خليل شيبوب
خليل شيبوب([1])
(1891 ـ 1951م)
أصله: هو خليل بن إبراهيم بن عبد الخالق شيبوب، وكانت الأسرة تسمى (النحال)، وهي حمصية الأصل، وقد نزحت عن حمص منذ أكثر من قرنين إلى اللاذقية، وكان والد الجد عبد الخالق ـ واسمه جرجس ـ أحد إخوة ثمانية امتهنوا مهناً مختلفة، وتلقب بعضهم بالمهنة التي تعاطاها فصارت أسماء لأسرهم، وكان جرجس قوي العضل، شديد البأس، فصار يلقب بالشاب، ثم حرف اللقب إلى (شيبوب) وعرفت به أسرته.
مولد ونشأته: ولد الشاعر المترجم في اللاذقية يوم 28 كانون الثاني سنة 1891م، وتلقى علومه بمدرسة الفرير فيها، وتخرج منها بشهادة التجارة، لأن المدرسة لم تكن تحضِّر للبكالوريا، وفي سنة 1908م سافر إلى الإسكندرية واستخدم في بنك الأراضي المصرية، وظل يعمل في هذه المؤسسة، وقد وصل فيها إلى وظيفة رئيس قلم القضايا التي تولاها أكثر من (25) سنة، وابتدأت مواهب الخليل الأدبية والشعرية تظهر منذ كان على مقاعد الدرس، وفي الإسكندريةاستكمل دروسه وتثقيف نفسه دون أن ينقطع عن العمل، ونال شهادات عديدة منها الليسانس في الحقوق سنة 1924م.
مؤلفاته: طبع ديوانه في مصر بمطلع عام 1921م، وصدف أن كان أمير الشعراء أحمد شوقي بك في الإسكندرية يتردد على بنك الأراضي بغية شراء أرض زراعية، فرأى في المجلس شابًّا وسيماً قد انهمك في تصحيح تجارب مطبعية وذهل عن كل ما حوله، فسأله أمير الشعراء عما يفعل، فأجاب بأنه يصحح (مسودات) ديوان شعره، ودهش شوقي بك، وسأله أأنت شاعر؟! فأجابه لست شاعراً ولكنني أنظم الشعر أحياناً، وسأله عن اسمه وعمن كتب له مقدمة ديوانه، فأجابه خليل مطران، وبهذه المحاورة نشأت صداقة خليل شيبوب لأمير الشعراء، وعرض عليه أن يكتب له مقدمة لديوانه تضاف إلى مقدمة خليل مطران، فقبل العرض شاكراً، ومن شعر شوقي بهذه المقدمة:
شيبوب ديوانك باكورة | وفجرك الأول نور السبيل |
ويعني بالفجر الأول اسم الديوان.
وترجم الشاعر في سنة 1935م مع الأستاذ عثمان حلمي (الشاعر) قصائد لبعض الشعراء الشرقيين إلى الشعر العربي ونشراها في كتاب، ونقل إلى العربية كتاب «أعمال البورصة» في مصر للسيد (جول فلاط)، وقد طبع 1938م.
وانصرف منذ سنة 1936م إلى وضع «المعجم القضائي»، فنشر الجزء الأول منه في سنة 1937م، أتمه ونشره كاملاً في جزء واحد سنة 1949م، وله سلسلة (واقرأ) ترجمة للمؤرخ المصري الجبرتي.
نشاطه الأدبي: كان بارز النشاط في المحيط الأدبي بالإسكندرية، ونشر المقالات والأبحاث في صحف عديدة نذكر منها صحيفة (البصير)، وقد كتب فيها سلسلة مقالات اجتماعية أدبية بعنوان (بريد الثلاثاء)، كما نشر مقالات عديدة في صحيفة (الأهرام) في سنتي 1949م و1950م.
وفي سنة 1931م تأسست بالإسكندرية جماعة أدبية باسم (جماعة نشر الثقافة)، فانتخب أول رئيس لها، وقد نشطت الجماعة في عهد رئاسته فأنشأت جامعة شعبية، ونظمت المحاضرات والمهرجانات، وطبعت طائفة من الكتب، وحررت عدداً من (السياسة الأسبوعية).
محاضراته: ومن ظواهر نشاطه الأدبي المحاضرات العديدة التي كان يلقيها في بعض الأندية والقصائد التي كان ينشدها في بعض المناسبات الأدبية والاجتماعية، وأما محاضراته فنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «الابتداعية في الأدب العربي»،ألقاها بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وأخرى عن الأدب العربي المعاصر ألقاها بنادي (الأتليه) بالفرنسية.
مواهبه: وقبل ربع قرن أقام السوريون واللبنانيون في الإسكندرية حفلاً لتكريم خليل مطران كان خطيبه الأول خليل شيبوب، ولما قارب الحفل نهايته، وقف مطران وبايع لخليل شيبوب بخلافة الشعر من بعده، واعتز شيبوب بهذه البيعة لأنه كان يجل (المطران) ويجعل نفسه حواريًّا من حوارييه، وفي سنة 1939م نشر الدكتور إسماعيل أدهم عن خليل مطران بحثاً في مجلة المقتطف وذكر أن خليل شيبوب هو من الشعراء المعاصرين المتأثرين بأدب مطران.
لقد غاب عن خليل مطران أن الأدب لا يورث وليس فيه خلف ولا سلف، والحق أن (الشيبوب) كان أشعر في بابه من مطران كما شهد له بذلك أعلام الأدب في مصر، وإنما سبقه المطران إلى الشهرة لأن الذين في أيديهم أمور النشر والإذاعة رأوا أن يجعلوا منه ثالثاً لشوقي وحافظ.
كان شيبوب يتمذهب بمذهب خليل مطران في الشعر الوصفي أو الرمزي، فهو شاعر وصاف، والشاعر الوصاف ينزع أكثر ما ينزع إلى الناحية المادية، بيد أن شعر شيبوب في هذا المنحى أقوى من شعر مطران، فيه قوة نفتقدها في قريض شاعر القطرين وعاطفة مشبوبة قل أن نعثر عليها في قصائد الوصافين من الشعراء المحدثين، وشيبوب هو القائل:
ولا بجسمي قطرة من دمي | لم تختمر حبًّا ولم تعشق |
على أن خليل شيبوب لم يفرغ للشعر، وإنما جعله هواية له في أوقات الفراغ، وقد قام بمحاولات للتحرر من شكل القصيد التقليدي والتجديد في النظم، ونظمها على شكل ثنائيات أو ثلاثيات أو خماسيات، وهذه مقطوعة من قصيدته بعنوان (نظرة إلى الماضي):
ماذا يريد الناس مني | إن كنت قد أكثرت حزني |
أفنيت عمري في البكا | ء وفي الرجاء وفي التمني |
ذهب الشاب وما ملأ | ت بنوره قلبي وجفني |
يمتاز أسلوبه بالوصف الواقعي الذي كان يصدف عنه الشعراء السابقين والذي طوَّعه للشعر وجلاه في صورة ملموسة، إن هذا الوصف الواقعي يتميز عن ذلك النوع من الشعر المتفاوت المعاني والصور التي يتعمدها بعض الشعراء؛ لأنه كان كثير العناية، يتخير معانيه وصوره والتزام الطراز الشعري في وضوح، ينأى عن غموض الرمزية أو هوس ما وراء الواقع، وكان اتباعيًّا من هذه الناحية ابتداعيًّا في خيالاته وعواطفه، متحرراً في بعض الأحيان في طريقة النظم، ومن روائع نظمه قوله:
هواك بصدري حادث وقديم | وعهدك عهدي راحل ومقيم |
وأنت كما شاء الجمال حبيبه | وأم كما شاء الحنان رؤم |
فلو نطقت فيك الحجارة حدثت | عن المجد مرفوع اللواء عظيم |
أما قصيدته (صوت الرجاء) فقد تجلى فيها ما انطوت عليه نفسه من شعور طافح بالعزم والصبر، وكفى بالشاعر بؤساً أن يرمي بقلبه إلى الناس:
السقم يأكل من عزمي ومن جلدي | والحب يأكل من روحي ومن كبدي |
لذا فرغت إلى الكاسات أشربها | صرفاً وتشرب من عقلي ومن رشدي |
أشكو إلى الخمر همي وهي تسلبني | عقلي مخافة أن أشكو إلى أحد |
وقد قال بعض المتأدبين عنه: إنه كان ناثراً أكثر منه شاعراً، وقد توفر على دراسة العصر المملوكي، وتجلى نثره البليغ في كتابه عن (الجبرتي)، والحق أنه كان مقلًّا مبدعاً في شعره، متأنقاً في نثره، كأنه الدر المنثور.
حياته الاجتماعية: لقد روى شيبوب عن نفسه أنه أسرف على نفسه في شبابه الأول، فقد اعتاد أن يدعو أصفياءه إلى سهرات رائعة ومآدب مونقة يتبادلون فيها أعذب النوادر، ويتطارحون أبرع ألوان القريض، وفي غضون الحرب العالمية الثانية ضاق (الخليل) ذرعاً بظلام الإسكندرية وغاراتها المتوالية، فغادرها إلى أطراف المدينة وأقام لنفسه (مغنى) في صحراء سيدي بشر، وهنالك بين المهامه البيد والتنائف الفيح كان ينعقد مجلس الشعر وتدور على الحاضرين كؤوس الطلا مترعة، ويتساقون ألواناً من أدب شيبوب، وإقامة هذه السهرات والمآدب المتواصلة يتطلب الإنفاق عليها، ولا يستطيع احتمالها إلا من كان ثريًّا سخيًّا، وهذا ما يدل على أن الشاعر المترجم كان أكرم من الغيث المنهمر، وهي أبرز سجية في أخلاقه الفاضلة، ولا شك أن قرينته السيدة أليس كركور التي تزوجها في سنة 1932م ولم ينجب منها ذرية كانت كريمة المنبت، تواسيه وتهيئ له أسباب السعادة في حياته الاجتماعية؛ لتخفف عنه وطأة حرمان النسل، وتظهر مواهبه في ميادين الأدب والكرم، وله خدمات إنسانية، فقد انتخب مراراً عضواً بالمجلس الطائفي للروم الأرثوذكس المصريين بالإسكندرية، وكان ينتخب سكرتيراً له، وتجدد انتخابه مدة (15) سنة.
وفاته: لقد كان يحيي مستهل كل عام في بيته حفلاً بهيجاً، ولكن المرض ضربه فجأة وأصابته ذبحة صدرية حادة في أول يوم كانون الثاني سنة 1951م، وتحسنت حالته بعد أيام، ولكن النوبة عاودته في الدماغ أكثر من مرة في مدة شـهر واحـد، وعصفـت المنيـة بروحـه في الساعة الخامسة من مساء يوم السبت 3 شباط سنة 1951م، وشيعت جنازته مساء اليوم التالي بمأتم شعبي حافل دلتعلى مكانته في قلوب الإسكندريين، وألحد الثرى في مدافن الروم الأرثوذكس المصريين في الشاطبي بالإسكندرية، وأقيمت له الحفلات التأبينية بمناسبة الأربعين ومرور سنة على وفاته، اشتركت فيها الجماعات الأدبية لنشر الثقافة والاتحاد العربيوجماعة أسرة اللغة العربية.
وهكذا فقد الأدب والكرم والنبل فارسه المجلي المتواضع لينعم بالخلود الأبدي مع أنداده العباقرة.
* * *