داود قسطنطين الخوري
داود قسطنطين الخوري([1])
حلقة حمص
عبقرية المرحوم الأستاذ داوود قسطنطين الخوري في
الشعر والفن والتأليف
لعل ما دعاني إلى الإعجاب والإجلال بالعبقري الذي يسعدني الحظ أن أتحدث عنه ليزدان هذا الكتاب بتاريخ حياته العطرة وتاريخه المجيد هو أنه حرص في أهدافه الواضحة في ميدان الحياة على أن تكون سامية رفيعة، ولعمري فالإحسان والتضحية وسمو الغاية ونبل النفس، هذه المزايا النادرة تتيح للنوابغ أن يكونوا من أحب الناس ومن أشرفهم منزلة، ولم يدرك السعادة إلا الذي اتخذ لنفسه رأياً في الحياة يقوم على أساس متين من الأخلاق الفاضلة والاستقامة المثلى، فإن كان للبيئة الثقافية والاجتماعية والروحية أثرها البليغ في توجيه ذوي المواهب، فقد كانت الطبيعة سخية حقًّا على هذا النابغة فحبته بكل ما يتمناه الشاعر والمتفنن والممثل والمؤلف من مواهب فكان في جبروته العلمي والفني آية في بلاغة التعبير وصدق العاطفة، تشرق أنوار الثقافة والفضائل من مشكاة هداه وإذا كان هناك من الشعراء والفنانين من طاردهم الدهر في حياتهم ثم خلَّدهم بعد مماتهم، فالقليل النادر منهم من لقي في حياته التقدير والرعاية، أما الفقيد الألمعي المرحوم داوود الخوري فقد كان مكرماً في حياته، خالداً بعد وفاته.
ولقد حق لحمص التي أنجبت الفقيد وهو أحد أقطاب الأدب والفن في أواخر الجيل الماضي وأوائل هذا الجيل أن تعتز بمواهبه التي سطعت في عهد عزَّت فيه الثقافة وافتقرت، فقام نخبة من الأعلام أمثال يوسف شاهين وحبيب سلامة وشاكر سلوم ورزق الله عبود وداود قسطنطين الخوري رحمهم الله، فأدوا للمجتمع العربي خدمات علمية خالدة أشرق نورها وعم خيرها بتوجيه الطيب الذكر صاحب المآثر والمناقب الجليلة مطران حمص المرحوم السيد اثناسيوس عطا الله.
أصله ونشأته: هو المرحوم داوود بن المرحوم قسطنطين الخوري المعروف بقسطون الخورية، بزغ الفقيد في سماء حمص في اليوم الثاني من شهر شباط سنة 1860 ميلادية وعاش في كنف والديه، فنشأ على منهج الصيانة والكمال، أما والدته فهي المرحومة زهراء من عائلة لوقا الحمصية المعروفة، فهو كريم المحتد انحدر من أصلاب كريمة في مجدها ونسبها، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب في المدرسة الوطنية التي هي الكتاتيب في الجيل الماضي، وأخذ عن والده اللغة العربية وآدابها، لما شب أولع بالمطالعة فاقتنى الكتب العلمية التي نهل منها ما كانتتصبو إليه نفسه من العلوم، فكانت المطالعات الشخصية مدرسته الكبرى، وقد نبغ وفاق فكان كوكباً ساطعاً في سماء الأدب والفن والتأليف والتمثيل، ذاع صيته واشتهر أمره في الأقطار العربية، وكان له الفضل والقدح المعلَّى بتثقيف أغلب ناشئة حمص، فكان المربي الناصح والمرشد الصالح، وانتفع بفضله خلق كثير وتخرج على يديه ما لا يحصى من التلاميذ، المقيم بعضهم في حمص والمهاجر، وتقديراً لنبوغه وخدماته الكبيرة لوطنه وللمدارس أهدته الجمعية الإمبراطورية [الأرثوذكسية] الفلسطينية سنة 1981 وسام القديس فلاديمر.
الحالة الاجتماعية والسياسية في عهده: كانت الأحوال الاجتماعية في العهد العثماني كظلام دامس، فالجمود الفكري، والتعصب الديني، والحريات المقيدة ما زال أمرها معروفاً بين الناس، وفي غمرة من هذه الأوضاع المستبدة أدى الفقيد رسالته الثقافية، فكان أستاذاً للرياضيات والفن في المدارس الأرثوذكسية في حمص.
كان بدء عهده بالتدريس سنة 1888 ميلادية، وظل مواصلاً الدأب، محتملاً ألوان النصب في أداء هذه المهمة إلى أن دخلت تركيا الحرب سنة 1914 فانقطع عن التدريس لإقفال المدرسة، وتوقفت جريدة «حمص» عن الصدور، وكان محررها ومديرها المسؤول، ولما وضعت الحرب أوزارها وعادت الجريدة والمدرسة إلى الحياة أبى العودة إليها التماساً للراحة؛ وهو صاحب الفضل الأول بنشر أصول علم مسك الدفاتر في الأوساط التجارية.
كانت للفقيد علاقات معروفة بجمعية الإصلاح العربي التي كان من زعمائها شهداء العرب أمثال عبد الحميد الزهراوي ورفيق سلوم، ونظراً لحرج الموقف ولاسيما بعد إعدام الشهداء ونفي العوائل العربية إلى الأناضول، عاش في تلك الظروف الخطيرة في اضطراب جارف خشية أن يتعرض لنقمة الأتراك الذين كانوا ينظرون إلى رجالات العرب وأدبائهم وشعرائهم نظرتهم إلى مجرمين يستحقون الإعدام، ونجا الفقيد بفضل ما تحلى به من رزانة وبعد نظر وحكمة من خطر محقق، وكم شاهد من الحوادث المؤلمة فأثارت عوامل الحزن والأسى في نفسه وفاض الدمع من عينيه وهو في صمت وسكون، ومرت الأحداث به في ذلك العهد المظلم فهزت كيانه ووطدت إيمانه.
علمه وفنه: كان الفقيد آية باهرة في الذكاء والنباهة، فاستثمر قلمه ومواهبه في سبيل النفع العام وخدمة المجتمع، واكتسب من والده الذي كان يجيد التكلم باللغتين التركية واليونانية، وله إلمام باللغة الفارسية، وأشغل وظائف حكومية في حمص ودمشق فكان خير قدوة في الحرص على النهوض بواجباته المسلكية، واسع الاطلاع في الأمور الشرعية وحجة في القضاء يقصده المحتاجون من جميع الطوائف لاستفتائه بأمورهم، لأن الجميع يعترفون ويجمعون على محبته والثقة بإخلاصه وتجرده، وكان المسلمون خاصة أشدهم تعلقاً به واستعذاباً لمشربه، أما العلوم الرياضية والطبيعية والموسيقية، فكان فيها كالبحر الزخار، عليماً بألحان الفن وأوزانه، يهوى الفنون التركية واليونانية، وقد تأثر بألحانهما فمزجها بمقطوعاته الغنائية والتمثيلية فجاءت في غاية الروعة والانسجام؟
قام المترجم رحمه الله بتدريس الفن الموسيقي في المدارس مستعيناً بصوته الشجي وإلقائه البديع، فقد حباه الله حنجرة فيها النغم الطروب، واللحن الحزين، فالذين يتذوقون الفن هم الذين يكون رثاث صوتهم صدى لخفقات قلوبهم، وكان من أبرز نواحيه الفنية ولعه بفنون التمثيل والتأليف، يسبك الحقائق في قالب الخيال، فيصور الأخلاق والحوادث تصوير فنان بارع، ويرى السعادة صنو الهدوء يلتمسها في ساعات العزلة والتأمل، فتجود قريحته الوقادة بالدرر والنفائس الأدبية والفنية، ومن رواياته التي اشتهرت في الآفاق «جنيفاف، اليتيمة المسكوبية، الصدف المدهشة، عمر بن الخطاب، العجوز، الابن الضال، يهوديف، جابر عثرات الكرام»، وهنالك غيرها من الروايات الصغيرة والهزلية وقد فقد بعضها، ولاقت الروايتان الأولى والثانية نجاحاً قل نظيره، وأعيد تمثيلها مراراً، فرواية جنيفاف وضعت ومثلت في حمص سنة 1890 ميلادية ومثلت مئات المرات في جميع الأقطار العربية من قبل ممثلين هواة ومن قبل فرق أشهر المحترفين لفن التمثيل، ومثلت مرة في سان باولو من قبل تلاميذه (1900) ميلادية، ثم أعيد تمثيلها أربع مرات في سنين مختلفة، وله مع المرحوم الأستاذ يوسف شاهين الحمصي رواية سميراميس، وكانت أناشيد الرواية وألحانها من وضع وتلحين الفقيد رحمه الله، كما وأن أناشيد رواية كورش الوحيدة للمرحوم يوسف شاهين كانت من ألحانه البديعة، وكانت رواياته غنائية من نوع الأوبريت.
علاقاته الفنية: لا مندوحة لي عن ذكر بعض الوقائع التي لها صلتها وأهميتها بتاريخ حياته الفني، فقد أكد الذين كانوا على اتصال وثيق بالفقيد أنه كان فناناً غاوياً، وهو من أنبغ تلامذة أبي خليل القباني الفنان المشهور، ومن زملائه في الفرق التمثيلية عطا الأيوبي رئيس الحكومة السورية ونيقولا شاهين والد وزير المالية السابق جورج شاهين رحمهما الله والسيد عزت الأستاذ وغيرهم من كرام الأسر الدمشقية العريقة.
فقد أدرك القباني وعي المترجم الفني الجامح لما تعرف عليه في عهد وظيفته بدمشق بواسطة الوالي مدحت باشا فكان الشاعر والمؤلف والملحن في فرقة القباني التمثيلية فقربه واصطفاه ومثلت رواياته التي أشرت إليها قبل فترة في مسرحه التمثيلي بدمشق ونالت استحسان الجمهور وإعجابهم بمغزاها ومعناها وألحانها، ونهل الفقيد من فنون القباني العبقري ولازمه حتى وقعت نكبته المشهورة بنهب مسرحه ونزوحه عن البلاد السورية إلى مصر، كما وأن روايات المترجم قد مثلت في مصر واشتهرت كالشمس التي تضيء الأكوان والبصائر.
أوصافه: كانت أوضاعه الخاصة مع الأهلين وعلاقاته مع الشعراء والفنانين علاقات حب وتقدير متبادل، وكان كل من تعرف به يكبر صفاته وأخلاقه الفاضلة ومناقبه الحميدة، كان رحمه الله هادئ النفس طويل الأناة عميق الحس، سريع البديهة والإلهام، صفيًّا وفيًّا مخلصاً للجميع محبًّا للسلام، يسعى جهده لإزالة بذور النفور والخصام، يضحي لذلك بالكثير من وقته وراحته، بعيد النظر في أسرار الحياة وهو مع سكونه عالي الهمة نبيل القصد خالي الغرض، لا يعرف في أداء الواجب ليناً أو هوادة، كان ينظر إلى العالم بعين الروح لا بعين المادة، لم يتقاض درهماً على مؤلفاته وكفى روحه الطاهرة اطمئناناً أنه كان يخدم الوطن وأعمال البر ودور الثقافة لوجه الله تعالى، لا يرد طلباً إذا استطاع إلى تحقيقه سبيلاً، يكره الشهرة وحب الظهور، كان تواضعه ووداعته على قدر نصيبه من العظمة، وهما سر عظمة هذا النابغة في أخلاقه الخاصة، وترى العظماء الذين تركوا أبلغ الأثر في حياة الناس كانوا خلواً من الادعاء والزهو.
كان بيته مرتع الأدباء والفضلاء والشعراء والفنانين من حمصيين وغيرهم يتمتعون بمعشره الأنيس وطرائف رواياته ونكاته وبسمته السحرية التي لا تفارقشفتيه، يقص على جلسائه من وقائع الماضي وعبر الأيام فيصغون إلى أفانين أحاديثه بالجوارح والأفئدة، يخاطب الناس بسهولة تنفذ إلى القلوب وتعمل فيها عمل السحر. تربطه مع أسر حمص الكبيرة علاقات ود وإخاء، وكانت صلاته الموروثة مع أسرة آل الجندي وثيقة العرى بشكل خاص، وكان أخاً حميماً للمرحوم أبي الخير الجندي الشاعر والمتفنن المشهور، وإن ما ذكره الفقيد في منظوماته الشعرية وفي البيتين القديمين اللذين عارضهما بمناسبة تاريخية واقعية ومطلعهما (مررت على المروءة وهي تبكي) صورة واضحة تعبر عن الحقائق فقال عطر الله ثراه:
مررت على المروءة وهي تزهو | فقلت لمَ ازدهاؤك يا فتاة |
فقالت كيف لا أزهو وأهلي | بنو الجندي نصيري والحياة |
أما إسداؤه الخير والنصح للناس وانتصاره للضعيف من القوي فتلك مزايا جلبت عليها سريرته النبيلة، فقال يمدح الوجيه مصطفى بن سليمان الجندي في حادثة انتصر فيها لفقير ضعيف ضد خصم غني عات في قصيدة مطلعها:
إن تطلب العدل المبين المصطفى | فأسال تجده مجسماً في مصطفى |
فقد اصطفاه الله من أبنائه | نبراس عدل نوره لا يُنطفى |
شعره: كان الفقيد شاعراً فصيحاً انقادت لبلاغته القوافي فكانت طوع يراعه، صادق العاطفة ينظم ويؤلف عند ما يختلج قلبه لحادث أو لمشهد، منظوماته وليدة الشعور الحي لا نسيج الصنعة، وهو مع تعلقه باللغة العربية الفصحى حتى في أحاديثه الخاصة تراه في شعره يراعي البساطة والسلاسة والانسجام في المعاني والألفاظ. لقد تسامى الفقيد بشعوره الفياض واستثمره في الغايات المثلى لخدمة المجتمع والوطن وتعزيز اللغة العربية وبث روح الوطنية وإذكاء شعلتها في قلوب الناشئة بأناشيده الحماسية والأخلاقية فقد كانت نواة صالحة وأسلوباً لطيفاً مؤثراً لإنهاض همم أبناء العروبة بعد هجوعهم أجيالاً مدة الحكم التركي حينما كانت البلاد العربية ترسف في قيود التعسف والاستعمار، وهذا نموذج من أقواله اللاهبة:
بني العرب الكرام أولي الحميه | وأرباب الوفا والأريحيه |
ومنها:
لأنتم في الورى خير الأكارم | وأرباب المحامد والمكارم |
فمنكم معن زائدة وحاتم | ومنكم كل ذي نفس أبيه |
ومنها:
ألا يا معشر العرب الأكابر | ويا أهل المآثر والمفاخر |
بكم لغة حوت أسمى الجواهر | بدر اللفظ والمعنى غنيه |
فإن فضلتم لغة الأجانب | عليها تزدرون بكل واجب |
فذي أم المعارف والمطالب | فأعلوا مجد ذي الأم الوفيه |
إلى أن قال:
فإن لم أحترم نفسي وجنسي | أضع قوميتي وجلال غرسي |
فيا لغة الجدود فدتك نفسي | فدومي يا حياة العرب حيه |
وكان بارعاً في نظم التهاني والمراثي بتواريخها الصعبة المنال، فقد رثى المرحوم رزق الله بن وهبي فضول الحمصي فقال:
يا قبر هل أنت روض أو سماء فلك | حتى حويت كيان الغصن والقمر |
حويت غصن شباب طاب منبته | وبدر علم حواه الخسف في الصغر |
يا قبر رحب برزق الله واسمُ به | فإنه ملك في صورة البشر |
قضى وأبقى بني فضول في حزن | وقد أفاضوا عليه الدمع كالمطر |
قضى وكل ينادي إذ يؤرخه
| فلتبق ذكراك بالأحبا كالعطر |
سنة 1922 ميلادية
ودعي رحمه الله إلى حفلة إكليل الوجيه الحمصي المعروف السيد بهيج لوقا مهنئاً بقصيدة مطلعها:
يا حبذا عرس زها وبه | كل غدا يهنى وينبسط |
ثم ختم قصيدته مؤرخاً فقال:
أدعو بها دامت مؤرخة | ليلى بحب بهيج تغتبط |
نزوحه مع عائلته إلى البرزايل: وقبل مغادرته الوطن إلى البرازيل أقيم له عدة حفلات وداعية كانت أجملها حفلة جمعية (نور العفاف) صاحبة المستشفى الخيري في حمص وقد أهدته عمدتها وساماً ذهبيًّا تقديراً لخدماته الجلَّى لهذه الجمعيةالراقية. لقد شاءت الأقدار أن يلتحق بأولاده المغتربين في البرازيل وأن تحرم البلاد السورية من نبوغه وعبقريته، فسافر عام 1926 ميلادية بطلب من ولديه الكبيرين المأسوف عليه المرحوم توفيق والسيد البيرتو، فاحتفلت الجاليات السورية بمقدمه وابتهجت وانهالت عليه الطلبات من المؤسسات الخيرية والأدبية في سان باولو لإقامة الحفلات والروايات التمثيلية فأخذ يلبي طلب الجميع، وترأس النادي الحمصي في سان باولو سنة 1927م فازدهر وتعززت وارداته المالية بما أقامه له من حفلات، ومثل رواية (اليتيمة المسكوبية) ولاقى صعوبات في انتقاء الممثلات وتلقينهن الأدوار والألحان، وذلك لندرة الفتيات اللواتي يجدن اللفظ العربي، ومـع ذلك فقـد لاقت الروايـة المذكورة وغيـرها نجاحـاً باهراً وقرظتها الصحافة العربية وكثيرون من الأدباء منهم شاعر المهجر العربي الكبير الأستاذ رشيد الخوري الملقب بالقروي حيث قال:
يا جيرة العاصي أما من بائح | عنكم بسر جمال ذاك الوادي |
هاجت بلابله بلابلنا فكم | عين تسح وكم فؤاد صادي |
الحسن والإحسان فيه تساوقا | كتساوي الأوتار في الأعواد |
نهر بأكباد جرى وبكوثر | فروى صدى الأرواح والأجساد |
من كل نابغة كأن دماغه | متفجر عن كوكب وقاد |
كالشاعر الأستاذ داود الذي | راجت به الآداب بعد كساد |
شعر وتمثيل وموسيقى معاً | والله ما ذا بالدماغ العادي |
شمس وقد لوت السنون عمودها | نحو الأصيل تريك فجر جهاد |
روح تعاطاها الجدود سلافة | واليوم فهي مدامة الأحفاد |
شوقه وحنينه لوطنه: ومع أن الفقيد رحمه الله كان بين أولاده وأصحابه والمعجبين بعبقريته في وطنه الثاني البرازيل فقد غلبه الوجد والشوق والحنين إلى الوطـن العزيـز وتلمس ذلك في منظوماتـه التـي وصف بها بلده العزيز فقال له رحمه الله:
ما لي فتنت صبابة بهواك | وزلال مائك واعتلال هواك |
عاصيك في فردوس روضك طائع | منه يفيض اليمن في يمناك |
صبحاً أراك وكل شيء باسم | في حين طرف غمام أفقك باك |
هذا دمي هو من دماك منحته | فمن المروءة أن يكون فداك |
أنا إن أكن عنك ابتعدت فإن من | قلبي وبين جوانحي مثواك |
إني أحن إلى رباك تشوقاً | وإلى المدى يا حمص لا أنساك |
لك في جناني يا جناني عطفة | أحيي بها طول المدى ذكراك |
وهذه بعض الأبيات تجلى فيها مدى غرامه وأشواقه بوطنه فقال آنسه الله في لحده الطاهر:
لي لذة في ذكر مجد ربوعي | لكنه ذكر يسيل دموعي |
ذكر به أرجو لقلبي راحة | فيثير نار الوجد بين ضلوعي |
إن أنس سوريا فما أنا بابنها الـ | وافي وما حبي لها بطبيعي |
فأنا الولوع بحبها من صبوتي | والبعد عنها لا يزيل ولوعي |
يا أيها الدهر الذي أقصيتني | أتجود لي يوماً بحسن رجوعي |
ومن هاتين القصيدتين البليغتين وغيرهما مما جادت به قريحته في المهجر يعبق شذى حبه النقي وإخلاصه لسوريته العزيزة وحمصه الحبيبة، وقد أحدثت هذه القصائد والأناشيد أثراً بليغاً في أوساط الجالية والوطن وضربت على وتر حساس في القلوب فأيقظت روح الشوق إلى الوطن الأم، وأذكت أناشيده الرائعة وجداً لاهباً وحنيناً والهاً ودفعت المهاجرين بلباقة وكياسة إلى البذل للوطن المفدى، ولم تزل الحفلات تزدان بسحر أناشيده وألحانه فتمتزج الذكريات بدموع الحنين وهذا نموذج منها:
حبوا الأوطان السورية | بأرق عواطف حبية |
تلك الجنات العربية | جنات الأنس القدسية |
إلى أن قال:
حييت أيا أرض الشام | يا أفق ضيا المجد السامي |
ورفعت منار الأعلام | هي راية دولة سوريا |
وفاته: وفي اليوم السادس عشر من شهر شباط سنة 1939م هوى نجم ارتقى هام السها ووطأ هامة الأدب والفن بمواهبه وفنونه، فأضاءت شهب روحه الثريا وألحد الثرى مع أسرار فنونه ألمع عنصر أنجبته حمص بمآثره ومناقبه الحميدة، فأقامت له الجاليات العربية في سان باولو حفلات تأبينية كبرى وأروعها حفلة الجالية الحمصية في سان باولو، إذ اشتركت فيها جميع مؤسسات النزالة على اختلاف المذاهب والأقاليم وأكابر رجال العلم والأدب والفن. ثم جاءت حفلة الجالية في نيوريورك فأفاض الشعراء والكتاب برثائه، وفي مقدمتهم شعراء حمص الثلاثة نسيب عريضة وندرة حداد وبدري فركوح وهم من تلامذة الفقيد، فقد نعوه وبكوه وأبنوه بقصائدهم الخالدة، إلا أنهم تبعوه سريعاً إلى الأخدار السماوية فالتقت أرواحهم الطاهرة في عالم الأرواح، وتلقت حمص نعي ولدها البار النابغة بوجوم وحزن وأسف، فناحت على فضائله كنواح الثكلى، وتمنت حمص لو ضم ثراها الندي رفات من تباهت بنبوغه واعتزت بعبقريته وبكاها بلوعة اشتياقه وحنانه.
وقد كرمت حمص ابنها البار وخلدته تقديراً لمواهبه بتسمية أحد شوارعها الرئيسية الذي يتصل بشارع الإمام محمد عبده وشارع أمية.
ليت لي أيها النابغة بيانك البليغ لأفي حديثك حقه من الوصف، وليت لي يراعك لأروي تقدير الناس وإعجابهم بآثارك.
قبر الفقيد
إليك (داوود) يا من حل في جدث | ناء وهيلكه أنى سلكت معي |
لعل قارئ (أعلامي) يفيد به | شيئاً وإلا فقد أسرفت في طمعي |
رفيق فاخوري
لقد توفيت قرينة الفقيد (كورياكي بنت الخوري إبراهيم السمان الحمصية) في 26 أيلول 1937م وتوفي بعدها بعلها سنة 1939م ثم توفي ولدهما المرحوم توفيق سنة 1944م ولما جرى نقل الرفات إلى القبر الجديد وجدت جثتا الأم وولدها بحالة الفناء وجثة الفقيد بهيئتها الكاملة لم تمسها يد البلى والفناء وفي ذلك سر وعبرة.
أما القبر فهو من الصوان الرخامي الأسود اللماع (غرانيت) علوه أربعة أمتار على قاعدة جميلة بقطر مترين وعشرين سانتيماً وقد كتب بأسفله أجمل بيتين من الشعر من نظم الفقيد فيهما خلاصة الفلسفة في الحياة:
تفنى الجسوم ورسمها | يفنى على مرِّ الزمن |
فابرر فليس يدوم إلـ | ـلا الله والذكر الحسن |
والصور المنحوتة تمثل الإله ثم رجل يفكر ورب عائلة وهو يقرأ كمدرس يقرأ على ولد كتاباً وفوقه آلة موسيقية وامرأة رفعت يدها وهي تمثل الشعر وعلم التجارة وهو رمز انتصار أولاده النجباء في ميدان التجارة.
زيارة المؤلف لضريحه الفخم: وخلال رحلة المؤلف إلى البرازيل بشهر كانون الثاني سنة 1954م زار قبر الفقيد الكريم، وقف على قبره ساكناً ودمعه ينطق، ينظر إلى جدث طالما وقفت الثريا محاذية ثراه.
أسرة الفقيد: لقد أعقب الفقيد ذرية صالحة رضعت ثدي الكمال والأدب في مهدها، وهم:
ابنته الكبرى السيدة مفيدة: ولدت بحمص بتاريخ 5 تموز سنة 1893م، تلقت دروسها في المدارس الأرثوذكسية الروسية وتخرجت بنجاح فأكملت تحصيلها في دار المعلمات الأرثوذكسية في بيت جالا بالقدس ودامت الدراسة ست سنوات، وفي سنة 1912م أنهت دروسها ونالت الجائزة الأولى مدالية ذهبية ونظراً لتفوقها قامت بالتدريس مدة سنتين وأتقنت اللغة الروسية وعادت إلى حمص في سنة 1914م فعينت مديرة لمدرسة الإناث الأرثوذكسية وقامت بجميع التبرعات لمدرسة حمص الأرثوذكسية وبقيت مديرة حتى سنة 1920م ثم تأهلت بالسيد كامل مطر، وفي أول سنة 1929م هاجرت إلى البرازيل وأنجبت أربعة أولاد نالوا الشهادات العليا.
خدماتها الاجتماعية: تعتبر صاحبة هذه الترجمة من أرقى السيدات ثقافة فقد درست اللغات الإنكليزية والفرنسية والروسية وهي ضليعة في اللغة العربية، وكانت عنصراً عاملاً مدة ست سنوات لجمعية (نور العفاف) التي كانت أولى الجمعيات النسائية الخيرية في حمص.
أما في البرازيل، فقد خدمت مدة عشرين سنة جمعية السيدات الحمصيات الخيرية التي تحولت في سنة 1936م إلى جمعية السيدات الحمصيات للمصح السوري، وكانت من أكبر العاملات على تأسيس المصح ومن أعضاء الإدارة، وإليها يعزى الفضل بسرعة انتشار الفكرة ونجاحها بما كانت تسطره من مقالات ومنشورات في الصحف والمجلات العربية وقتئذ تحث فيها الجالية العربية على البذل ومناصرة هذا المشروع الخيري الجليل.
ولده توفيق: ولد في 30 كانون الأول سنة 1896م في حمص وأكمل دراسته في المدارس الأرثوذكسية وفي شهر حزيران سنة 1912م هاجر إلى البرازيل وتعرض لشقاء الحياة وهو غريب لا أقرباء له واستخدم في جريدة الأفكار لصاحبها الدكتور سعيد أبو جمرة، ثم اشتغل في التجارة ولما حضر شقيقه السيد البيرتو سنة 1924م اشتغلا سوية وفتح الله عليهما باب الرزق والثراء بفضل الكفاح والعصامية والأمانة.
أوضاعه الاجتماعية: كان رئيساً للنادي الحمصي في سني 1938م و1940م و1941م وهو أحد أركان الجالية وله الفضل بتأسيسه، لقب بأبي داود، كان شبيه والده في السجايا المثالية.
وفاته: وفي يوم الخميس في التاسع والعشرين من شهر آذار سنة 1944م قضى نحبه على إثر نوبة قلبية، مات أعزباً وهو في عنفوان كهولته. عزيز علينا يا توفيق أن تلحد في الثرى وقد كنت في الجمع كالثريا، عزيز علينا فقدك وقد كنت في الجالية كالمحيا.
كنت السواد لناظري | فبكى عليك الناظر |
من شاء بعدك فليمت | فعليك كنت أُحاذر |
أما والله لئن غاب رسمك فلقد علا ذكرك واسمك، أما والله لو يقبل في رزئك الفدى لفدتك أنفس المحبين لك من الردى، وقد أفاض الشعراء برثائه، وتفجرت دمعة من قلب الشاعر الفحل السيد نصر سمعان فاستحالت إلى ورود متضوعة نثرتها يد الإلهام شعراً فوق ضريح الفقيد العزيز لا فض فوه.
أسلت دم القلوب من المآقي | فأين الرفق يا خير الرفاق |
أتشرع بالرحيل ولا تبالي | بدمع سائلٍ ودمٍ مراق |
لقد لفظ القضاء عليك حكماً | يهز مناكب السبع الطباق |
وروَّعت الرفاق فلا حديث | لهم غير الحديث عن الفراق |
وكيف يرفُّ بالآمال قلب | وأنت من المنية في وثاق |
ذويتَ فكلُّ ما في الروض ذاوٍ | وأعذب ما به مرُّ المذاق |
صداح الطير في الأدواح نوحٌ | وموسيقاه حشرجة السواقي |
(أبا داود) قد حمَّلتَ قلبي | أسًى يبقى إلى يوم التلاقي |
بكيت وكل من فارقت باك | يلاقي من براحك ما أُلاقي |
فأنت كسائر الأحياء ماضٍ | وذكرك مثل ذكر أبيك باق |
ولده السيد ألبيرتو أو عبد المسيح: ولد بحمص في أول شهر كانون الثاني سنة 1900م، أكمل دراسته في الكلية الأرثوذكسية الداخلية ودرس علم مسك الدفاتر عن المرحوم والده، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى دخل مترجماً في الجيش الإنكليزي لإتقانه اللغة الإنكليزية وإلمامه باللغتين الفرنسية والروسية ثم عين رئيساً للمخابرات الإنكليزية وذهب مع الجيش إلى مصر وبقي من عام 1918م إلى 1921م في خدمته.
وفي سنة 1924م حضر إلى البرازيل واشترك مع أخيه المرحوم توفيق بالأعمال التجارية فكان سعيداً موفقاً.
وفي 8 حزيران سنة 1939م اقترن بالسيدة الفاضلة هيلانة بنت منصور عبود من بيروت ومولودة في سان باولو وأنجبت ايدي، وليليان، وكلاوديو وماريا وايدينا.
ساهم بجهود مشكورة وأدى للجمعيات الخيرية والأندية الأدبية خدمات جلَّى فأنعمت عليه الحكومة السورية بوسام الاستحقاق السوري علقه على صدره الوزير عمر أبو ريشة تقديراً لوطنيته وأعماله الخيرية وأهمها أمانة صندوق لجنة إعانة منكوبي فلسطين وهو أحد المتمولين السوريين الذين اشتركوا بشراء وإهداء البناية الفخمة في العاصمة البرازيلية لتكون مقرًّا للمفوضية السورية.
لا أود الإلماع عن شمائل صاحب الترجمة خشية الظن بالغلوِّ وهو صاحب الفضل الأول بالاكتتاب لإخراج مؤلف أعلام الأدب والفن إلى حيز الوجود، وقد لقي المؤلف خلال مدة إقامته في سان باولو من كريم رعايته ونبله ما يعجز القلم عن وصفه، لا عيب في سجاياه سوى الكمال وكل ذي نعمة محسود.
ابنته أديل: ولدت في حمض بتاريخ 5 آذار سنة 1907م وأكملت دراستها في الكلية الوطنية الأرثوذكسية وهي تجيد التكلم باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وقد درست على شقيقتها الكبرى مفيدة واستفادت من بيئة والدها الثقافية ورحلت إلى البرازيل مع والديها وإخوتها، اشتهرت المترجمة بالنجابة والذكاء وقوة الحافظة والخطابة الارتجالية ولها مواقف مشهودة لا يستعظم ذلك منها وقد تمرست ونهلت من مورد المرحوم والداها الصافي وورثت عبقريته فكانت درة المجتمع أينما حلت.
كانت عضوة في جمعية الأوانس السوريات وساهمت بجمع الإعانات وصرفها على العوائل المستورة الفقيرة.
قامت بجمع الأدوية وإرسال ثلاثين صندوقاً إلى سوريا لتوزيعها على منكوبي فلسطين فأنعمت عليها الحكومة السورية بوسام الاستحقاق السوري علقه على صدرها الوزير عمر أبو ريشة.
كانت وما زالت في الأوساط الراقية خير قدوة في أعمالها الوطنية سيما في ميدان البر والإحسان وهي ثرية عزباء وأين للشمس كفؤها...
عفيفة: ولدت في حمص 1910م وتعلمت في المدرسة الوطنية الأرثوذكسية وأكملت دراستها في مدرسة سان باولو اقترنت بتاريخ 25 كانون الأول في سنة 1943م من السيد جميل بن المرحوم الدكتور كامل لوقا الوجيه الحمصي المعروف، وهي ذات صوت رخيم ولها ميل وذوق في فن التصوير ورسمت لوحات على غاية من الروعة والفتنة شاهدها المؤلف يوم تشرف بزيارة بيتها.
عفيف: وهو أصغر أنجال الفقيد ولد بحمص سنة 1914م، درس في الكلية الأرثوذكسية حتى الصف الثاني وفي 28 تشرين الثاني 1925م أبحر إلى البرازيل مع والديه، وكان يشتغل في التجارة نهاراً ويتابع دراسته ليلاً، ظهر ميله لفن الرسم منذ صغره في حمص وعمل لوحات فنية جميلة ولو انصرف إلى الفن لبلغ ذروة الإجادة والشهرة، إلا أنه أثرى عن طريق التجارة بفضل نشاطه وعصاميته وهو يشتغل شريكاً مع أخيه السيد البيرتو في محل واحد. اقترن بالفاضلة السيدة (لي يونور) بنت الوجيه الكبير اسطفان شحفي وهي حفيدة المحسان الخالد المرحوم أسعد العبد الله الحمصي وأنجب ولدين هما (سيلو وسيليا).
يهوى الرياضة وهو أحد أركان النادي السوري الرياضي وقد اتصف بأنبل المزايا التي يتمتع بها الرجل الفاضل.
واعترافاً بفضل الأبوة فقد أشاد أبناؤه بناية جميلة في أعظم شارع في مدينة سان باولو وسموها باسمه تخليداً لذكراه.
هذه لمحة خاطفة عن حياة نابغة عصره المرحوم داود الخوري الحمصي رحمه الله بقدر ما أحسن إلى المجتمع وحفظ أنجاله الأكرمين ووقاهم شر الحاسدين.
p p p