خليل اليازجي
خليل اليازجي([1])
الشيخ خليل اليازجي
(1856 ـ 1889م)
مولده ونشأته: ولد الشيخ خليل اليازجي في بيروت سنة 1856م، وهو أصغر أنجال الشيخ ناصيف اليازجي، نشأ بكنف والده في مهد العلم والأدب، وترعرع في بيت علم كبير رأسه الشيخ ناصيف وإخوته الشيخان حبيب وإبراهيموالسيدة وردة، وكلهم شعراء وأدباء ومؤلفون، تلقى الشيخ خليل عن والده مبادئ العربية، وأخذ عنه فنون الشعر واللغة والإنشاء، دخل المدرسة الأمريكية في بيروت ودرس العلوم الطبيعية والرياضية وبرع فيها، ونظم في مبادئها شعراً يدل على تضلعه منها.
رحلته إلى مصر: ولما شب نزعت نفسه إلى زيارة القطر المصري لرواج الأدب فيه، فسافر إليه سنة 1881م وتعرف بأهل العلم والأدب، وظهرت مواهبه واشتهر أمره، وقد نال منزلة سامية لدى الخديوي توفيق باشا، ثم أخذ ينشئ مقالات في مجلة (مرآة الشرق) في أوائل سنة 1879م، ثم استقل في امتيازها ودبج فيها مقالات نفيسة، وأصدر منها بضعة أجزاء، وقد توقفت عند نشوب الثورة العرابية، وعاد الشيخ خليل إلى بيروت.
قرانه: وفي سنة 1883م اقترن الشيخ خليل بالآنسة فدوى كريمة جبرائيل الكاتب، فأرخ قرانه شقيقه الشيخ إبراهيم بقوله:
لله يوم بالمسرة قد صفا | فشفى من الأكباد كل غليل |
في طالع لما بدا تاريخه | بالخير طاب به قران خليل |
في خدمة العلم: تولى تعليم اللغة العربية للصفوف العالية في الكلية الأمريكية والمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك مدة، وما زال يؤلف ويعلم حتى استفحل مرضه.
مرضه: وفي سنة 1886م أصيب بعلة الصدر وعجز الأطباء عن معالجتها، فأشار عليه الأطباء أن يقصد القطر المصري للاستشفاء بهوائه، وفي خلال هذه الفترة طبع ديوانه الشعري المسمى (نسمات الأوراق)، وفيه نخبة منظوماته، ثم اشتدت عليه وطأة العلة فعاد إلى لبنان وأقام في قرية عبية، ولبث فيها شهراً، ثم سكن الحدث وبقي فيها حتى وفاته.
مآثره العلمية: أمعن الدهر في قسوته على هذا النابغة، فاعتل وقضى نحبه وهو في عمر الشباب لم يتخط الثالثة والثلاثين من عمره، ولو امتد به الأجل لأتى بالمعجزات في ميدان التأليف والأدب كأبيه وأخيه العبقريين، ومن مؤلفاته المطبوعة: 1 ـ ديوان نسمات الأوراق، جمع فيه ما نظمه من التهاني والمراثي والمدائح والحكم والآداب والموشحات والمراسلات والعلميات، 2 ـ رواية المروءة والوفاء،وهي تمثيلية شعرية تاريخية غنائية أتم نظمها سنة 1876م وله من العمر عشرون سنة، فبلغت أبياتها نحو ألف بيت، وقد دل على مقدرته في النظم، وتحدى فيها كبار كتاب الغرب في وضع الروايات التمثيلية في الشعر مأخوذة من ليالي القمر، ومثلت في بيروت ومصر، 3 ـ تنقيح كتاب كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع، وهو من أشهر الكتب في أساليب الإنشاء، وقد بحث المترجم عن نسخه المخطوطة والمطبوعة في مكاتب الشرق والغرب، وضبط ألفاظه وفسر غريبه وشرح غامضه،فجاءت هذه النسخة بغاية الكمال والضبط، وقد طبع سنة 1884م وكرر طبعه بعد ذلك.
أما مؤلفاته المخطوطة فهي: 4 ـ الصحيح بين العامي والفصيح، وهو في نحو خمس مئة صفحة بخطه، وضعه سنة 1885م وله من العمر تسع وعشرون سنة، وغايته من هذا المعجم الذي لم يسبقه أحد إلى مثله تفسير الألفاظ والتعبيراتالعامية بألفاظ وتعابير فصيحة، وقد طبع له مقدمة وأنموذجاً في أربع صفحات على أمل أن ينشره مطبوعاً، فحال المرض دون طبعه، ولم يقم شقيقه الشيخ إبراهيم بإخراجه، 5 ـ السلَّم الرفيعة إلى علم الطبيعة، وهو كتاب في الفلسفة الطبيعية التي أتقنها، 6 ـ قيد الأوابد، وهو كتاب في اللغة وشواردها، 7 ـ رواية السموءل، وهي شعرية غير كاملة، 8 ـ الوسائل في إنشاء الرسائل، وهو كتاب في علم الإنشاء.
شعره: كان شاعراً مجيداً مطبوعاً، متوقد القريحة، سريع الخاطر، حاد الذهن، كثير الرواية، متفنناً في أساليب الإنشاء، قريب البرهان مع لطف الحاضرة وسمو الآداب، وكانت صلاته مع الأدباء والشعراء والعلماء كثيرة.
وله قصائد كثيرة لم تدون في ديوانه نسمات الأوراق، منها قصيدة يرثي بها جرجي بن يعقوب فياض المتوفى سنة 1872م، وكان صاحب هذه الترجمة في سن السادسة عشر، وهي من أوائل نظمه، ومطلعها:
في كل يوم للمنية مصرع | وكأنما هي في السلامة تطمع |
ما زالت الغفلات ملء عيوننا | والموت عنا ساعة لا يهجع |
قد غرَّنا طيب الحياة وإنما | مثل السحابة عن قليل تقشع |
الله أكبر كم يخادعنا بها | سحر له في كل عين برقع |
ومنها:
غصن لواه البين حتى أوشكت | تلوي لمصرعه الغصون اليُنع |
فمضى وقد جفت حياة شبابه | فسقته من سحب العيون الأدمع |
وقوله مما كتب على صورة من النوع الذي يضيء في الظلام:
رسم له الشرف العظيم لأنه | من نور وجهك مستمد نورا |
فكأنه قمر وأنت الشمس إذ | يغدو أمامك في الظلام منيرا |
وبكى صديقه الشاعر أديب إسحاق فرثاه بقصيدة نقتطف منها بعض أبياتها:
أخلق بجسمك أن يبيت كليلا | عن جهد نفسك أو يموت عليلا |
نهكته نفسك في المطالب والعلى | حتى تمنى للفراق سبيلا |
يا راحلاً أبكي عليه محابراً | ومنابراً ومحاجراً وطلولا |
ترثيك أقلام يكون صريرها | نوحاً عليك من الأسى وعويلا |
وهي التي قد كن بين بنانها | قضباً وكان صريرهن صليلا |
كان الشيخ خليل مثل والده وإخوته وإخوانه، وهو صغير بينهم قد اقتبس أفضل الأخلاق والآداب.
وفاته: كان يحتمل المرض بصبر وجلد، وفي عينيه دمعة الأسى على شبابه، وفي 23 كانون الثاني سنة 1889م عصفت المنية بروح هذا العبقري وهو في أوج شبابه في قرية الحدث، فنقلت جثته إلى بيروت بمشهد حزين، ودفن في مقبرة أسرته في محلة الزيتونة، وقد تبارى الشعراء والخطباء في رثائه وتأبينه، وأعقب ذرية طيبة تقيم الآن في سان باولو، منهم ولده الأديب حبيب، وقد سمي على اسم عمه الشيخ حبيب الذي طواه الردى في ربيع عمره قبل أن يكمل رسالة نبوغه وتتفتح أزاهير عبقريته.
* * *