حسين عرب
حسين عرب([1])
(1919م)
مولده ونشأته: ولد الشاعر المترجم في مكة المكرمة سنة 1338ﻫ ـ 1919م، وتلقى دراسته الابتدائية فيها، وأتمها في المعهد الإسلامي بمكة سنة 1938م.
ابتدأ عمله محرراً بجريدة صوت الحجاز، ونشر قصائده الرصينة فيها، فذاع صيته، ولما كانت المواهب مقرونة بالتجربة والذكاء فقد انتسب إلى الخدمة في وزارة الداخلية، وبرزت عبقريته فتدرج في المراتب حتى أصبح مديراً عامًّا للوزارة، ومن أبرز ما اتصف به استقامته المثلى وأريحيته البارزة وجلده المتواصل على العمل بتجرد وإخلاص، وتوجيه من يعملون معه إلى حب النظام وإنجاز مصالح العباد بما يتطلبه واجب المصلحة من سرعة وإتقان، وقد سار على منهج قويم في تصريف الأمور بوحي الضمير الحر.
أدبه: هو شاعر ملهم متوثب مؤمن بقدسية رسالته القومية، وأديب وناثر بليغ، يغلب على شعره ونثره الجزالة، عالم بأبواب البديع، يحفظ الروائع من أشعار العرب وأخبارهم، محدث لبق، أنيق في تعابيره، وهو من نصراء العلم والأدب، وقد نال جوائز أدبية عدة بما جادت قريحته، منها (نشيد الجندية) الذي نظمه، فكان نشيداً بليغاً في معناه ومغزاه القومي، ومن شعره البليغ قصيدة بعنوان (أشجان الليل)، قال:
سهران قد لعب الهوى بصوابه | وقف الكرى ثملاً على أهدابه |
نشوان والأحلام طينة كأسه | وروافد الذكرى معين شرابه |
يرعى النجوم كأنما كلفت بها | عيناه أو كانت مناط طلابه |
وكأنما النجوى تصافح قلبه | وتهيم بين شغافه وشعابه |
دنيا من الأمل اللذيذ تجسمت | أحلامه وخبا بريق سرابه |
يا ليل حسبك من غواية شاعر | ذهبت أمانيه بومض شبابه |
حيران كالطيف الغريب تزاورت | عنه العيون وضل نهج مآبه |
دنياه آثمة عليه وفنه | وزر لديه فيا لهول مصابه |
نجواه نجوى الوالهين وداؤه | من قلبه ينثال بين إهابه |
* * *
يا ليل ما الآمال؟ ما وهم الحجا؟ | ما العالم الممطول في أحقابه؟ |
ضل السراة به السبيل وآدهم | طول المسير فأرقلوا بنهابه |
الجائعون تمرغت بتراثهم | واستأسدت في الغاب سعر كلابه |
والظامئون قد استبد بمائهم | في المهمه المجهول شهب ذئابه |
شربوا إذا شربوا القذى وتوسدوا | ظهر الأديم وعفروا بترابه |
تتراكض الأطماع فوق رقابهم | ركض الأثيم الفظ فوق ركابه |
أخنى عليهم بالمذلة عارم | تتجسم الأوزار بين ثيابه |
جاست مراعيه الذئاب وأوغلت | بحماه واحتكمت على أبوابه |
فأباحها المرهوب من غاياته | وأنالها المرغوب من أسبابه |
يا ليل ما الأقمار فيك تألقت | بضيائها المرفض من محرابه |
في الأرض أقمار خبت أضواؤها | لما تعجلها الدجى بإيابه |
العبقرية ويحها ما ضرها | لو آمنت بالزيف من أربابه |
لاذت بأكناف الضمير فأترعت | من بؤسه وتجرعت من صابه |
فقضت كما يقضي الطريد حياته | شرًّا يفيض عليه من أوصابه |
حسب الأباة النابهين من الحجا | ما نالهم من شؤمه وعذابه |
هان المعلم واستكان بعلمه | وعنا الأديب بفنه وكتابه |
واختال بالشعر الدعي بزيفه | متكسباً بمدحه وسبابه |
وبكى المهند في يد مغلولة | لم تمتهر في فتكه وضرابه |
وشكا اليراع أناملًا عبثت به | فتنكبت بالحق عن أصحابه |
منعت كريم الفعل بعض رجائه | وحبت لئيم الأصل كل رغابه |
واستكبرت بعلوها وعتوها | في جرأة المخمور غير الآبه |
يلهو بها عقل أشل تشابهت | غاياته في غير ما متشابه |
وكأنه بفعاله وخصاله | إبليس رائده إلى آرابه |
يا ليل هل خلف الظلام أشعة | وهاجة للمستنير النابه؟ |
هل للكواكب في ذراك عوالم | مستورة بالبعد خلف حجابه |
هل للفضاء جوانب مجهولة | لم يكتشفها العلم رغم غلابه؟ |
هل للحوادث من ظلامك عيلم | مسترسل في مده وعبابه؟ |
هل للعقول من الحوادث عبرة | تهدي الضليل وترعوي بصوابه؟ |
هل للحظوظ إلى الضمير وسيلة | أم ضلِّلت خطواتها عن بابه؟ |
هل للسعادة في الحياة روافد | أم أنها وهمٌ على طلابه؟ |
هل للظلام نهاية معلومة | ينجاب عنها الصبح بعد غيابه |
لغز يطل على الوجود محيرا | وسؤاله ما يلتقي بجوابه |
ضلت بواديه الحياة سبيلها | فتعثرت خطواتها بعقابه |
وإذا النهى يوماً أراد جلاءه | أعيا النهى وطغى على إعجابه |
ومن روائع نظمه هذه الخريدة التي تسامى في معانيها:
قالت: عداك الردى ما الموت قلت لها | وما الحياة؟ فقالت: إنها الألم |
فقلت: ماذا يخاف المرء من عدم | إن كانت اللذة الكبرى هي العدم؟! |
كأس نسينا بها الآلام من قدم | وقد ذهبنا ولم يذهب بها القدم |
وأعدل العدل أن يسقى سواسيه | بها شريد الطوى والسيد العلم |
قالت: أفي الناس شر؟ قلت: شرهمُ | من غره المال والسلطان والحشم |
ما في يديه سوى الأحزان يبذرها | وليس في أصغريه غير ما يصم |
وخيرهم من جنى المعروف مبتدرا | وصان قيمته إن هانت القيم |
تراه كالطود والدنيا تدور به | منضر الوجه في عرنينه شمم |
قالت: أرى المجد في الأسراب خافقة | فوق الحصون استكانت تحتها القمم |
وفي المدائن كالأعراس راقصة | وفي التماثيل تستحي بها الأمم |
فقلت: زيف أجاد الناس صنعته | لما تجافتهمُ الأخلاق والذمم |
المجد في الخير تسديه وتنشره | نفس تقمصها الوجدان والكرم |
قالت: أرى البدر لا كالبدر منبهتا | والشهب ينبض في أحشائها السقم |
والريح سوداء والأشجار ذابلة | فهل سقاها اللظى أم جفت الديم |
أفي الطبيعة حزن أم بها برم | فقلت: نفسك فيها الحزن والبرم |
قد تبصر العين ما في النفس من ظلم | وتبصر النفس حتى والرؤى ظلم |
قالت: فما الحب؟ قلت: الحب أمنية | شدا بها القلب لا صوت ولا كلم |
وغنوة لم يردد سحرها وتر | ولا تأوه في ترجيعها نغم |
أنغامها في حنايا الصدر خافقة | ولحنها ضرم في النفس يضطرم |
فيها من الليل أطياف مؤرقة | ومن ندى الفجر فيها الحسن يبتسم |
قالت: حبتك الليالي من تجاربها | ما ليس تحفظه الأسفار والنظم |
وقد وعيت من التاريخ عبرته | وغرد الشعر من نجواك والقلم |
وددت أنك لم تمسك على لمم | فقلت: قد يلهم المستلهم اللمم |
وأين في الناس من تجديه فلسفة | أغنت إذا أغنت الأمثال والحكم |
* * *