خليل مردم بك
خليل مردم بك([1])
علامة الشام وشاعرها العبقري الأستاذ خليل مردم بك
(1896م)
لقد دققت بنتيجة دراساتي وما مر علي خلال مدة وضع هذا المؤلف من عناء مضنٍ وكبت مرير له علاقة بالشعراء والفنانين المترجمين، إن فريقاً منهم يهوىالشهرة والإطناب، وبعضهم جبلوا على الزهد والتواضع والبعد عن الدعاية والنفرة من داء حب الظهور، وشاعر الشام الفذ من هذه العناصر الفاضلة الذي ينطبق عليه قول ابن الفارض:
ته دلالًا فأنت أهل لذاكا | وتحكَّم فالحسن قد أعطاكا |
لقد تشرفت بزيارة معاليه مرة واحدة وطلبت بعض المعلومات عن مراحل حياته فوعد، وعز على كرامتي الإلحاح بالطلب، وقد غضضت النظر عن ذكر تراجم فريق من الشعراء لهذه الأسباب، ولكني رأيت ذكر هذا الشاعر الملهم الخالد بآثاره فرضاً عليَّ وخدمة للمجتمع، وإن كانت مناقبه غنية عن الإطناب، ومآثره معروفة لا تحتاج إلى تحليل وإسهاب، فهو فخر العروبة ولها حق امتلاك آدابه، وآثرت وضع ترجمة حياته هذه وأملي أن أكون وفيت شاعر الشام الكبير وفرقدها الذي به تستنير بعض حقه من الوصف.
مولده ونشأته:بزغ نجم هذا الشاعر العبقري في سماء دمشق سنة 1896موآية النجابة ترمقه، وهو ابن المرحوم أحمد مختار بك، انحدر من أسرة كريمة عريقة في محتدها ومجدها، أنجبت أفذاذ الرجال من وزراء وعظماء وزعماء وعلماء وأدباء،فكانوا نجوم دمشق السواطع، نشأ في بيئة ورثت المعالي والمكارم والسؤدد كابراً عن كابر، فكان لها أعظم الأثر في توجيه مراحل طفولته، تلقى علومه الابتدائية والثانوية في المدارس الحكومية، ثم تابع دراسته العالية في جامعة كمبردج الإنكليزية، ونال شهادتها الجامعية في عهد ندر أن نالها غيره من أقرانه.
بروق مواهبه: وفي عهد المرحوم رضا باشا الركابي عين في سنة 1920م أميناً عامًّا لرئاسة وزارته، فبرزت مواهبه كعالم ضليع وشاعر وناثر بليغ، وأدى رسالته بإخلاص مقرون بخلق مكين، فعلا أمره، وكان مثالًا يقتدى في المجتمع بفضله وأدبه.
أخوة الرابطة الأدبية بدمشق: وفي سنة 1921م أسس أدباء المهجر في مدينة نيويورك بأمريكا الشمالية «الرابطة العلمية»، ولما كان للأدب روح لا تعرف الحدود فقد تنادى أدباء الشام وأسسوا «الرابطة الأدبية»، وأصدروا باسمها مجلة أدبية تولى فئة منهم إدارة شؤونها من تأليف وترجمة ونقد لتكون صلة بين أدب المهجر وأدب الوطن، فكان رئيسها شاعر الشام الأجل.
في المجمع العلمي العربي: وفي عام 1924م انتسب إلى المجمع العلمي العربي بدمشق فكان أحد أعضائه العاملين المنتجين، وبدأت دراساته وهو يؤلف في صمت وسكون حتى فاجأ المجمع بأفضل المؤلفات الأدبية، وطارت شهرة علمه وأدبه في الآفاق، فانتخب في سنة 1948م عضواً في مجمع فؤاد الأول بالقاهرة، وانتخب في سنة 1951م عضواً في معهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن.
في الوزارة: تقلد وزارتي المعارف والصحة والإسعاف العام من تاريخ 16 نيسان إلى 14 آب 1941م، وأدى خدمات ثقافية مشكورة، وفي شهر حزيران سنة 1951م عين وزيراً مفوضاً لسوريا في العراق، فكان أفضل من مثل وجه بلاده، ورفع شأنها بثقافته وعلمه وأدبه.
مؤلفاته: وأنتجت قريحته سلسلة من المؤلفات، وهي أئمة الأدب، صدر منها خمسة أجزاء: ابن العميد، وابن المقفع، وابن الفقيه الصاحب، والفرزدق، والجاحظ، وقد عنيت وزارة المعارف بتدريسها للطلاب الثانويين، وأصدر مؤلف «شعراء الشام» في القرن الثالث عشر وجعله أطروحة لدخول المجمع العلمي العربي، وله دراسة لديواني الشاعرين ابن عنين وعلي بن الجهم.
شعره: له ديوان شعر مخطوط ضم شتى قوافي القريض، امتاز بنزعته الشعرية الأندلسية بسمو الخيال وروعة المعاني ودقة الوصف، ومن قصائده خريدته الخالدة بوصف غوطة دمشق، آثرت نشرها بكاملها، وفي كل شطر منها وحي وإلهام:
كم من أزاهير الرياض لناظر | من مقلة وسْنى وخدٍّ ناضر |
ماست أماليد الغصون بوشيها | معطارة وازينت بجواهر |
لله ما صنعت وما جادت به | في «الغوطتين» يد الربيع الباكر |
بسطت وثير قطيفة فوق الثرى | خضراء فيها كل لون زاهر |
من أحمر قانٍ وأصفر فاقعٍ | أو أزرق زاهٍ وأبيض سافر |
وكست وحلت سمحة أشجارها | فجلت عرائسها بوشي فاخر |
معقودة الإكليل زهراء الحلي | خفاقة الأقراط ذات أساور |
أرخت من الظل الظليل غصونها | طرراً وأذيالًا وفضل مآزر |
حيَّا جنان الغوطتين وجادها | سمح القياد من السحاب الماطر |
حلم من الإبداع فيها ماثل | من دونه يعيا خيال الشاعر |
تتناثر الأزهار في أجوائها | مبثوثة مثل الفراش الثائر |
فنن يرنحه النسيم كأنه | نشوان من نفس برود عاطر |
عرقت جباه الزهر من قطر الندى | ملتفة الأعناق ذات تآطر |
كالبكر يرشح للحياء جبينها | عرقاً إذا ضمت لصدر الهاصر |
وإذا الرياح تأوهت سقط الندى | من كل زاهرة كدمع هامر |
وترى الجميم إذا الرياح تناومت | متموجاً مثل الغدير الماثر |
وشقائق النعمان في قيعانها | تقطيع أكباد وشق مرائر |
والشمس من خلل الغصون على الثرى | كدراهم ألقت بها يد ناثر |
وترى الجداول كالوذيلة رونقاً | من مستقيم في المسير وجائر |
والأيك في شطآنها كنعائم | مدَّتْ بأعناقٍ لها ومناقر |
مرآة أحلامي ومرتع صبوتي | وهوى فؤادي بل ومتعة ناظري |
في كل مغنى من فؤادي شعبة | وبكل وادٍ هائم من خاطري |
وتكاد أخيلتي تطل عليَّ في | أرجائها من طائف أو زائر |
كم جولةٍ لي ثَم حائرة الخطا | بين الخمائل كالفراش الحائر |
يقتادني في كل شطرٍ جاذبٌ | من منظرٍ نضرٍ وحسنٍ باهر |
والزهر يلقاني بثغرٍ باسمٍ | وبوجنةٍ حمرا وجفنٍ فاتر |
وأرى الغصون كأذرع ممدودة | لتعانقٍ من بعد طول تهاجر |
في كل ربع مونق لي وقفة | هي وقفة المسحور عند الساحر |
أما العهود وإن تقادم عهدها | فرسيمة الناسي وهم الذاكر |
قم في مشارف «قاسيون» وعج بها | تشرف على صنع البديع القادر |
دوحٌ كسامية القباب حيالها | من باسقات الحور مثل منائر |
و«دمشق» ما بين الرياض سفينةٌ | عامت على عالي القوارب زاخر |
لا تستبين العين في أثباجه | مهما تقصَّتْ أولًا من آخر |
تبدو الجبال الشمُّ من متعمم | شابت مفارقه وأصلع حاسر |
تتجاوب الأطيار في أفنائها | من هاتفٍ أو ساجعٍ أو صافر |
يا رب سوداء الملاءة شمَّرتْ | عن ساقها ورنتْ بعين معاقر |
مخضوبة الكفين تحكي قينةً | برقتْ بحمر مراشف وأظافر |
وثابة ولها تلفُّتُ خائفٍ | مترقبٍ لميامنٍ ومياسر |
تتراقص الأغصان من تغريدها | ميَّادةً لتطاولٍ وتقاصر |
غنتْ بلحن يستثير لواعجا | ويهيج من طربٍ دفين ضمائر |
ريَّانَ من دمعٍ ويلهب لوعةً | كحنين مشتاقٍ وزفرة زافر |
والطير لو أبصرت أسعد عيشةً | يا ليت للإنسان عيش الطائر |
وهذه قصيدة بعنوان الزنبق، ففي كل بيت منها وصف رائع ومعان تسحر رناتها القلوب:
حيتك باسمة ثغور الزنبق | مفترة عن طيب متألق |
ضمت براعمها شفاه مقبل | وحنت عليك حنو صب شيق |
وكأنها في الماء خود شمرت | عن ساقها وعن الورود لتستقي |
وكأنها استحيت فغضت طرفها | وتطمأنت خفراً برأس مطرق |
نهلت أفاويق الندى زهراتها | فتفتحت كالشارب المتمطق |
لم تقو صغراها على برد الندى | أفما تراها ذات ثغر أزرق |
وترى عناقيد البراعم تنضوي | متلازمات في عناق ضيق |
من طيب الأنفاس والأردان ذي | جفن على حلم التعانق مطبق |
* * *
عذراء تستهوي العيون بطلعة | وضاءة بيضاء كالعرض النقي |
تختال من زهو الصبا في ميعة | ومن الشباب وحسنه في ريق |
فكأنها ببياضها وسنائها | برزت إليك من الضحى في رونق |
وتسربلت بغلالة وبريطة | من سندس خضر ومن استبرق |
خفاقة الإفراط زهراء الحلي | معقودة الإكليل فوق المفرق |
ما أقبلت إلا بثغر باسم | وبمقلة وسنى ووجه مشرق |
وكأنها سكرى تمايل عنقها | ورنت بجفن بالنعاس مرنق |
مر النسيم على الندى بجفونها | فترجرجت قطراته كالزئبق |
إني ليشجيني الندى متعلقاً | بجفونها كالمدمع المترقرق |
تغني برياها وطيب شميمها | عن بابلي بالدنان معتق |
أنفاسها تحيي النفوس وريحها | روح تشيع بسائف متنشق |
* * *
هيفاء إن رفت أعاليها بدت | في الحوض شروى رابة في زورق |
ما شئت في زهراتها من كوكب | متألق بشعاعه متمنطق |
كم زهرة رفت فخلت فراشة | بيضاء رف جناحها بترفق |
أطباقها مثل الأنامل شبكت | في كل كم تلتقي في مأزق |
أو كالجفون طويلة أهدابها | من ناعس ومغمض ومحدق |
أو لؤلؤ رطب تشظى حوله | صدف أناف على بياض المهرق |
* * *
إن الذي خلق الأزاهر خصها | بقضيبها وبتاجها كالبيرق |
الحور في جنات عدن تجتلى | والبيض منها في حدائق جلق |
وهذه قصيدة بعنوان (يا ليتني) وهي تفيض بسمو الخيال والبيان.
يا ليتني
يا ليتني لما شربـ | ـت الكأس صرفاً لم أثن |
أو ليتني حين انتشيـ | ـت من المدامة لم أغن |
أو أنني لما ورد | ت صدرت قبل نضوب دني |
أو أنني لما ارتويـ | ـت تركت شيئاً للتمني |
بل يا ليتني لما شممـ | ـت الورد لم أقطف وأجن |
أو يا ليتني لم أنتقل | في الروض من غصن لغصن |
فلقد جريت مع الشبا | ب مشمراً ثوبي وردني |
وطويت كشحاً عن مقا | لة عاذل وسددت أذني |
ما كان أحوجني على | خوض الغمار إلى التأني |
لم أنتفع يوماً بعلـ | ـمي في العواقب أو بظني |
حتى صحوت قرعت من | ندم على الإسراف سني |
* * *
لكنني ما زلت من | سحر الجمال أصوغ لحني |
لي في مواكبه فؤا | د ضعت منه وضاع مني |
كم بت رهن هواه في | كنف الجمال وبات رهني |
ورويت عنه من الروا | ئع ما رواه الناس عني |
وملأت عيني منه حتـ | ـتى لا يطيق الغمض جفني |
ونعمت من أفيائه | وظلاله بجنات عدن |
مصابه: وشاء القدر أن يوجه إلى قلبه سهمه فيدميه، فقد عصفت المنية في سنة 1942م بفلذة كبده (هيثم) وهو يدرس الفلسفة في ريعان شبابه، وكان عزاؤه وسلوانه ميدان القريض والتأليف، فجادت قريحته بروائع الشعر الخالد، وكان صبره واحتسابه أحد سجاياه البارزة.
رئاسة المجمع العلمي العربي: وبتاريخ 1 تشرين الأول سنة 1953م أسندت لمعاليه رئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق خلفاً للعلامة المرحوم محمد كرد علي، فكان لهذا الانتقاء الصدى المستحب.
وكلمة حق لا مراء فيها: إن وجود معاليه رئيساً لأكبر صرح علمي في الشرق كان له أبلغ الأثر في ازدهار المجمع العلمي العربي، فقد عني معاليه بجمعالمخطوطات النادرة حتى بذَّ في هذا المضمار المجامع العلمية العربية والغربية.
اتصف شاعر الشام الكبير بشمائل رضية فاضلة.
ولده عدنان: ورث هذا الشبل شمائل والده العظيم، وهو شاعر مبدع فاح نشر أدبه في الأوساط الأدبية، وهو من مواليد سنة 1915م، يحمل الشهادة من معهد الحقوق العربي، وقد انتسب إلى القضاء، وله مستقبل باسم زاهر.
* * *