جاري التحميل

رشيد الخوري (القروي)

الأعلام

رشيد الخوري (القروي)([1])

الشاعر الملهم والمتفنن الألمعي رشيد الخوري المكنى (بالقروي)

إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً، فإذا اتخذ بعض الشعراء نظم القوافـي مكسـباً بالمدح والقدح، فإنك لا تجد في ديوان الشاعر القروي العبقري ما يخالف نفسه الأبية وعقيدته المثالية، فقد ضرب على (وتر النبل والكرامة) في نظم قصائده البليغة، فتجلت فيها آيات بينات من الهدى والحكمة والوطنية والفضيلة.

ويسعدني وقد تابعت باهتمام تاريخ حياة بعض شعراء المهجر أن أتحدث عنهم في مؤلفي أعلام الأدب والفن وأن أستقصي أخبار البقية وهي الفئة الفاضلةالتي تعتز بها الأوطان، وأن أبدأ بالشاعر الموهوب الخالد (القروي) وإخوته كفنانين لهم علاقة صميمة بأبحاثي الفنية، وإني أدعو الله أن يفسح الأجل فألقى هذا الشاعر النابغة لأعب من كؤوس عبقريته حتى الثمالة.

أصله ونشأته: هو الشاعر الملهم رشيد بن سليم بن طنوس بن منصور بن حنـا الخوري المكنـى (بالقروي) بزغ نجـم هـذا الشاعـر الفنـان فـي سماء قرية (البربارة) الواقعة بين مدينتي جبيل والبترون في لبنان في ليلة عيد الفصح في السابع عشر مـن شـهر نيسان سـنة (1887) ونشـأ بكنف والده في مهد الثقافة والفضائل، وتلقى دراسته الاستعدادية في الكلية السورية الإنجيلية ببيروت وانصرف إلى التعليم في مدارس عديدة.

سفره إلى البرازيل: ولما شب سافر في أول شهر آب سنة 1913م إلى البرازيل فوصلها وهو صريع الحمى وجالت في نفسه خواطر مؤلمة وهو غريب حيران وتذكر من قضى نحبه من أقربائه في المهجر، فكانت حياته صراعاً بين الأمل والأماني، وقد استهتر بالموت فقال:

لئن كان في أرض البرازيل موتي

فقد مات من قبلي سليم وأسعد

ونصري ومناش وإلياس كلهم

غريب الحمى في أرض كولمب ملحد

ومنها:

بعيد عن الأوطان يصحبني أخ

له كبدي الحرى وما تتكبد

فنه: لقد اشتهر أهل قرية البربارة برخامة الصوت فكان بيت سليم الخوري مجموعة من أصحاب الأصوات الحسنة يغردون (كالعنادل) واشترى الفنان قبل رحيله من الشام عوده، ولما اشتدت به الضائقة شرع يعلم العود إلى الهواة، ثم تعاقد مع جمعية زهرة الإحسان فعلم سنة في مدرستها.

وفي سنة 1915م انتقل إلى (سانت بول) وصار يعلم في مدارسها ويتجول إلى الولايات معتمداً لبعض المحلات التجارية، فكان عوده قرة عينه وأنيس وحشته في غربته وسبب اطمئنانه إلى العيش، ثم اشتغل بصنع الأرب (ربطات العنق) وتنازعت بروحه وشعره عاديات الحياة فناجاها بقوله:

بددت روحي ثم لملمتها

حفظاً لذكري قبل يوم الرحيل

ما كل سطر من كتابي سوى

شعاعة من نور قلبي الضئيل

إن أفلحت نجمة عمري فقد

تطلع في الأرواح مع كل جيل

وأصيب وهو في الثانية عشرة من عمره بانفجار إصبع ديناميت في يده اليسرى أضر بالبنصر والوسطى فأعاقه من التفوق في العزف على العود.

يهوى شاعرنا الغناء والطرب والعزف والرياضة البدنية، ومن الطريف أنه أخرج في سانت بول منذ أكثر من ثلاثين سنة بعض أسطوانات جلها وطني وقد نقدت، وأنكر ذوقه صوته فأتلف (الأمات) سامحه الله ولم يدر أنها آثاره الخالدة.

شعره: إن ديوانه الشعري الكبير الذي أخرجه للمجتمع هو سفر أدبي ضخم جادت به قريحته الجبارة، ويدل على قوة بلاغته وروعة أسلوبه، ولعمري فهو كالشمس تشع ذراتها فتضيء أجواء الخليقة فتتغذى بها القلوب والأرواح، عظيم الحس والشعور ينظم في أية ساعة وأي مكان في المناسبات الواقعية.

البواكير: كان أول ما نظم، والموجات القصيرة، والأعاصير وهي مختارات من شعره الوطني الحي ولو وزنت عناصر الوطنية في البشر لكان الشاعر القروي فارس الميدان بعواطفه اللاهبة وصدق مبادئه ومتانة أخلاقه المثالية، فقد ضحى براحته وماله ووقته في سبيل الواجب ينظم القصائد والتراتيل ويلحنها ويمرن الفرقة الموسيقية على إنشادها ـ ومن نظمه البديع وكله عظة وحكمة قوله:

يا أيها الجيل الذي عاصرته

كم من أديب فيك غير أديب

كل يعيب أخاه لي ولطالما

عمرت مجالسهم بعد عيوبي

ولو استطاعوا أن يحبوا بعضهم

بعضاً لكنت لهم أحب حبيب

ويبث روح الثقافة في المجتمع بخرائد درية فاسمع إلى روعة قوله:

تلقط شذور العلم حيث وجدتها

وسلها ولا يخجلك أنك تسأل

إذا كنت في إعطائك المال فاضلاً

فإنك في استعطافك العلم أفضل

الأزاهير: هو اسم ينطبق على مسماه، وكل ما وصفه هذا الشاعر المبدع هو كالرياض الغناء التي جمعت أطايب الأزاهير وفاح أريجها العبق فمن قوله:

إن تكوني كالبدر فالبدر يخسف

أو تكوني كالشمس فالشمس تكسف

أو تكوني كالورد فالورد يذوي

أو تكوني كالطل فالطل ينشف

ومنها:

حبذا الدرة التي ليس تشرى

حبذا الخمرة التي ليس ترشف

حبذا النجمة التي ليس ترعى

حبذا الوردة التي ليس تقطف

آه لو يفتحون للطف سوقاً

لنرى في البنات من هي ألطف

آه لو بالعفاف يشرفن قدراً

لنرى بالعفاف من هي أشرف

وتستشف مـن معانـي قصيدته (تسبيحة الحب) أن شاعر الوحي والإلهام وهبه الله أخلاق الأنبياء فقال:

سأجرف بعضكم بالحب جرفاً

وأنسف غيظكم بالحلم نسفاً

وأنهلكم رحيق الصفح صرفاً

وأطفي فيكم ما ليس يطفى

وأشفي منكم ما ليس يشفى

 

ومنها:

أريشوا وارشقوا قلبي ورأسي

فقد مكنت بالتهذيب ترسي

وصنت عن الوقعية ذيل طرسي

فلي قلم أديب مثل نفسي

عن القول السفيه عفا وعفّا

ومنها:

إذا فكرت في معنى الوجود

وفزت بلمح أنوار الخلود

رثيت لكل منتقم حقود

يعذب نفسه وأنا وعودي

نروح ونغتدي شدواً وعزفاً

وتلوح من ثنايا نظمه الحب العذري وتتقد في خلجات روحه عواطف تذوب في حشاشتها الدم والدمع فيقول:

هو الحب حتى ليس في الأرض مجرم

ولا مدمع يجري عليها ولا دم

وحتى كأن القلب في خفقانه

يود به نطقاً كما نطق الفم

ومنها:

ألا كل دين ما خلا الحب بدعة

ألا كل علم ما عداه توهم

ولا عجب أن ينكر الله كافر

فماذا ترى من يجهل الحب يعلم

وخير منظوماته (حضن الأم وتحية الأندلس) وفي ديوانه القوافي الكثيرة التي تصلح للتلحين والغناء ولقد لحن مؤلف أعلام الأدب والفن قطعة مؤثرة من نظم الشاعر القروي من مقام الحجاز كار كردي ووزن السماعي الثقيل وهي:

أسفي ولى شبابي

وتلاشى كالضباب

وانطوى سفر الأماني

وانقضى عهد التصابي

كم مصاب ساحب لي

خلفه ألف مصاب

كلما قلت عذابي

خف يزداد عذابي

رب كم ألقى حساباً

قبلما يأتي حسابي

ذهب السقم بجسمي

وتمشى في ثيابي

بت مما قد سقاني

الدهر من خل وصاب

لو أتاني الآن بالكو

ثر صفيت شرابي

أوصافه: لم ينشر شاعرنا المحبوب صورته الغراء في ديوانه النفيس وعهد الناس به العطف والحنان فلم يرحم لوعة إعجابهم بأدبه وفنه للتمتع بخياله، وهو مرهف الملامح، بديع قسمات الوجه، حنطي اللون، عسلي العينين، فيهما بريق من النبل لا يستطاع تحليل أسراره، واسع الجبهة ببروز قليل، دقيق الأنف، بيضوي شكل الوجه، ولم يدخن قط، يعب من الخمرة كما يعب البلبل الغريد من الدن، أنيق الملبس، يكره الملق والرياء، ويرى في السينما دعارة ماكرة وجريمة سافرة، ومن أبرز سجاياه المثالية التواضع، يعترف بأنه ليس من العلم في شيء مع أنه من الأعلام في كل شيء، يميل إلى مطالعة الأخبار العالمية، ويعرف القليل من اللغتين الإنكليزية والبرتغالية، طيب العنصر، إذا غضب صفا وراق.

كان مسؤولاً عن تتبعات حياة أسرة كبيرة فوقف شبابه وجهوده في سبيل تربية إخوته فلم يتزوج، يهوى الحب العذري، فإذا حف به الحور والولدان انبثق في مجلسه آيات من الفضيلة والطهارة، وفاضت قريحته بما يسعد ذلك الحب من وصف رائع يسدي الخير إلى الناس، حاتمي المشرب فقد اقتصد ببعض المال وبعث به إلى يتامى قرية البربارة لتوزيعه فأعطى أسوة حسنة في ميدان الكرم والعطف على الفقراء.

والده: سليم بن طنوس بن منصور بن حنا الخوري، كان رحمه الله يجيد النظم والنثر بعض الإجادة طيب القلب، مات سنة 1910 غمًّا وكمداً لفرط حيائه من توزيع ثروته قروضاً لم يقم بواجب تسديدها من أسدى إليهم الخير والمعونة.

والدته: هي تقلا بنة أسعد الرحباني.

أخوه قيصر: وهو الشاعر المدني، وله محل تجاري في سان باولو.

أخته فكتوريا: رخيمة الصوت، بدوية المحاسن، غسانية الملامح، ورثت نظم الشعر عن أبيها وأخيها وما أن بدأ نبوغها في إرسال الخواطر الشعرية الفاتنة حتى تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى الولايات المتحدة.

أخوه فليب: تخرج من القسم العملي من مدرسة الفنون، له ولع بنظم بعض المقاطع الممتازة ظرفاً وفكاهة وانشغل بعائلته الكبيرة في الغربة السحيقة فهجر النظم وطلق الأدب.

أخوه فؤاد: كان أشد إخوته جاذبية ولطفاً، ذكيًّا خطاطاً، دون ذكره منذ حداثته لجمال صوته فكان الناس يؤمون بيت الخوري من مسافة يومين ويلتمسون إيقاظه من نومه لينعموا بسماع شدوه الرخيم قضى إبان الحرب العالمية الأولى في مثل عمر البدر.

أخوه أديب: له في الفنون ذوق خاص، امتاز بقوة بدنية خارقة، أنجب (خالداً) وهو في السادسة والعشرين من عمره، بطل الملاكمة في أميركا الجنوبية ويحرر القسم الرياضي في بعض الجرائد البرازيلية.

أخوه نديم: ذو صوت جميل، امتاز بفن الحساب والقوة البدنية، يهوى النظم وانقطع عنه بعد فسخ خطوبته.

أخته دعد: رخيمة الصوت، ميالة إلى الموسيقى، تزوجت سنة 1939م من سليم أبي شهلا وهو أيضاً من هواة الموسيقى، وأنجبا وحيدهما (أنتنور) الذي برز نبوغه في العزف على البيانو وهو الآن في العاشرة من عمره وحديث الناس بمواهبه.

وأختم تاريخ حياة الشاعر العبقة ببيتين نظمهما في إهداء الأعاصير فقال لا فض فوه بغير اللثم والقبل:

يا رفاتاً تحت الرمال دفيناً

مبعداً عاطل الرموس نسيّا

لك أهدي هذا الكتاب لأني

لم أجد في البلاد غيرك حيّا

ومن شعر شقيقه الشاعر المدني قيصر البليغ قوله بمناسبة معالجته من قبل الطبيب السيد إلياس العاصي يوم مرضه:

إلياس يا مصباح ليلي

لا أشح الله زيتك

والله ما داويت قلبي

إنما رممت بيتك

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 179 ـ 181).

الأعلام