راغب العثماني اللاذقاني
راغب العثماني اللاذقاني
العالم والأديب الشاعر الشيخ راغب العثماني اللاذقي([1])
تنعكس على طلعة هذا الموهوب مسحة من حزن دفين، هي مأساة العالم والأديب الشاعر الطموح الذي عصفت بقلبه متاعب الحياة شأن الكثيرين من أترابه، فتغلب عليها بالصبر والحلم وسعة الصدر والتوكل على الله، هو إنسان حسن العشرة والشيم مجبول على الرقة والنبل، إذا حل بناد تهلل البشر والسرور بأنسه تهرع إليه الأمراء ويخطب ودَّه الحكام والكبراء لسماع المستظرف من آيات أحاديثه العذبة ونكاته المهذبة المحببة، فعمَّت في قلوب الناس محبته، هو الأديب اللوذعي العليم بوقائع العرب في الجاهلية والإسلام. هو ذلك المتواضع برزانة واحتشام الذي تستشف في وجهه الطلق طهارة النفس أصفى من الندى وفي روحه أنفة تدل على كبريائه في كرامته.
هو العالم الذي توقَّد في العلوم ذهنه، له ذاكرة قوية في ذهن حساس يكشف الغوامض فأوتي الحكمة في مواهبه وفصل الخطاب في حججه الدافعة، إذا أحرج تخلص بدهائه وبراعة أسلوبه، هو المحدث الذي يدهش السامعين بطلاوة صوته وانسيابه الهادئ.
ذلك هو الأستاذ الشيخ راغب بن المرحوم الشيخ محمد العثماني نسبته إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
أصله ونشأته: ولد المترجم في اللاذقية سنة 1889م وتلق دراسته في المدرسة العمرية في اللاذقية، ثم التحق بالأزهر الشريف فاستمر في الدراسة أربع سنين وفي دار الدعوة والإرشاد لمؤسسها الإمام العلامة الشيخ رشيد رضا، وتلقى الفقه الشافعي على الشيخ محمد صالح الصوفي في اللاذقية وحمل الشهادة التي تمكنه من العمل في القضاء الشرعي وقد ألف رسالة سماها باب الاجتهاد ونشر كتاباً اسمه (الإسلام دين ودنيا) وله مؤلفات مخطوطة في الفلسفة والأدب والشعراء.
خدماته: عين قاضياً شرعيًّا وحاكماً مدنيًّا في قضاء الحفة وحاكماً منفرداً وقاضياً في قضاء الحمراء في العهد الفيصلي، وبعد الاحتلال الإفرنسي التحق بشرق الأردن فعين قاضياً وحاكماً للصلح في قضاء الكورة ثم نقل إلى قضاء بني كنانة ومنها عضواً لمحكمة بداية إربد.
في الحقل الصحافي: ولما رأى حياة الوظيفة ذات قيود لا تطاق ترك الخدمة وعاد إلى دمشق وامتهن الصحافة فأصدر جرائد (أبو العلاء والاستقلال والسياسة) ومجلة أدبية سماها النهضة السورية، ثم عهد إليه في سنة 1951م بمراقبة شؤون التعليم في مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين العرب للاستفادة من مواهبه العلمية.
رحلته إلى الحجاز: ودعاه المرحوم الملك علي بن الحسين الهاشمي إلى الحجاز سنة 1922م وبقي لديه إلى قبيل تسليم الحجاز إلى السعوديين فكان أمين سره مدة أربعة أشهر، ثم عاد إلى دمشق لمزاولة أعماله الصحافية وبعدها سافر إلى بغداد بدعوة من المرحوم الملك فيصل الأول وأقام مدة أربعين يوماً في ضيافته واجتمع هناك بالملك علي.
شعره: هو شاعر اعتمد في نظم قوافيه الرنانة التي يختارها على الصدق والقوة في التعبير خصب الخيال، ملهم القريحة ومن شعره البليغ القصيدة التي نظمها بمناسبة عيد اليوبيل الذهبي لجلالة الملك السعودي نقتطف منها بعض أبياتها:
طلعت فأبصار الرعية خشَّع | وأشرقت مثل النجم في الأفق يلمع |
وأقبلت تبني المجد في كل موضع | فلم يخل من آثار مجدك موضع |
ومنها:
ولم أك أدري والحوادث جمة | (رياضك) أم شم المعاقل أمنع |
ولم أك أدري حين ترسل نظرة | ألحظك أم حد المعسل أقطع |
ولم أك أدري حين يطريك (راغب) | أذكرك أم عرف الأزاهر أضوع |
ولم أك أدري حين يأتيك سائل | أكفك أم سيل المجرة أسرع |
ولم أك أدري حين يرجع مذنب | أرحب الفضا أم باب عفوك أوسع |
ويتجلى شوقه وحنانه إلى اللاذقية وطنه الأول في قصائده المشهورة منها قوله:
أقسمت بالله والإيمان والكتب | وبالنبي إليه ينتهي نسبي |
لئن رددت إلى الأصلاب ثانية | لما رضيت أباً في الكون غير أبي |
وكيف تختار نفسي غيره بدلا | وقد كساني ثياب العلم والأدب |
وإن سألت رعاك الله عن وطني | فاللاذقية عندي منتهى أربي |
ويفي شاعرنا من الحفاوة والعطف في دمشق ما جعله وفيًّا بمدحها والثناء على أهلها ومن أقواله فيها:
الشام أكرم بلدان حللت بها | وأهلها منهم الآداب تكتسب |
كم حذرتني منهم قبل عشرتهم | ظلماً وشاة على الأمجاد قد كذبوا |
لكنني إذ خبرت القوم عن كثب | رفت رأسي بهم حقًّا ولا عجب |
رعوا وداداً عرفنا كيف نحفظه | لهم وإن مرت الأيام والحقب |
وله جولات رائعة في نظم الغزل وديوانه (رباعيات العثماني) يشتمل على كثير من هذا النوع فاستمع إلى قوله:
علقت بها طفلاً فشب غرامها | شبابي ولم يشرك بها أحداً قلبي |
وكنت فتى يستعبد الحسن قلبه | وفي الحسن ما يغري وفي الدمع ما يصبي |
وكانت سويعات اللقاء لذيذة | بواكر جني الشهد نامية الخصب |
فأسلمتها قلبي ولم أدر أنها | تحارب بي من فر من ساحة الحرب |
ومن قصائده الغزلية الرائعة قصيدة «أنا وهند» هذه القصيدة التي نالت الجائزة الثانية في المسابقة الشعرية التي دعا إليها نادي الفنون الشرقية في بيت المقدس ولحنت بعض أبياتها وهي:
وقفت بباب الخدر ولهان باكياً | أناشد هنداً أن تمد الأياديا |
وقفت ولي من جانب الخدر ساتر | يواري صباباتي ويحجب ما بيا |
وناديتها همساً فألفيت قلبها | سحيقاً بأناتي فلبت ندائيا |
وجاءت يرف النور فوق جبينها | رفيف الهوى في مهجتي وجنايا |
مهفهفة ترتاع من نفس الضحى | إذا ما الربيع الغض أجراه زاهيا |
لها مقلة حوراء بين جفونها | من السحر ألحاظ رشقن فؤاديا |
وثغر برود رقرق الحسن ماءه | فصفق حتى كاد ينهل جاريا |
له ريقة علَّت بما مجَّ عاصر | من الدن كأساً أعذب الطعم صافياً |
سلافة عنقود من الكرم يانع | نمته رياض الشام للقطف دانيا |
إذا الشيخ وافاها وقد آض عوده | من الوهن قوساً راعش الخطو فانيا |
وجادت عليه من لماها بقطرة | رأيت اللمى زفت له العمر ثانيا |
فعجنا مزار الروض نشكوه بثنا | ونعجم فيه الهاتفات الشواويا |
وتراه فـي كثير مـن أشـعاره يندب سـوء حظه ويشكو من إخفاقه في نيل ما يصبو إليه فاستمع إليه يقول:
خلني في الشقاء أندب نفسي | لا تلمني فالعذل ألهب حسي |
بين يومي وليس يومي إلا | صفحات سوداء من سفر أمس |
في الأماني العذاب بالأمس كانت | باديات يبهرنني مثل شمس |
كان قطف أوشكت أن أجتنيه | رمت هذا الجنى فخيب حدسي |
إلى أن يقول:
لهف نفسي لقد أضعت حياتي | في هوان من الزمان وتعس |
لازمتني شقاوتي في شبابي | ليت شعري إن مت، أشقى برمسي |
رب إن الشقاء مر مذاقاً | رب فاعف العباد من مثل كأسي |
فرض الإقامة الجبرية عليه: لقد استنهض عزيمة الشعب بقلمه ولسانه ضد المستعمرين الفرنسيين فاعتقل وفرضت عليه الإقامة الجبرية في بيروت مدة طويلة ويتجلى في شعره الفلسفي مضاء عزيمته وشدة صبره وعزة نفسه فقال:
لئن ضقت من همي وضاق بي الهم | فما وهنت نفسي ولا انثلم العزم |
تجلببت جلباباً من الصبر ضافياً | وثيق العرى لم يخترق نسجه سهم |
وأصبحت من كنز القناعة مثريا | فما سرني مال ولا ساءني عدم |
ومنها:
أقمت على كره بأرض كأنني | كسير جناح لا يطير ولا يسمو |
ولي همة فوق السماء محلها | هي النجم، لا بل دون منزلها النجم |
وكتب إلى بعض أصدقائه من رجال الأدب والفن في دمشق يناشدهم أن لا يبكوه، إذا هو قضى في منفاه فيقول:
إذا مت لا تبكوا علي فإنني | ولدت كئيباً في الحياة حزينا |
ولا تعزفوا اللحن الشجي تأسيا | بمن ملأ الدنيا أسًى وأنينا |
ولا تدفنوني في رمال وبلقع | فقد كنت بالعيش الجديب رهينا |
ولا تكتبوا في حفرتي غير أنني | فتى جن في دنيا الأديب جنونا |
وله قطع شعرية يصح أن يطلق عليها شعر العواطف ومنها قوله:
رأيت الحنان الحق في الأم وحدها | وغير حنان الأم ضرب من الوهم |
هي الأم سر لست تعرف كنهه | وإن خلقها في صورة الدم واللحم |
يقولون فانظر رسمها بعد موتها | فقلت لهم في الرمس أمي لا الرسم |
فإن فاتني ذاك الحنان التمسته | على حسرة من ذلك الرمس باللثم |
أما قصائده في الحماسة والفخر فمن النوع الجيد سيما قصيدته التي نالت الجائزة الأولى في المسابقة التي دعا إليها جلالة الملك عبد الله ملك الأردن عام 1936م والتي تقدم إليها ثمانية من الشعراء في مختلف البلاد العربية، وقد استهلها بقوله:
بسيفي وإلا لا تباد الكتائب | وفي وإلا لا ترد النوائب |
ولما رآني الموت طأطأ رأسه | وذل وخافت من حسامي المصاعب |
ومنها فخره بوطنه اللاذقية ونسبته إلى جده عثمان بن عفان والإشارة إلى اسمه بصورة هي في غاية الرشاقة والإبداع منها قوله:
وما خار عزمي في مراد أردته | فأحجمت حتى تم ما أنا «راغب» |
أنا «اللاذقي» الحر والسيد الذي | له شرف دون الورى ومراتب |
وإني ابن عثمان تسامت أصولهم | ذكية غرس والفروع أطايب |
إلى أن يقول:
وما بي عيب غير أني عضنفر | وما شاب سيفي في المعارك شائب |
والقصيدة تقع في تسعة وثمانين بيتاً من عيون الشعر في الحماسة والفخر.
أحواله الخاصة: اقترن سنة 1923م وأنجب ولدين، صفي وفي، مرعي الحرمة، مقبول الرجاء، ذو حس فياض يحب الخير، يتولى بمحاضراته ومذكراته العلمية التي ينشرها حسن التوجيه للمجتمع.
فإذا ظفرت به فعض عليه بالنواجذ وأطبق عليه الجفون.
* * *