راغب الملوحي
راغب الملوحي([1])
العندليب المطرب الشيخ راغب الملوحي
الساحر بصوته الشجي وطرائفه النادرة
(1863 ـ 1913م)
الشيخ راغب الملوحي: هو ابن المرحوم سعيد الملوحي وهو حفيد الشاعر المتفنن المرحوم الشيخ زكريا الملوحي.
ولد المترجم في حمص سنة 1863 ميلادية ونشأ بحجر والده وفي أسرة جمعت بين العلم والأدب وتلقى على علماء زمانه قواعد اللغة العربية فكان شاعراًفصيحاً واسع الرواية والاطلاع في أخبار العرب الشهيرة وأشعارهم البليغة، ولم تكن طريقته في قرض الشعر هي التي أكسبته الشهرة، ولكن كانت الشهرة بصوته الرخيم فإنه رحمه الله لم يجمع شعره في حال حياته لانشغاله في المجون والطرب، وقد بلغ من حب الناس لشخصه أنهم كانوا يتهادونه ويتهافتون لدعوته وللاجتماع به وسماع صوته الساحر فلا يتركونه لحظة واحدة ينفرد بها لقضاء حاجاته كما وأن من يتوجب عليهم حفظ أشعاره لم يكترثوا لجمعها فضاعت آثاره كما ضاعت آثار جده الشيخ زكريا الملوحي من قبله.
فنه: كان رحمه الله عليماً بالفن الموسيقي وله معرفة تامة في علم النغمة والأوزان ويحفظ بعض الأدوار المصرية والموشحات القديمة وكان اختصاصه وميله في إنشاد القصائد التي كان يلحنها، وكان يجيد إنشاد ألحان وقصائد الشيخ سلامة حجازي التي كانت منتشرة في عهده وتلقى قبولاً حسناً لدى عشاق الفن وموشحات الشيخ أمين الجندي والشاعر الهلالي الحموي.
درجة صوته: ولما كانت أصوات الفنانين والمطربين تتفاوت وتختلف من حيث القوة والحلاوة والتأثير، فإن صوت الشيخ راغب الملوحي يعتبر في الدرجة الثانية بعد صوت المرحوم عبد الخالق عبارة.
اجتماعه بالفنانين: كان رحمه الله إذا اجتمع مع الفنانين المرحومين الشاويش والقيصر وعبارة ومنيا وغيرهم استهابوه فإذا غنوا قال لهم (لحنتم) فلا يجرؤ أحدهم بالرد عليه أو مبارزته لتضلعه بقواعد اللغة العربية، ولا غرابة في ذلك فالبيئة التي تعيش فيها عائلة الملوحي زاخرة بالعلم والأدب.
كان إذا غنى الموشحات النبوية أنشدها من الطبقة العالية فلا يجاريه أي فنان في الإنشاد من هذه الطبقة العالية المرهقة.
سفره إلى استانبول: لقد سافر رحمه الله إلى استانبول وسولت له نفسه أن يدخل جامع السلطان عبد الحميد ويقرأ بعد صلاة الجمعة أمام السلطان بعض آيات القرآن العظيم فقرأ آية: ﴿ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ بصوت شجي رخيم بهر الحاضرين كثيراً، فخرج السلطان من المسجد ولم يسمح له بشيء مما كان يرتجيه فاحتاط به المصلون وقابلوه بالإعجاب والاحترام.
سفره إلى مصر: ورأى أن يزور مصر ويتعرف على أوضاعها، فأقام مدة شهر في الإسكندرية وهناك اجتمع بالمدعو سعيد العواد، الحمصي إقامة والدمشقي أصلًا، وشكا إليه حاله واحتياجه، فألح عليه هذا أن يستغل موهبة صوته التي تكفل له العيش الرغيد والإثراء، وعرض عليه في بادئ الأمر أن يشتغل معه في التخت الموسيقي ليتعرف الناس عليه، فلم يرض ثم أقنعه أن يشتغل باسم (سلامة الحمصي) فاضطر بتأثير الحاجة إلى الرضوخ وصعد إلى المسرح وأنشد لأول مرة قصيدة ابن زريق البغدادي الشهيرة وهي (لا تعذليه فإن العذل يولعه) وأكد الذينحضروا وسمعوه بأنه أجاد واستولى بسحر صوته على مشاعر السامعين بشكل جعلت شهرته تطبق محيط الإسكندرية كالبرق الخاطف. والتف الناس حوله؛ فكان حيثما حل تلقاه الناس بالحفاوة وقد ظفر بإعجابهم.
اجتماعه بالشيخ سلامة حجازي: وبلغ خبره وشهرته مسامع الفنان الشيخ سلامة حجازي المصري وأن فناناً باسم (سلامة الحمصي) يغني في الإسكندرية وأن صوته قد عزَّ نظيره، فدفعه حب الاطلاع الفني لمشاهدته وسماع صوته والتعرف عليه، وفعلاً تعرف عليه وأنشد له قصيدة:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا | وناب عن طيب لقيانا تجافينا |
غناها له على نغمة الصبا من النوى، فاعترت الشيخ سلامة حجازي دهشة وروعة فنية من قوة صوته وإجادته التلحين والإلقاء وقد أعطاه عشرة جنيهات وتوثقت عرى الصداقة بينهما، فوجد من ترحيبه به ما أفاض بالإشراق والسكينة على حياته المضطربة، وبذل كل سعي لديه وأغراه بالبقاء في مصر والاشتغال في مسرحه فأبى ذلك، والمال لا يغريه إذا لم يكن ما يعرض عليه مما يوافق هواه. والحقيقة التي لا مراء فيها أنه لو رضي الشيخ راغب الملوحي الاشتغال مع الشيخ سلامة حجازي لفاق مسرحه التمثيلي بقية المسارح التي كانت تضاربه في ذلك العهد بدخول عنصر قوي جديد فيه ولطارت شهرته في الآفاق كفنان ذي صوت نادر وتغير مجرى حياته، ولكن أبت عزة نفسه وقاومت كرامته كل عرض وإغراء ودفعه الحنان وحب الوطن للرجوع إلى حمص وكان آخر ما غنى به وسمعه الشيخ سلامة حجازي قصيدة (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر) وأثارت ما تضمنته هذه القصيدة من معان فياضة بلوعة النوى والحنين عوامل الوجد في فؤاده الحساس فبكى وأشجى عشاق فنه.
صفاته: كان رحمه الله ذكيًّا وفيًّا، عزيز النفس، خفيف الروح مديد القامة مرهف الملامح، يحب الاسترسال باللهو والمجون وخلع العذار والخلوات المطربة، في عينيه وميض ينطق وشبق يسيل، اتبع مذهب الشاعر الهلالي (يهوى الجمال المطلق أيان ما كان) كان له كلف شديد بالطعام الطيب؛ لا تفارقه التؤدة لا في سر ولا في علن. أما بعده عن الخيلاء والعجب فليس ضرباً من التكلف، بل مرده إلى نفس مطمئنة وبيئة متواضعة في شرفها ووجاهتها.
ذهابه إلى الجندية: وقد ذهب إلى الجندية واستخدم في بعلبك بعد دفعه البدل النقدي وأقام فيها سبعة أشهر كان خلالها موضع إعجاب الضباط وتهالكهم على حبه وسماع صوته الساحر ونوادره الطريفة، وبعد أن انقضت فترة التدريب الإجباري أزمع العودة إلى حمص. ولما حانت ساعة الوداع أخذ الدمع يطفر من عينيه وتذكر ليال هنيئة قضاها بقربهم، وقد أثر فراقه على مشاعرهم فودعوه والدموع تنهمر من مآقيهم، وكانت حياتهم بعد سفره موحشة كأنهم في ظلمات.
من حوادثه الواقعة: وقد قص على كثيرين ممن عاشروه بأنه في عام 1902م بينما كان ينشد في بستان المرحوم سليمان الخوري في موقع الجديدة على العاصي في حمص ارتمى البلبل في أحضانه من تأثير شدوه وغنائه الشجي.
وكذلك بينما كان في عام 1904م ينشد في جزيرة على العاصي في قرية تير معلة وكان أسعد بك الدرويش قائم مقام أركان حرب وأحمد استانبولي ضابط في الجيش والمرحوم الشيخ شمسي المولوي وسليم الحلبي العواد وكان الوقت بعد الغروب غنى وأطرب فإذا بلبل يرفرف بجناحيه ثم يرمي نفسه بكأس الفقيد ويغتسل به، فقال أسعد بك: الله أكبر عليك يا شيخ راغب لقد رميت البلبل بصوتك الرخيم.
وفاته: وفي اليوم الأول من شهر مارس سنة 1913 ميلادية هوى النجم الساطع بفنه ودفن في مقبرة عائلته، وقد قضى قبل أوانه ولم يعقب ولداً ولم يترك من تراث نظمه الشعري غير ذكرى مجده الفني وشهرة صوته الفذ، وكفاه شرفاً ورحمة وغفراناً من ربه أنه كان يمدح الرسول الأعظم فإذا أنشد قصيدة (يا نبيًّا سمت بك العلياء) أثر صوته الرخيم في قلوب الناس فأشجاهم وأبكاهم.
رحمه الله وأجزل إليه الرحمة والرضوان.
* * *