حبيب نعمة فركوح
حبيب نعمة فركوح([1])
(1838 ـ 1911م)
عجيب أن يطوي الموت شعراء برزت مواهبهم في حياتهم، فتتبدد آثارهم الأدبية وتنطمس أخبارهم ولما يمضي على وفاتهم نصف قرن، فكيف إذا خب المطي عشرات القرون؟
لقد تتابعت الصور أمام عيني تنقل إلي خيال الماضي القريب بألوانه وأشكاله ومجالسه وفنونه، فشاقني أن أبذل جهداً مضنياً حتى تمكنت من وضع يدي على بعض آثارهم فجلوتها للأدباء والتاريخ وفاء لمواطنين أعزاء كانوا إلى عهد قريب بدوراً ساطعة في سماء الأدب، إنما القدر كتب لهم في صحائفه النسيان والعقوق، فكانت حياتهم كالشهب التي تشق الظلام بنورها القوي ثم تنطفئ في الفضاء.
ومن العجب والأسف أن تحقق خلال دراساتي أن الأيدي قد عبثت بآثار أكثر الشعراء دون أن يهتم الوراث بالحفاظ على آثارهم الأدبية جهلاً منهم وعقوقاًبحق أدباء لهم على المجتمع والتاريخ حق جحده الجاحدون، وهكذا اندرست آثارهم وتطوقت أعناق ذويهم بالمخازي لهذا الإهمال الأدبي الفادح.
ومن هؤلاء الشعراء اللامعين المرحوم حبيب نعمة فركوح، فقد تبددت مكتبته التي تعب في جمعها، وانطمست آثاره وأخباره، حتى إن أقرب الناس إليه لا يعلمون عن مراحل حياته ما يستوجب الإشادة بمواهبه الأدبية.
أسرته: تنحدر أسرة آل فركوح من أصل عربي غساني، فقد نزحت الأسرة من حوران إلى النبك (القلمون) الواقعة ما بين دمشق وحمص، ولم تلبث أن غادرتها واستوطنت حمص سنة 1663م، والجد الأول هو إبراهيم بن توما، وكانإبراهيم هذا أصدق الرجلين، فلقب (بفركوح)، وتعتبر من أعرق الأسر الأرثوذكسية وجاهة ومجداً وثراء، وقد أنجبت عناصر لها رتبتها الاجتماعية البارزة.
والشاعر المتفنن حبيب هو ابن نعمة بن يوسف بن عيسى بن فركوح، ولد في مدينة حمص سنة 1838م، نشأ المترجم في كنف والده في مهد العز والوجاهة، وتلقى علومه على شيوخ عصره، وكان يحسن اللغة التركية، فأفاد المجتمع من ثقافته ومكانته، واختير في العهد التركي ليكون مختاراً في بستان الديوان عرين الطائفة الأرثوذكسية، وبقي مدى حياته يقوم بواجباته الإنسانية ويصد عن أفرادها الأذى بنفوذه وكرمه في عهد اشتدت فيه وطأة المظالم التركية على كل فرد عربي.
مصائبه الدامية: وشاء الدهر أن يعكر صفو حياته وأن يدخل في نزاع مع القدر، وقد أنجب ذرية من الذكور افترطهم الموت في فترات متعاقبة وهم في ربيع العمر، فانقطعت بذلك ذريته من الذكور وأعقب كريمة واحدة، وهي والدة الدكتور شكر الله عبد المسيح.
لقد عصفت المصائب بأغلى آماله وأحلى أحلامه فأمضت قلبه وأقضت لبه، وطردت رقاده وأورثته قلقاً أليماً، حتى أصبح القلق مقضًّا لهدوء صاحبه، فطرحت به في مطارح اليأس والذهول والانطواء على النفس، وأعدمته لذة الحياة، فتغير بذلك مجرى حياته، وقضى أيامه في جو حزين بين الأنات وغصات الذكريات والزفرات الدامية.
وهكذا يرى شاعرنا أن الحياة مجتمع أفراح وأتراح، ليس بها لذة إلا ممزوجة بألم.
شعره: لقد رأى في الشعر أداة للتعبير عن كوامن عواطفه، وتسنى لقلب هذا الشاعر الخفاق بالحب والجمال الذي صهرته الآلام أن يبدع في نظم القصائد والموشحات ليروض بها نفسه ويرضيها، ولتكون عزاء وسلواناً لقلبه الكليم، وقد نمَّ شعره عن ذوقه الغني وحرصه على سلامة اللغة وفصاحة التعبير في الوصف. ومن تخميسه البديع في الغزل الذي يعبر عن أحلامه وأشواقه وأمانيه قوله:
لله ظبي غرير الطرف أكحله | بديع حسن مليح القد أعدله |
لطيف خلق رقيق الخصر ناحله | ألقى يديه على صدري فقلت له |
أبرأت مني محلًّا أنت موجعه | |
فخلته حن من بعد الهجر لي وأتى | يحيي فؤاداً به فرع الأسى نبتا |
حاولت منه مراماً ماس والتفتا | فقال لا تطمعن عيناي قد رمتا |
سهماً فأحببت أدري أين موقعه |
وكان بين شاعرنا والطبيب مروان بن حنا مودة على أساس من الإعجاب المتبادل، وكان الطبيب عالماً أديباً، فمدحه بقصيدة طويلة نقتطف منها بعض أبياتها، وقد استهلها بالغزل الرقيق، مما يدل على أنه من أهل القلوب المكتوية بالجمال،قال:
ماست بقد يحاكي البان والأسل | ربيبة قد سبت هاروت بالمقل |
رأيت في وجهها شمس الضحى أبدا | وثغرها إن تبسم فالصباح جلي |
وجيدها إن بدا للسائرين وقد | ضلوا بليل فأهداهم إلى السبل |
الغصن إن خطرت يهتز من طرب | والبدر إن سطعت ترميه بالخجل |
نرضى بطيف خيال منها لو سمحت | به على الصب أشفته من العلل |
بليت في حبها والقلب محترق | ومدمعي ساكب كالعارض الهطل |
إلى أن قال مستنجداً بمروان الطبيب:
منها برأسي خطوب قد وهت جلدي | من لي بمروان ينقذني من الجلل |
الله أكبر حاز الفضل في صغر | وجل بالعلم والآداب عن مثل |
كان سخي اليد، كريم النفس، لا يقصر في واجب ولا يرد عائداً قصده إلى داره من الغرباء والفقراء، بهي الطلعة، مربوع القامة، آية في الذكاء، وخفة في الروح وحلاوة الحديث.
وفاته: لقد أفل نجم هذا الشاعر الحزين عام 1911م وقد أدمت المصائب قلبه، فلم ير أرحم من مدفن الأبد، وتوسد اللحد في مقبرة ماراليان الأرثوذكسية.
لقد أنجبت أسرة فركوح الشاعر المرحوم بدري بن سليم فركوح وهو من الشعراء الذين ناوأهم الدهر باليأس والحرمان، وقضى نحبه ولم يتخط الأربعين من عمره، وقد نشرت ترجمته في حلقة المغتربين.
* * *