خالد القصير
خالد القصير([1])
البلبل الصداح المرحوم خالد القصير الحمصي
رحم الله عهداً مرَّ بحمص وهو من ذكريات الماضي القريب، فكان غنيًّا بما أنجبه من شعراء وفنانين ومطربين حلقوا في سماء الفن، فكانوا كالأنجم الزهر بأصواتهم الساحرة وفنونهم الرائعة، منهم المترجم المرحوم خالد القصير، فقد اجتمع في عهده نخبة كريمة من الشعراء والمتفننين والمطربين، وكانت هذه الحلقة الفنية تلتف حول العبقري أبي خليل القباني الدمشقي حينما حضر إلى حمص وأقام فيها مدة طويلة، وعنه أخذوا، ورشفوا من منهل فنونه ما طاب لهم، فسقى الله ذاك العهد برجاله وذكرياته الحبيبة إلى القلوب وابل الرحمات.
المرحوم خالد القصير: هو خالد بن عبد الرحمن القصير، ولد في حمص سنة 1860 ميلادية، ونشأ بكنف والده، ولما شب تلقَّى العلوم العربية والفقهية على المرحوم الشيخ سليم خلف العالم المتصوف الشهير، وكان منشد ذكره وحفلاته النبوية.
تعاطى مهنة حياكة (الملس الحريري)، فكانت له ورشة صناعية بشراكة المرحوم محمود الأتاسي، ومرت فترة تحسنت فيها أحواله التجارية والمالية، ثم قضت العوامل الاقتصادية والتجارية على هذه الصناعة الجميلة فتعاطى تجارة بيع الأصناف المتفرقة، ثم بيع الطوابع الأميرية في أواخر حياته.
سفره إلى استانبول: وتلقى دعوة ملحة من الشيخ شاكر الأشقر الحمصي، وهو أحد المقربين إلى السلطان عبد الحميد لزيارته، فسافر إلى استانبول ونزل ضيفاً في بيته، ومكث فيها مدة ثلاثة أشهر كان خلالها موضع الحفاوة والرعاية، وقد أنشد في حضرة السلطان عبد الحميد بعض القصائد النبوية والصوفية، فنال صوته وفنه استحسان السلطان، وأكرم مثواه، وكانت نبرات صوته الشجي تسحر الألباب، فالتف حوله المعجبون بفنه مقدرين مواهبه.
وقد تمنى الشيخ شاكر الأشقر لو بقي الفقيد طول حياته بقربه ليطفئ غليل قلبه من صوته الرخيم، الذي كان بلسماً لفؤاده الكليم، لكنه اعتذر، ودفعه هيامه بفنون القباني رحمه الله إلى اللحاق به، وكان وقتئذ في مصر.
سفره إلى مصر: وكان حبه لأبي خليل أحمد القباني الدمشقي الفنان الخالد سبب سفره إلى مصر، فمكث فيها مدة شهرين كان خلالها ضيفاً معززاً عند المرحوم أحمد توكل التاجر الحمصي الكبير في القاهرة، وقد اجتمع بالفنان الشهير المرحوم عبده الحمولي، وسمع صوته فأعجب به، وعرض عليه الاحتراف الفني فأبت عزة نفسه ذلك.
ومن آثاره أن المرحوم مصطفى باشا التركماني الحمصي ـ وقد كان صديقه ـ قد أخذ له بعض تسجيلات من أجزاء القرآن العظيم، ولا أدري إن كانت لا تزال محفوظة في حوزة ورثته أم عبثت بها الأيدي فضاعت هذه النفائس الفنية.
كانت أعز أمانيه في حياته هي اجتماعه بالمرحوم القباني، وكان طول مدة وجوده في مصر يلازمه لافتتانه بفنونه.
فنه: يعتبر صوت الفقيد في الدرجة الثالثة بالنسبة لصوت المرحوم عبد الخالق عبارة النادر، كان حافظاً للأدوار والموشحات القديمة، ويجيد إنشاد القصائد النبوية والصوفية ـ وهي من تلحينه الخاص ـ بأوزان قوية لا وهن فيها ولا خطأ، وكانت نشوة النغمات الحجازية والصبا والراست متسلطة عليه، يجول فيها أكثر من بقية الأنغام، كان صوته طوع إرادته، ونبراته شجية مؤثرة، يجيد الأداء برزانة واحتشام، يتقن إنشاد المواويل، وأكثرها من نغمة الأصفهان المؤثرة.
كان رحمه الله إذا اجتمع مع المطربين ترأس عليهم الفنان المرحوم الحاج محمد الشاويش الحمصي لقوة فنه وكثرة محفوظاته، وكان هؤلاء الفنانون يحييون الليالي الزاهرة بالسمر والطرب في منزل الوجيه المرحوم محمد بن سليمان الجندي بشكل مستمر لوجود صديقه الفنان القباني في ضيافته مع عائلته في ذلك العهد.
صفاته: كان رحمه الله ذا هيبة وحشمة ومروءة ظاهرة، طيب القلب، نقي السريرة، مجبولاً على الرقة واللطافة، وهو من عائلة اتصفت بالشجاعة والكرم والوفاء، كان غاوياً في الفن، ولو احترفه لبرز فيه، تجمعه صلة الصداقة والفن مع نخبة من الوجوه والأعيان الذين كانوا يجلون فيه عزة نفسه، كان إذا زار دمشق حل ضيفاً في بيت أبي الخير الجندي وتخاطفه المعجبون بصوته.
وفاته: ولما نشبت الحرب العالمية الأولى التحق أولاده عبد الرحمن وعبد الجواد وعزت في الخدمة العسكرية، وتشتتوا في ميادين القتال، فهدَّتْ وحشة فراقهم وقلقه عليهم ركن حياته، فداهمه مرض الفالج وتوفي متأثراً سنة (1915) ميلادية، ودفن بمقبرة عائلته في محلة باب التركمان، وقد أعقب من الأولاد خمسة ذكور، رحمه الله.
* * *