جاري التحميل

حسين الجسر

الأعلام

حسين الجسر([1])

الشيخ حسين الجسر

(1845 ـ 1909م)

هو ثاني اثنين فريدين من علماء الإسلام تعمقاً وتبحراً في دراسة العلم والفلسفة، وجدَّا في التوفيق بين حقائق العلم القاطعة وقضايا الفلسفة الصادقة وبين أحوال الدين الإسلامي، وانتصرا انتصاراً حاسماً في الرد على الدهريين.

فكما أن حجة الإسلام الإمام الغزالي كان أول عالم ديني مسلم درس الفلسفة وتبحر وألف فيها، ثم تولى الرد على الفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة)، فإن الشيخ الجسر كان بعد الغزالي العالم المسلم الوحيد الذي درس العلم والفلسفة درساً عميقاً وتبحر فيهما، وتولى الرد على الدهريين المنكرين لوجود الله في كتابه الشهير (الرسالة الحميدية)، وتمكن من التوفيق بين حقائق العلم وقضايا الفلسفة الطبيعية وأحوال الدين الإسلامي بلغة العلم وأساليبه على شكل لم يسبق له مثيل، فكان لكتابه هذا دوي في العالم الإسلامي، وترجم إلى اللغة التركية واللغة (الأوردية)، وكان محل اهتمام ودراسة المستشرقين الغربيين.

ولكن الفرق بين الإمام الغزالي والشيخ الجسر أن الأول حصر كلامه في (التهافت) في الرد على الفلاسفة الإلهيين دون سواهم، لأنه رأى غيرهم من الفلاسفة الطبيعيين المنكرين للصانع لا وزن لهم، أما الجسر فقد حصر كلامه في (الرسالة الحميدية) في مناقشة الفلاسفة الطبيعيين الذين أصبحت لهم في أواخر القرن التاسع عشر بعد ظهور مذهب (داروين) شهرة طاغية تستوجب هذه العناية للتوفيق بين حقائق العلم والدين.

ومن أبهر الدلائل على عظمة الجسر أنه بينما كان علماء اللاهوت في أوروبا وأمريكا مجمعين كلهم على مهاجمة (داروين) ومذهبه بعنف وازدراء وتهكم، وتكفيره على إثر صدور كتابه (أصل الأنواع)، تصدى في العالم كله عالم ديني واحد يعلن على رؤوس الأشهاد بكتابه (الرسالة الحميدية) أن مذهب (داروين) في أصـل الأنـواع والنشـوء والارتقـاء لا يتعـارض مطلقـاً مـع نصوص الدين ولا يناقضها.

وقد أشار إلى هذا المستشرق (سنوك هرغرونية)، كما ذكره بإعجاب وإكبار المستشرق (تشارلس آدمز) في كتابه (الإسلام والتجديد) الذي ترجمه الأستاذ الكبير العقاد.

وقد بسط آراء الشيخ الجسر في هذا الموضوع الخطير ولده الأستاذ الشيخ نديم الجسر في كتابه (الإسلام أمام العلم والفلسفة)، الذي قرر المؤتمر الإسلامي طبعه اليوم.

نسبه: هو الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن الحاج مصطفى الجسر، وآل الجسر هم (آل المائي) في دمياط المشهورين بشرف انتسابهم إلى العترة النبوية الطاهرة، أما نسبه من جهة أمه فينتهي إلى (آل رمضان) الذين ورد في دائرة المعارف للبستاني وفي (قاموس الأعلام) لشمس الدين سامي أنهم أسسوا (الدولة الرمضانية) في كليكيا (أضنة) وحكموا فيها 190 عاماً؛ من سنة 1378م إلى سنة 1562م، حتى استولت الدولة العثمانية على هذه المقاطعة وأزاحت الدولة الرمضانية.

ولد الشيخ حسين الجسر في طرابلس في 23 رمضان سنة 1261ﻫ وتشرين الأول 1845م.

نشأته: نشأ العلامة المترجم يتيماً، فقد توفي والده وهو طفل، فكفله عمه، وتولى تعليمه في طرابلس أعلام الرافعيين في عهده.

في مصر: سافر إلى مصر ودرس في الأزهر الشريف ونال الإجازة في العلوم.

آثاره: رجع من مصر إثر وفاة عمه ليقوم بأعباء العائلة، وتعمق في دراسة العلوم الطبيعية والفلسفة وتمكن منها، ثم بدأ يطبق نزعته التوفيقية بين العلم والفلسفة والدين، فأخرج في سنة 1888م كتابه العظيم (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية)، بين فيها عقائد الإسلام وأركان عباداته وأهم معاملاته الاجتماعية مقرونة بحكمها وأدلتها، وكافأه السلطان عبد الحميد برتبة علمية ووسام، فانتقد الناس ذلك عليه، لأنهم كانوا ينسبون إليه قصيدة بائية فيها طعن شديد على الحكومة، وقد طلبه السلطان إلى الأستانة ليكون من شيوخ (بلدز)، فأقام بضعة أشهر ثم طلب الإذن بالعودة إلى طرابلس معتذراً بأن هواء الأستانة لا يوافق صحته، والحقيقة أن هربه من الأستانة كان للمحافظة على دينه وكرامته وصيته.

وجدير بالذكر والإعجاب أن آل المؤلف سمحوا للمكاتب في العالم بطبع الكتاب مجاناً ليتم نشره، وهي غاية المؤلف من تأليفه بالدعوة إلى الله.

لقد كان المترجم أول عالم ديني في الإسلام اهتم بأمر الصحافة واعتبرها منبراً لنشر الفضيلة والدين، فأنشأ في مدينة طرابلس جريدة باسم (طرابلس) كانت ثاني جريدة في الديار العربية، وأخذ يكتب فيها مقالاته العلمية والدينية والسياسية، مراعياً عقلية المحيط، فلم يجعلها باسمه بل جعلها باسم صديقه وتلميذه المرحوم كامل بك البحيري.

وقد جمعت مقالاته العلمية والدينية والأخلاقية والسياسية في عشرة مجلدات مطبوعة باسم (رياض طرابلس)، وله مؤلفات أخرى مطبوعة وغير مطبوعة، منها: 1 ـ الحصون الحميدية في علم الكلام، 2 ـ العلوم الحكمية في نظر الشريعة الإسلامية، 3 ـ (مهذب الدين)، 4 ـ (هداية الألباب في جواهر الآداب)، 5 ـ (تربية المصونة)، 6 ـ (حكمة الشعر)، وغير ذلك من المؤلفات في الأخلاق والاجتماع والأدب والدين.

وله عشرة مؤلفات أخرى لم تطبع في الدين والفلسفة والتصوف والأدب والمواعظ والحكم وآداب المناظرة، وقد امتاز بين علماء الدين بالنظر في العلوم والفنون.

ومن مآثره في خدمة العلم أنه حمل الأغنياء على إنشاء مدرسة دينية نظامية تعلم فيها الرياضيات والطبيعيات على الطريقة الحديثة واللغات التركية والفرنسية، فأنشأت (المدرسة الوطنية) وكان هو مديرها، وتلقى صاحب المنار الإمام المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا العلم  فيها، ثم أقفلت في العهد التركي، وطلب للتدريس في المدرسة السلطانية في بيروت، ثم عاد إلى طرابلس وواظب على التدريس لطلاب العلوم الدينية في المدرسة الرجبية وفي داره، وواظب صاحب المنار على دروسه حتى تخرج بها، وأخذ الإجازة بالتدريس والتعليم فيها سنة 1315ﻫ.

وفاته: انتقل إلى عالم الخلود في 17 رجب سنة 1327ﻫ وآب سنة 1909م وله من العمر (65) سنة.

لقد كان الشيخ الجسر رحمه الله عظيماً في عمله وممتازاً على علماء عصره في تبحره في العلوم الطبيعية والفلسفة، وقدرته على التوفيق بين الدين والعلم والفلسفة بشكل لم يسبق له مثيل لا في علماء الإسلام ولا في علماء النصرانية، كما أنه كان موفقاً في نشر آرائه العلمية عن طريق العشرات من تلاميذه العظماء الذين نذكر منهم العلامة الأشهر السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الذي هو تلميذه الخاص، ولم يطلب العلم على سواه قبل أن يهاجر إلى مصر ويؤسس(المنار)، وقد أشار السيد محمد رشيد رحمه الله إلى ذلك في كتابه (المنار والأزهر) وفي مواضع كثيرة من المنار، وصرح بأن الجسر كان أنفع علماء الإسلام في عصره حيث قال في المنار عند رثاء ولده الشيخ محمد الجسر رئيس مجلس النواب: «رزئنا بأخينا الشيخ محمد الجسر أبرع نابغة سياسي وطني، ابن أستاذنا ومربينا الشيخ حسين الجسر أنفع عالم ديني عصري، ابن الشيخ محمد الجسر أورع عالم صوفي، ثالث ثلاثة أنبتتهم لهذه الأمة مدينتنا طرابلس».

*  *  *

 



([1])   (أ) (2/ 338 ـ 339).

الأعلام