حسني غراب الحمصي
حسني غراب الحمصي([1])
شاعر الوطنية والكرم المرحوم حسني غراب الحمصي
أصله ونشأته: في سنة 1899م ولد المرحوم حسني بن رشيد جرجس غراب في مدينة حمص، أما والدته فهي صولة بنت المرحوم سليم الطرابلسي، كان أبوه في بسطة من المال والجاه، ولما توفي في سنة 1910 ميلادية كان الفقيد المترجم في الحادية عشر من عمره، تلقى دراسته في مدينة حمص الإنجيلية.
وفي سنة 1914م أنهى دروسه الإعدادية في مدرسة طرابلس الأمريكية، وفي سنة 1915م دخل معلماً في مدرسة حمص وظلَّ فيها حتى نهاية الحرب العالميةالأولى، وتخرج على يديه كثير من الطلاب، ثم انتسب لخدمة الدولة فعين كاتباً في دائرة تقدير أملاك الدولة.
كان رحمه الله أبي النفس، تتجلى عناصر الشمم وعلو الهمة في أطواره وتصرفاته، فطغى على نفسه حب الانطلاق من قيود الوظيفة فاستقال منها.
هجرته إلى البرازيل: كان المرحوم في بدء حياته مرحاً طروباً لا يعرف التشاؤم إلى قلبه سبيلاً، ولما مشى الزمن رأى نفسه مسؤولًا عن عائلة كبيرة وتبعات الحياة تتطلب السعي إلى الرزق في ميدان العمل؛ والإنسان إذا كان قلقاً تبدو الطبيعة الجميلة في عينيه شوهاء، وهذا اختبار نحس به دوماً، فآثر الهجرة إلى البرازيل وهي إحدى غاياته وما تصبو إليه نفسه الوثابة إلى الطموح، وفي سنة 1920م كان أحد المهاجرين إلى البرازيل.
كان كوكب عطارد وهو كوكب الفن والجمال يلازمه في مستهل حياته إلى أن دخل معترك العمل في الحقل التجاري، فإذا بكوكب زحل وهو كوكب نحس يحالفه، لقد عبس الدهر بوجهه فأخفق في هذا الميدان، فإن كان الفقيد فقيراً في المادة، فقد كان غنيًّا بروحه وإلهامه، ومآسي الدهر مليئة بشواهدها وحوادثها، فقد انصبت أسرارها على رؤوس الشعراء والفنانين الأقدمين كما انصبت على الحديثين، والفقيد من هذه العناصر، فالنوابغ بين أمرين: إما الثراء في الدنيا، أو العبقرية والخلود، ولو خير الفقيد فيهما لفضل الثانية على الأولى، أوليس الألم هو الذي يصهر العبقرية فيخرج منها آيات بينات من الهدى واليقين في رناتها صدى لخفقات قلوبهم في الآفاق، ولو كان غنيًّا مترفاً أترى هل جادت قريحته وأرسل أناته الحزينة وتنهداته الشجية شعراً باكياً حزيناً، وتفجرت ينابيع من الوطنية الصادقة أنار شعاع إلهامها سبل الكرامة القومية والرشاد.
وقد لامه البعض على سجيته هذه فلم يتعظ، فكان يقول: إن الليث لا يعدم فريسته أينما ذهب، وشاعرنا الكريم نادى بقتل الفقر ولم يجرؤ على إشهار السلاح في وجه هذا الذي ليس من صداقته بد.
وهذه صورة واضحة من شعره يستشف الناظر من خلالها عاطفة فياضة زخرت بأنبل الشعور، فقال رحمه الله:
يقول لي البخيل وقد رآني | أجود ببعض ما ملكت يدايا |
أما وعظتك أحداث الليالي | وناجتك الظواهر بالخفايا |
وفاتك أن بعد اليسر عسراً | فلم تحسب حساباً للرزايا |
فقلت صدقت واسترعيت سمعا | لو انك ناصح بشراً سوايا |
أتنهاني عن المعروف خوفاً | على مالي تبدده العطايا |
وحولي من ضحايا الفقر ناس | تذوب لفرط شقوتهم حشايا |
أكنت وعظتني وأطلت لومي | لو انك بعض هاتيك الضحايا |
وطنيته وميوله: سيظل اسم حسني غراب رمزاً إلى الوطنية الصحيحة، فقد أضاء الإيمان الوطني قلبه وأنار الإخلاص صدره، فكانت ميوله السياسة قويمة بأهدافها المثالية، يدين بمبدأ الوحدة العربية الاشتراكية.
لقد راقب الأحداث السياسية والصراع الجبار بين بني وطنه وبين المستعمرين فما قصر ولا ونى بواجبه، وكأن روحه استشفت ما يحجبه الغيب من تصاريف الأحداث السياسية في فلسطين فضرب بشعره على الوتر الحساس، وهذه نموذج منها يظهر مدى حبه لوطنه ومشاركته لأمته في محنتها وآلامها:
أأقبل العيد حتى يفرح العرب
| لا لا لعمرك إن العيد مرتقب
|
العيد يوم يثور الحق ثورته
| والعيد يوم يعم الويل والحرب |
وتلبث الراية الحمراء خافقة | حتى يرد إلى أصحابه السلب |
صبراً فلسطين لليوم العصيب فلن | يكون فيه لغير الصابر الغلب |
ومنها:
قوم إذا سئلوا أعراضهم بخلو | بها وإن سئلوا أرواحهم وهبوا |
ومن فضائله البارزة حبه الصادق للنبي العربي وتعظيمه لرسالته الخالدة، ولعمري فإن من يمتدح الرسول الأعظم لأشرف من بعض الشعراء الذين يمدحونللوصول إلى الغرض الأدنى، لقد حلقت شاعريته في أفق سام من الخيال الرحيب، فقال عطر الله ثرى الممدوح والمادح:
كم فيك لي من آية غراء | سارت بذكرك تحت كل سماء |
الحق أجراها على شفتي فتى | حي العقيدة ميت الأهواء |
أنشدتها فإذا لوائي خافق | في الخافقين يجوب كل فضاء |
توجتها باسم النبي فأشرقت | وختمتها بالحمد والإطراء |
ومنها:
لله درك يا ابن عبد الله كم | أسبغت من فضل على الصحراء |
لولاك ما عرفت ولا شرفت ولا | شفع الثناء على اسمها بثناء |
ومن قوله في حفلة أقيمت بمناسبة المولد النبوي الشريف في البرازيل:
شعلة الحق لم تزل يا محمد | منذ أضرمت نارها تتوقد |
غمر الأرض نورها فإذا رمـ | ـت دليلًا فعد إلى الأرض واشهد |
جئت والناس في ضلال وغي | ومن الهدي في يديك مهند |
ودوت صيحة فسل فخروا | خشية الحق راكعين وسجد |
فإذا الأرض غير ما كنت تلقى | وإذا الناس غير ما كنت تشهد |
ومنها:
ما رأى الكون قبل عيسى نبيًّا | لا ولا ضم هادياً كمحمد |
فلك المجد أنتما في ذراه | فرقد نير يجاور فرقد |
وأذهلته نكبة فلسطين وما حل بأهلها من محن، فرأى في حنانه إلى وطنه الأم ومسقط رأسه حمص عزاء وسلوى لقلبه الكليم فقال:
لم يبق فيك لغير الشوق متسع | يا خافقاً تسع الدنيا وما تسع |
أكلما ذكرت حمص حننت إلى | ماض من العيش ما في رده طمع |
يا حمص لولا طلاب المجد ما خطرت | بنا السفين ولا رفت لها شرع |
جئنا نحييك يا دنيا مفاخرنا | والصدر منقبض والرأس مرتفع |
أسرته: تزوج الفقيد سنة 1933م بالآنسة جولييتا بنت مرهج محرداوي، وقد أعقب أربعة أولاد لم يعش منهم سوى ابنتين هما هيفاء وديانا، كان حتى وفاته عضواً في العصبة الأندلسية، وهو أحد مؤسسيها.
وفاته: وفي العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1950م ارتفعت روح الفقيد إلى دار الخلود، ولئن خسر الأدب العربي بفقد حسني غراب خسارة لا تعوض إلا أن الثروة الدافقة من أشعاره الحية الخالدة ستبقى نبراساً وعبرة وذكرى.
فهذا العبقري المسجى في رمسه وقد اطمأن من قلب كان دائب الأحزان والأشجان، وارتاحت منه نفس عصامية جبارة كانت كثيرة الأماني والآلام، أكان للدهر أن يثلم هذا المهند الصارم وقد كان للوطنية حصناً وموئلاً، هو الآن في شاطئ الخلود وقد ترك بحر الحياة الخضم المصطخب بعد أن سقى قومه من رحيق شعره كؤوس الكرامة القومية.
وأكرم ذكراه محفل الشرق الأعظم البرازيلي، فمنحه وسام (روي بربوزا)، ومنحته الحكومة السورية وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، وأطلقتبلدية حمص اسمه الكريم على أحد شوارع المدينة.
وحق لمن تتجلى فلسفته في الحياة أن تسجل مرثيته الخصيبة بدم الأجفان حيث قال:
خلقت للضاد إرثاً لا نفاذ له | أثرى وعزَّ به واستكبر الأدبُ |
ما الزَّهو، ما زُخرف الدنيا وباطلُها | ما المجد ما الفضة البيضاء ما الذهب |
* * *