خليل سعادة
خليل سعادة([1])
العلامة المرحوم الدكتور خليل سعادة
أصله ونشأته: ولد الفقيد عام 1857م في الشوير من أعمال لبنان، وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة المرسلين الأمريكان، ثم دخل الجامعة الأمريكية ونال الشهادة العلمية بتفوق باهر، وعكف على تلقف آداب اللغة العربية وتاريخها.
اختصاصه بالطب: ثم درس الطب ونال لقب دكتور سنة 1880م، وسافر إلى الأستانة وتقدم لفحص الدكتوراه في المعهد الطبي العثماني ونال الشهادة العليا، وكان موضع إعجاب اللجنة الفاحصة التي كان يرأسها الجراح الشهير محرم باشا وتقديرها؛ لمواهبه وذكائه.
وتعرف في محيط العاصمة بكبار زعماء العرب الذين كانوا يشتغلون في السياسة، وعاد إلى وطنه فتعاطى الطب في الشوير وبيروت، وهناك تمكنت أواصر الصداقة والألفة بينه وبين أدباء ذلك العصر وعلمائه، وأصدر مجلة (الطبيب) مع النابغين المرحومين زلزل واليازجي، فكانت حقلاً أدبيًّا وعلميًّا حافلاً بمختلفالمواضيع الفلسفية والطبية والأدبية الراقية، ثم احتجبت بعد عام وسافر الشيخ إبراهيم اليازجي إلى القاهرة.
في فلسطين: دعته البعثة الطبية الإنكليزية لرئاسة مستوصفاتها في فلسطين ومستشفاها في مدينة طبريا فقبل، وقام بمهام وظيفته، وكان يتمرن على الجراحة حتى حذقها وصار يشار إليه بالبنان.
أسرته: وفي عام 1895م اقترن ورزق بسبعة أولاد وابنتان، ولم يزل باقياً منهم في قيد الحياة السيد آرنست، وهو اليوم نائب قنصل في السفارة الأمريكية في عاصمة الاتحاد، والسيد آرثر، وهو مهندس في مدينة سان فرنسيسكو، والسيد تشارلي، وهو صيدلي، والنابغة العبقري الزعيم الأوحد في رسالته القومية الوطنية الخالدة الشهيد المغفور له أنطون سعادة، وكان أستاذ اللغة الألمانية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد ذهب ضحية العنجهية واللؤم فأعدم رمياً بالرصاص في عهد حكومة الشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية لبنان ورئيس الوزراء المرحوم رياض الصلح، ولا عيب فيه سوى أنه كان أكبر داعية للوطنية والقومية المثلى، فكانت محاكمته الارتجالية والظروف التي أحاطت إعدامه لطخة عار سجلهاالتاريخ في جبين الدهر.
والسيد إدوارد، وهو كاتب تجاري، وابنته الوحيدة السيدة غريس زوجة السيد عيسى أنطون نحاس في ماتو غروسو.
مؤلفاته: وفي بيروت أصدر كتابه في (وقاية الأمراض السارية) وكتابه في (معالجة داء السل) فنالا شهرة في الدوائر العلمية والطبية، وفي سنة 1906م أصدر رواية موضوعها أسباب الثورة الروسية وأسرار الباستيل، وفي سنة 1907م نقل إنجيل برنابا من الإنكليزية إلى العربية، وفي سنة 1911م أصدر (معجم سعادة) في اللغتين الإنكليزية والعربية، واشتهر هذا القاموس بأوضاعه العلمية الدقيقة، وهو من أوسع المعاجم وأفضلها، وأصدر عام 1895م رواية قيصر وكليو بترا باللغة الإنكليزية.
رحلاته ومآثره الاجتماعية: وفي سنة 1885م ترأس المؤتمر الماسوني العلمي الذي عقد في القدس إثر اكتشاف مغارة هيكل سليمان التي روي أنها كانت أول محفل ماسوني في العالم، ورحل إلى مصر فتعرف على المرحومين الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والبارودي، وإبراهيم اليازجي، والجريديني، وشبلي، وداود بركات، والبكري، والأيوبي، وعلي اليوسف صاحب جريدة المؤيد، وغيرهم من أمراء العلم والسياسة؛ كمصطفى كامل باشا زعيم النهضة الوطنية المصرية، ونال في مصر منزلة عالية، حتى إن عرابي باشا الثائر المصري المشهور عينه طبيبه الخاص وأسند إليه تصحيح مذكراته التي أحدثت مقدمتها وهي بقلم الفقيد دويًّا هائلاً في عالمي الأدب والسياسة، وأسندت بعض المحافل الماسونية رئاستها إليه تقديراً لنبوغه العلمي وحياته وأخلاقه وحرية فكره. وخلال مدة إقامته في مصر أنعم عليه الخديوي عباس حلمي باشا برتبة البكوية.
هجرته إلى الأرجنتين: وفي عام 1914م هاجر إلى الأرجنتين وانصرف بكليته إلى الأدب والسياسة، وأصدر هناك صحيفة (المجلة) المشهورة، فتلقتها الجوالي بكل فخر، ونالت رواجاً عظيماً لما تحويه من المواضيع السياسية الوطنية، وأنشأ الحزب الديمقراطي، وله فيه مآثر خالدة تشهد له بحماسه ووطنيته المثالية، وكانت الدوائر السياسية العالية تحترم آراءه وتكبر فيه العظمة والجرأة والطموح إلى الحرية والاستقلال، وقد ترأس المؤتمر العربي الأول الذي عقد في بوينس آيرس.
في البرازيل: ودعي إلى البرازيل فلبى الدعوة، واحتُفل باستقباله، ورجت الجالية إليه البقاء في سان باولو فأذعن، وفي عام 1920م أصدر صحيفته النازية باسم (الجريدة)، وفي عام 1922م أصدر (المجلة)، وهي من أرقى المجلات في العالم العربي لأنها تحوي خلاصة أبحاثه العلمية وآرائه السياسية ومبتكراته الأدبية البليغة، وفي عام 1925م نقل روايته (قيصر وكليوبترا) من الإنكليزية إلى العربية، وفي عام 1924م أسندت إليه رئاسة محفل نجمة سوريا، وفي عام 1930متولى رئاسة تحرير جريدة (الرابطة)، فقام على نسج بردها الراقي حتى ساعاته الأخيرة، ولا يزال من آثاره الكتابية الشيء الكثير مما لم ينشر، منها رواية (أنطونيوس وكليوبترا) باللغتين العربية والإنكليزية، ومقالات مسهبة في الفلسفة والأدب والاجتماع والسياسة، ومن مخطوطاته النفيسة تلخيصه النظرية للعلامة أينشتاين.
أوصافه ووفاته: عاش الفقيد كبير الروح، كبير العقل، قوي الإرادة، جباراً في هيكل متين، وقد شاء أن يختبر بنفسه طريقة التطبيب بالصيام من الوجهتين العلمية والطبية، فصام مدة ثلاثة وأربعين يوماً، وقد وافته المنية بعد إفطاره بخمسة أيام، وذلك في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الثلاثاء الواقع فيالعاشر من شهر نيسان سنة 1934م، ودفن في مقبرة سان باولو البرازيل، وكانت جنازته حافلة أفاض الشعراء والخطباء بمناقبه الحميدة ورسالته الوطنية الخالدة، ومن المراثي المؤثرة قصيدة الشاعر الحمصي الملهم السيد نصر سمعان، ومطلعها:
يومك الأسود الرهيب أعدَّتـ | ـه الليالي للمشرقين قناعا |
أجِلِ الطرف في ضريحك تبصر | قلب شعب يقضي الحياة نزاعا |
خاضعاً قلبك الذي عاش للحقْـ | ـقِ وإذا مات مات عنه دفاعا |
أين تلك الصفات أين نبوغٌ | نيِّرٌ يملأ الوجود شعاعا |
أين ذاك الإباء أين سموٌّ | كان كالشمس عزةً وامتناعا |
لو تنال السماء حظَّك منه | لتوارت عن العيون ارتفاعا |
ليس هذا المصاب نكبة شعبٍ | إنما الشرق إذ نعوك تداعى |
رحم الله الفقيدين الزعيمين الأب والابن بقدر ما أحسنا إلى العلم والأدب والإنسانية والعقيدة الوطنية.
* * *