أبو الخير الجندي
أبو الخير الجندي([1])
شاعر العاطفة والغزل المتفنن الألمعي أبو الخير الجندي الحمصي
أصله ونشأته: هو السيد أبو الخير بن محمد الجندي العباسي، ولد في حمص سنة 1867 ميلادية، ونشأ في حجر والده جامعاً لطارف مجده وتالده، أخذ عن علماء زمانه، وكان بكر أبيه فاعتنى بتربيته وتثقيفه، ولما شب انتسب إلى خدمة الدولة، فتدرج في الوظائف العدلية والمالية والإدارية، وأقام مدة طويلة في دمشق تبسم ثغر إقباله فيها.
نفي المترجم إلى الأناضول: وفي خلال الحرب العالمية الأولى كان القابضون على ناصية الحكم في العهد التركي قرروا خطة إفناء العنصر العربي بشكل تدريجي، فصدرت أوامر جمال باشا بنفي القافلة الأولى، وهي تضم نخبة من العوائل العريقة في مجدها ونفوذها، فسيقت في القطار الحديدي إلى الأناضول دون أن تعطى المهلة الكافية لتصفية علاقاتها، وكان المترجم وبعض إخوته وأبناء عمه ضمن القافلة الأولى، وأقام في مدينتي اسكي شهر وسيوري حصار مدة سنتين ونصف كان خلالها موضع إعجاب كبار الشخصيات التركية بعلمه وفنونه.
ومن الحوادث المعروفة أن المغفور له الملك حسين لما رأى قافلة الشهداء الثانية من زعماء العرب تعلق على أعواد المشانق بدمشق ليلة 5 ـ 6 مايس 1916موأدرك نوايا الأتراك نحو العرب قام بالثورة العربية في منتصف شهر حزيران 1916م، فاضطر الأتراك للتوقف عن تنفيذ خطتهم الإفنائية وانشغلوا بإخماد الثورة التي كانت تزداد لهيباً وضراماً، وصدر العفو عن الشيوخ والأطفال بالعودة إلى أوطانهم.
وفي خلال فترة انسحاب الجيش التركي إلى حيث... كان الفقيد رحمه الله بطريقه إلى وطنه.
ومن المحقق أنه لولا قيام الملك حسين الذي ضحى بعرشه في سبيل القومية العربية وصدق مبادئه لقضى الأتراك على مئتي ألف عائلة سورية لبنانية كان من المقرر نفيها وتشريدها في الأناضول.
تعيينه متصرفاً لحوران: وبتاريخ 25 مايس 1920م عين متصرفاً لحوران، وفي عهده وقعت مذبحة خربة الغزالة المروعة، وبالنظر لأهمية هذه الحادثة التاريخية البارزة وعلاقتها بوضع المترجم فإني رأيت الإشارة إليها بلمحة موجزة.
حادثة خربة الغزالة: عقب الاحتلال الإفرنسي لسوريا أرسلت السلطة المنتدبة قوة مؤلفة من عشرين جنديًّا من السنغال إلى حوران، فمانع الحوارنة مجيء هذه القوة وهاجوا وأجبروها على العودة في القطار، فاهتم الإفرنسيون لهذا التحدي الذي يحول دون توطيد كيانهم الانتدابي في تلك المنطقة، ورأى المرحوم علاء الدين بك الدروبي رئيس مجلس الوزراء في ذلك العهد أن يقوم بزيارة حوران لتهدئة الخواطر، ورافقه في هذه الرحلة المشؤومة المرحوم عبد الرحمن باشا اليوسف رئيس مجلس الشورى لوجاهته ونفوذه على الحوارنة بالنسبة لصلات المودة بينه وبين المرحوم فارس بك الزعبي أحد زعماء الحوارنة، والمرحوم عطا الأيوبي وزير الداخلية، والمرحوم الشيخ عبد الجليل الدرة، والمرحوم الشيخ عبد القادر الخطيب، وأحمد بك الخاني مرافق رئيس الدولة، والمرحوم منير بدرخان، ولما اتصل خبر هذه الزيارة بالفقيد المترجم أبرق إلى وزير الداخلية يعلمه بأن الشعب الحوراني في هياج، وأن الوضع الراهن يستوجب تأجيل الزيارة ريثما تهدأ الحالة، ولما علم بإصرار الحكومة على المجيء عززها ببرقية ثانية أبان فيها خطورة الحالة والعدول عن الزيارة مؤقتاً، فالبرقية الأولى وصلت إلى وزير الداخلية والثانية لأمر ما تأخر تسليمها دقائق معدوات كان خلالها رجال الحكومة المشار إليهم قد ركبوا القطار بطريقهم إلى درعا، ولم يدروا ما يضمر لهم الدهر الغادر من مفاجآت رهيبة.
أما الحوارنة في درعا فقد ثاروا على الحكومة وامتطى فرسانهم الخيول وصاروا يطلقون النار إرهاباً، فهرب الموظفون وبقي المترجم يجابه الموقف، ولكن الهياج بلغ منتهاه، وأرجف دعاة السوء بأن رجال الحكومة سيوزعون الأموال على زعماء العشائر، وانتشرت هذه الفكرة بين العوام، فبت الرأي بوجوب قطع الطريق على رجال الحكومة في محطة خربة الغزالة ونهب الأموال قبل أن يستأثر الزعماء بالنصيب الأوفر منها، مع أن مهمة وفد الحكومة هي تهدئة الخواطر وإزالة التوتر دون أن يكون هناك أي مبلغ من المال أو فكرة لتوزيع شيء منه، وشاءت إرادة الله أن تقع الكارثة، فلما وصل القطار الذي يقل رجال الحكومة هاجمه الحوارنة، فكان أول من مزق جسمه رصاص الهائجين هو المرحوم علاء الدين بك الدروبي رئيس مجلس الوزراء وعبد الرحمن باشا اليوسف رئيس مجلس الشورى، ولما رأىتجار محطة خربة الغزالة هذا المصير المؤلم اندفعوا بسائق العاطفة والعصبية وهم من حي الميدان بدمشق واحتاطوا بالمرحوم عطا بك الأيوبي ورفاقه وأخفوهم في بيوتهم، وقد فتش الثائرون على صناديق الذهب في عربات القطار فلم يجدوا إلا الخيبة والندم لما فرط منهم.
ولما أظلم الليل كان عطا بك الأيوبي ورفاقه بطريقهم إلى نهر الشريعة ـ حيفا، فعادوا عن طريق البحر إلى بيروت فدمشق، ثم اتخذت الحكومة الإجراءاتالمقتضية، فجمعت من الحوارنة قيم النهوبات ووزعته على الأشخاص المنكوبين، وعوضت بمبلغ عشرة آلاف ليرة ذهبية لكل من ورثة المرحومين المقتولين، وأعدم في المرج الأخضر بدمشق أربعة من الحوارنة، وهم الذين أدانهم التحقيق ظلماً وعدواناً بدافع من الزعماء، ونجي من القصاص المحرض والمسبب الأول بهذه المذبحة المروعة، وهو أحد زعماء الحوارنة، وقد لقي وجه ربه، لأن مصلحة الإفرنسيين قضت بالاستفادة من زعامته المزيفة بتثبيت أقدامهم في تلك المنطقة، فمشى في ركابهم طيلة حياته دون النظر إلى ما تقتضيه مصلحة الوطن، هذه هي حقيقة الحادث الخطير، سردته بكل تجرد واختصار.
مسؤولية المتصرف: وبالطبع فإن كل ما يقتضي على الحكومة عمله في مثل هذه الأحوال هي إقالة المتصرف، فأبلغ المترجم بتاريخ 6 شباط 1921م قرار عزله بداعي أنه لم يقم باتخاذ التدابير الواجبة للحيلولة دون وقوع ما حدث، وتناست برقياته وهي تشير إلى خطورة الحالة وإرجاء الزيارة لوقت ملائم.
وفي سني 1923م ـ 1924م ـ 1925م مثل حمص في المجلس التمثيلي.
متصرفية الفرات: وبتاريخ 17 تموز 1929م عين متصرفاً لدير الزور، وكانت محافظة الجزيرة منضمة إليها في ذلك الوقت، وبقي فيها حتى أحيل إلى التقاعد بتاريخ 21 آذار 1931م، وما زال أهل الفرات يذكرون عهده بالخير والثناء.
صفاته: لقد استأثرت بمواهب الفقيد الهمم الباذخة، فكان حسن الإدارة في الوظائف التي تقلدها، ولم تبدر عنه أية هفوة تشينه، كان رحمه الله مهيب الطلعة، جليل القدر، جبله الله على الخير والتقى والورع، ينظر إلى حاضره في يومه دون أن يحتاط للمستقبل، صافي السريرة، كثير التواضع، لا يحب الشهرة والظهور، يهوى مجالسة الشعراء والعلماء والفضلاء.
كان رحمه الله حاتمي المشرب، ورث الكرم عن أبيه.
مؤلفاته: أديب هو في وجه الزمان غرة، برع بنظم حسن المعاني في اللغات العربية والتركية والفارسية، وله مؤلفات في العقائد والأخلاق والأدب والتاريخ، وقد ترجم ونشر القدوري في الفقه، وألف وهو في المدينة المنورة تاريخ العترة النبوية، وألف في منفى الأناضول تاريخ العباسيين، علق فيه على المغالطات الموجودة في كتب التاريخ التركية، درس البيان والبديع والمنطق على الشاعر المرحوم (الهلالي الحموي) عندما كان موظفاً في حماة سنة (1925) هجرية، وتأثر بروحه وأسلوبه، فكان شعره ونثره بحراً خضمًّا على بحر زاخر، ومن نظمه قصيدة نقتطف منها بعض قوله:
فتكت بعادل قدها المشهور | ورنت لفاتر لحظها المشهور |
حوراء لما أن أراشت جفنها | كم من قتيل ضاع إثر أسير |
ناديت لما أن شهرت بحبها | يا خير أيامي بها وشهوري |
فنه: كان الفقيد رحمه الله يهوى الفن الموسيقي والأصوات الجميلة، مرهف الحس والشعور، فإذا سمع ما يطربه سالت عبراته دون أن يخرج عن وقاره، تفنن في نظم الموشحات البديعة، وتأثرت ألحانه بالأنغام التركية لطول إقامته في استانبول مهد الفن والطرب، فجاءت آية في بديع نظمها وروعة ألحانها، لازم الفنان العبقري المرحوم القباني خلال مدة إقامته في حمص وارتشف من فنه، وكفاه اعتزازاً ومجداً فنيًّا أن الموشح الخالد «دار من تهواه دار» هو من نظمه وتلحينه، ونغمته (شورك)، ولم يسبقه أي فنان قبله ولا بعده لتلحين مثله على هذه النغمة الفاتنة، وهذه بعض أدواره:
دار من تهواه دار | إن تكن بالحب دار |
عاذلي دعني وشأني | هائماً في كل دار |
أطلعت شمس المحيا | في الدجا شبه الثريا |
فاسقني صافي المحيا | من لمى ذات الخمار |
وهذا موشح من نغمة الحجاز:
حلت ليلة القدر | مذ بانت أخت البدر | خلف ستر |
وحِّد خلاقاً صوَّر | مجلاها الباهي الأنور | والمحيّا |
جل من فيه أظهر | شامات تحكي العنبر | أعطريا |
مه يا عذولي عذراً | في حبي خودا عذرا | مريميّا |
لو زارت يوماً كسرى | أضحى في الهوى قسرا | قيصريّا |
وهذا موشح من نغمة الكردان:
صبا قلبي لليلى ولم تعرف | غرامٌ هدَّ حيلًا ألا تنصف |
فكم شقت مرائر ولم تسعف | أصارتني قتيلًا غدا الموقف |
سلوا منها عن الدم خضاب الكف | ودمعي سال عندم ولا أوكف |
فما حبي بجائر لما استنكف | وحسبي فيه أعدم أما ينكف |
وله موشحات كثيرة منتشرة في الأقطار العربية ومحفوظة من قبل أهل الفن.
وفاته: مرض الفقيد على إثر إصابته بنزلة صدرية حادة لم تمهله أكثر من يومين، وفي يوم الخميس التاسع من شهر كانون الأول 1939م لبى نداء ربه وهو على هيئة تشعر بحسن الختام، وشيعت جنازته بموكب عظيم، ودفن بمقبرة عائلته بجوار الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد رثاه ابن عمه الشاعر المجيد السيد محيي الدين الجندي بقصيدة مؤثرة، منها قوله:
عجيب من الدنيا الوثوق بعهدها | وكأس الردى ما من مذاقته بد |
ومنها:
هو السيد الجندي والعلم الذي | آرانا جحيم الحزن من بعده البعد |
أبا الخير من طابت مآثره له | مآثر لا يقوى على حصرها عد |
* * *