ومن البديهي أن تقضي الاعتبارات والتقاليد الدينية بحرمانه وتعرضه لسخط رجال الإكليروس الذين عزَّ عليهم تنزله عن رتبة الكهنوت، وهم يعلمون سر عظمة هذا النسر الإكليركي المحلق في مواهبه الكامنة التي تفتحت وازدهرتبفضل ما تلقنه من علم وتوجيه سديدين، ومع كل هذا فلم يك عاقًّا، فقد ذكرهم في كل مناسبة وحفظ لهم فضل تعليمه، واعترف أنه لولا توجيههم إياه لظل علمه محدوداً، وراهباً بسيطاً في إحدى القرى.
في العهد الفيصلي: لقد وهب هذا الخطيب الجبار روحه ولسانه وقلمه في سبيل الدعاية لنصرة الملك فيصل الأول، فالحرب سداه رجال السيف، ولحمته الخطباء البلغاء، فقد كانت خطبه الثورية البليغة رمزاً للحمية والنجدة، وسمت به وطنيته إلى ذروة المثل العليا، وانبثقت عن عقيدة صادقة لم يبغ من ورائها غنماً ولا جاهاً، سوى الذود عن كرامة القومية العربية، ولابد وأنه قد كتب مذكرات عن عهد فيصل.
نزوحه عن وطنه: وشاءت الأقدار أن ينهار العرش الفيصلي سنة 1920م، فرحل عن وطنه إلى مصر تساجله الأماني، أما الفرنسيون المستعمرون فقد كان شوكة دامية في قلوبهم، ولو استطاعوا النيل منه لصلبوه، وكل من زعم أنه ماشى السياسة الفرنسية بعد نزوحه فقد ظلمه وتجنى عليه بالكذب والافتراء، فقد خطب الفرنسيون ودَّه ومنَّوه بالثراء فأبى بشمم كل عرض.
نزوحه إلى أمريكا: وبعد إقامته في مصر فترة هاجر إلى هافانا في كوبا (القارة الأمريكية الجنوبية)، وقد قام برحلات إلى أمريكا الشمالية والبرازيل والشيلي وغيرها في القارات الأمريكية، وألقى في نشوة خالدة محاضراته الفريدة، ونشر أمجاد العروبة على منابر البلدان التي كان يزورها، واحتفى به أعظم رجال الدنيا.
نبوغه: كان آية من آيات الله في الذكاء والشجاعة، فإنه لما استقر في أمريكا الجنوبية، أخذ يتعلم اللغة الإسبانية، فأتقنها ووقف على أسرارها خلال مدة وجيزة، وهي ظاهرة من ظواهر نبوغه المتألق، حتى إنه خلب الإسبانيين بروائع بيانه في لغتهم نفسها، ولم يتمالك شاعرهم (فيلا سييسا) أن أعرب عن استغرابه بأنه كيف يتمكن هذا الخطيب النابغة من التعبير عن أفكاره بأساليب بيانية لا تخطر له هو في بال، ويرى نفسه عاجزاً عن صوغ ما يضارعها أو يدانيها، وقد كان أينما حلَّ في الأصقاع الأمريكية يلقى الإجلال والإعجاب والتكريم، وقد أهدته الدول التي كان يلقي فيها محاضراته الأوسمة الرفيعة تقديراً لمزاياه وإجلالاً لمآثره الفريدة.
هذا وإن شرقيًّا يبلغ هذه الدرجة في علمه وعبقريته، ويتفوق على الغربيين في لغاتهم نفسها، ويفوز بإعجابهم ببلاغته ونبوغه في فن الإلقاء والتأثير في الجماهير، لأحق المواطنين العرب بالتقدير والخلود.
مواقفه الخطابية: لقد كان إذا خطب تدفق عليه الإلهام سبيلاً وتفجر لسانه بسحر الإعجاز وروعة الإيجاز، في صوت فيه بحة خفية خفيفة يتجاوب لها صدى لذيذ في الأسماع، وفي عينيه سحر من الإشعاع وحشد من الإغراء يأسر القلوب ويخطف الأبصار، لا أثر في مواقفه وإشاراته للتصنع والتمرن، وليست يده وحدها هي التي تشترك في دعم أقواله، وإنما وجهه بعينيه وفمه يساعد على ذلك أيضاً، وترتكز مواهبه في الخطابة والحديث على أساس راسخ، تلك هي ذاكرته العجيبة، فهو يحفظ دون أن يكد دماغه.
أما الناحية الأدبية من خطبه ومحاضراته فلا تقل عن طريقة أدائها روعة وفخامة، فهي تمور بالبلاغة والسحر، وكان يدعى إلى الخطابة وإلقاء المحاضراتفتفرض عليه المواضيع فرضاً، فقد دعاه قادة الجيش الأمريكي لإلقاء محاضرة بعنوان (مهمة الموت، أو غاية الجندي في الموت)، فاستلب الألباب بإبداعه وإجادته في موضوع بعيد عن اختصاصه، ودعاه رجال المال والبنوك فألقى محاضرة عن مهمة البنوك، فأفاض في التعبير وعجزوا عن إدراك شأوه، ومن محاضراته الرائعة (الأمل في الألم، والألم في الأمل)، و(الجمال في ريودوجانيرو)، و(واجب المدارس العربية في الأرجنتين)، و(الفن في الأفلام العربية)، وغيرها كثير مما شردت عنه الذاكرة.
حسَّاد مواهبه: لقد أهلته شجاعته وما تحلَّى به من مواهب وميزات باهرة إلى الظفر بأفئدة سامعيه، ولم يخل هذا الخطيب العبقري الكامل من حساد، وطالما لوَّح أعداؤه بانتقاده زاعمين أن محاضراته فارغة، ولعمري فليس في انتقادهم كل الصواب، فقد كان يقف ساعة أو ساعتين يرتجل خطبه بمواضيع يبسطها أمام السامعين، ولابد أن يكون في مثل هذا الارتجال من فجوة يستدعيها الاسترسال، فما هذا التعنت من حساده الذين رددوا زعمهم أن في دماغه عشر محاضرات يرددها في كل آن.
لقد بالغ هؤلاء الحساد بالتجني عليه، فقد كانت خطبه ورداً لا ينضب معينه، ومنهلاً عذباً للسامعين، وأكد الذين كانوا على صلة وثيقة به أنه في خطبه الاجتماعية كشف عن سرائر الوجدان، وأنه كان على عكس ما وصفوه به، وقد سمع بمزاعم حساده فاعتصم بصمت ليجل نفسه عن التبذل والإسفاف، وأنى للحاسدين أن يدركوا جليل شأوه وقد كانت نفثاته أنفس من قلائد الدر، وقد صرعهم الحسد وانكفؤوا عنه خائبين.
وهذه أعداد مجلة (التمدن) التي أصدرها في (توكومان) وقد نشر فيها مقالاته تبرهن على عمق تفكيره وفلسفته، وهذا كتابه عن الشعوب الأمريكية الإسبانية يحتل المكان الأسمى بين المؤلفات التي تكشف عن سريرة هذه الشعوب، وقد أصبح مصدراً تاريخيًّا للباحثين الذين يدرسون أحوال العالم الجديد.
ذاكرته العجيبة: ومن طريف ما وقع له في مدينة نيويورك عند حضوره إحدى مآدب الجالية، وكان من المدعوين للكلام فيها الشاعر المبدع رشيد أيوب، فقد نظم قصيدة وتلاها على الدكتور اسطفان، وكفت تلاوتها ليستظهرها، غير أنه كتم الأمر عن ناظمها وحان يوم الحفلة، فوقف الخطيب صاحب هذه الترجمة وأنشد القصيدة، فصمم الشاعر رشيد أيوب على الانسحاب سرًّا قبل أني يجيء دوره في الخطابة، وأسرع اسطفان فأظهر الحقيقة للجمهور، وقد قص هذه الحادثة الطريفة على بعض المعجبين بنبوغه، منهم الشاعر المعروف الأستاذ إلياس قنصل، بيد أنه طالع في وجهه دلائل الشك في صحتها فسكت، ومرت أيام، فأقامت الجاليةفي بوينس آيرس مأدبة وداعية، ودعي الدكتور اسطفان للخطابة، ودعي الأستاذ إلياس قنصل فألقى قصيدة من عشرين بيتاً، ولما انفض الجمع مشى اسطفان إلى ناحية وأعاد على مسمعه قصيدته دون أن يزيد عليها أو ينقص منها حرفاً واحداً، وكان ذلك جواباً لما أبداه الأستاذ قنصل من شك في قوة استظهاره.
حياته الخاصة:لم يكن هذا العبقري من عشاق المادة كما أذاع عنه خصومه، فلو كان كذلك لكان من الأغنياء البارزين، فقد وصلت إلى يده مبالغ طائلة، كلها بدل محاضراته، وأعدَّ له أصدقاؤه اكتتابات جمة، ثم قضى نحبه وجيبه فارغة.
كان يعتبر المال وسيلة إلى التنعم بالحياة؛ فما وصل إلى يده شيء منه إلا بذله دون أن يهتم بما ينطوي عليه الغد، وكانت حياته أشبه بحياة الأمراء، يقيم في أفخم منزل ويرتدي أفخر الثياب، وفي أصابعه خواتم من ألماس، وعصاه ومقبضها من العاج، أما عيبه الأكبر، فهو المائدة الخضراء التي كانت كالهشيم تأكل الأموال التي ربحها، ولم يكن لليأس إلى قلبه سبيل، فقد كان يربح المئة ألف ريال أمريكي من سفرة واحدة إلى تشيلي والأرغواي والبارغواي وكولومبيا وبيرو، وكان مع ذلك يتذمر من بخل الجاليات العربية، وأكد بعض الذين كانوا يتظاهرون بصداقته أن الأموال التي بذلها على النساء كانت تزيد لو حفظها عن تكاليف قصر منيف، وكانوا يستدلون على ذلك من حياته الخاصة التي كانت تماثل حياة (كازانوفا) الشهير، ويخالف هذا الرأي غيرهم بأنه لم يبذل على أقدام الجنس اللطيف أكثر مما يبذله أي رجل بسيط، فقد كان محفوفاً بهن، ويلاحقنه كفراشات يحمن حول الضوء ولو احترقن إعجاباً بنبوغه، وتعليل هيامه بالجنس اللطيف أنه كان كاهناً قضى عهد الشباب وهو في شبه حرمان مع ما فيه من نشاط وحيوية، فتهافته على ذوات الألحاظ الفتاكة لم يكن إلا بمثابة أخذ الثأر.
لقد كانت الجالية العربية تريد من هذا النابغة البارز أن يكون إنساناً كامل الصفات، وغاب عنهم أنه بشر مثلهم، وكانت خاطئة بهذا الاعتبار، ولم تعرف كيف تستغل ذلك النبوغ الفريد، ولم يكن حبيب اسطفان من العباقرة الذين يتأثرون بالوسط الذي يعيشون فيه، وإنما كان يعيش وفق هواه، لا يهمه أرضي عنه الناس أو لم يرضوا، ولا يبالي بأقوال النقاد والحساد.
لقد كان فيه كثير من شمائل المتنبي الشاعر العربي الخالد، ولا تحسبن أنه كان متقلباً لا يثبت على رأي، فقد خلقه الله محبًّاً للترف، وكانت أنظاره تتجه إلى حيث يلقى هذه الضالة التي ينشدها، واستبعد عارفوه أن يكون وداده لبعض الأغنياء من صميم قلبه، فقد كانت المادة أبغض الأشياء إليه، وكان أبغض أهل الأرض إليه الذين يبنون حياتهم على الأرقام.
لقد كان في مكنة اسطفان أن يخدم بلاده أكثر مما خدمها، ويترك من الآثار الخالدة ما لم يتركه خطيب عربي مثله، ولكنه لم يفعل، ومن الصعب إدراك هذا السر، فقد عاش كما أراد أن يعيش.
وفاته: وفي يوم الأربعاء في الثالث من شهر نيسان سنة 1946م عصفت المنية بروح هذا النابغة، وألحد الثرى في مدينة (بتروبوليس) في البرازيل بعد أن قاسى زمناً من أعراض التسمم إثر تناوله في أحد المنتجعات الأمريكية طعاماً بحريًّا فاسداً، ورغم كل وسائل المعالجة فقد تخاذلت قواه وسرى الضعف إلى قلبه الجبار، فخسرت به العروبة كنزاً أدبيًّا خالداً، ولم ينجب ذرية من زوجته الشاعرة (ماري مورانديرا).
* * *