رشيد رضا
رشيد رضا([1])
الشيخ رشيد رضا
(1865 ـ 1935م)
في كل عصر ومصر ينهض رجل من صفوف الأمة فيشق طريقه إلى الهدف الأسمى ويعمل على تشييد صروح تخدم الإنسانية خدمة نافعة، ولا يقوم صرح من تلك الصروح إلا إذا اتقدت في قلب صاحبه جذوة التجرد والإخلاص فألهبت حواسه وجعلته مثالاً حيًّا لتلك القيم الروحية التي بها وحدها يتميز الإنسان عن بقية المخلوقات.
هذا هو عمدة الأعلام المرحوم الإمام محمد رشيد رضا الذي طاول الثريا عمله وفضله.
مولده ونشأته: ولد في قرية القلمون شمالي لبنان في اليوم السابع من شهر جمادى الأولى سنة 1282ﻫ وتشرين الأول سنة 1865م من أسرة من السادة الأشراف، وقد امتاز أهل بيته بالعلم والصلاح والرياسة، وكانوا يلقبون بالمشايخ، وبيتهم بيت كرم وضيافة.
تلقى العلم في المدرسة الوطنية في بيروت، ثم أغلقت، وواظب على التدريس في المدرسة الرجبية في طرابلس حتى تخرج بها، وأخذ الإجازة بالتدريسوالتعليم سنة 1897م.
أستاذ السيد رشيد: ويظن الكثيرون أن صاحب الفضل في تربية المرحوم رشيد رضا على حرية الرأي هو الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده، والواقع أن تأثير محمد عبده في السيد رشيد لا يعدو تأثير القائد في أركان حربه.
أما صاحب الفضل في تربيته وتنشئته فهو العلامة المرحوم الشيخ حسين الجسر مدير المؤسسة الوطنية الإسلامية بطرابلس الشام، فقد تخرج المترجم عليه في العلوم العربية والعقلية، وكان كاتباً شاعراً ملمًّا بالعلوم العصرية، ومن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوربية، وكان للشيخ حسين الجسر أسلوب خاص في التعليم غير الأسلوب الأزهري، يتحرى فيه السهولة ويتجنب المناقشات اللفظية واستطرادات الحواشي، والشيخ حسين هو صاحب (الرسالة الحميدية) وكان يعترف لتلميذه السيد رشيد رضا بالذكاء والتفرق على إخوانه.
هجرته إلى مصر: وفي سنة 1897م هاجر المترجم إلى الديار المصرية عقب انتهائه من طلب العلم في طرابلس الشام للقيام بعمل إصلاحي للإسلام والشرق، لا مجال له في بلد إسلامي عربي غير مصر، والاستعانة عليه بصحبة الإمام محمد عبده، والاقتباس من علمه وحكمته، والوقوف على نتائج اختباره وسياحته وعمله مع حكيم الشرق وموقظه من رقدته السيد جمال الدين الأفغاني.
جاء إلى مصر كما يجيء كثير غيره من أبناء الأقطار الإسلامية للإفادة من الأزهر، ولما اتصل بعلمائه وتفقدهم، لم يعم عليه الأمر كما عمي على كثير غيره، ولم يتحيز أو ينحرف عن الهدف أو يبتعد عن الصواب كما يحصل لكل طارق بلداً لا يعرف فيه أحداً.
لم يطل به المقام حتى أدرك بنور بصيرته وثاقب فكره وطيب استعداده أن الشيخ محمد عبده هو الضالة المنشودة، وأنه العالم المصلح الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه، فعكف على ملازمته، وشغف بالسماع منه في الدرس وغير الدرس، في المسجد وغير المسجد، وبالرغم من كثرة المستمعين للشيخ محمد عبده وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل، فإن أحداً لم تعمل فيه آثار الشيخ محمد عبده أقوى مما عملت في الشيخ محمد رشيد رضا، فقد حرص على أن يسجل آراء الأستاذ التي يلقيها على الطلاب في الدرس، والتي تصدر عنه في المجتمعات، والتي يراسل بها أصحابه أو يرد على مستفتيه في أمور الدين والدولة، حتى صار شبيهاً بشريط تسجيل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة لأستاذه إلا أحصاها، ومع عظيم عناء هذا العمل الجليل الذي سجله المترجم والذي لولاه لذهبت آثار الأستاذ محمد عبده لكثرة منافسيه فقد أصدر تاريخه المشهور عنه.
مجلة المنار: وفي أواخر سنة 1897م أصدر مجلة المنار، فكانت قرة أعين المسلمين لما حوته من مواضيع عامة وتفاسير قرآنية، وقد حارب البدع من مشايخ الطرق فسحقهم بمقالاته سحقاً، ودام صدورها نحو أربعين سنة، ويعتبر من اقتناها كاملة بمجلداتها أنه اقتنى أنفس موسوعة علمية وتاريخية وأدبية.
مؤلفاته: لقد أنشأ مؤلفات لا تحصى لكثرتها نكتفي منها بالذكر:
1 ـ كتاب (تفسير القرآن) الشهير بتفسير المنار في 12 مجلداً.
2 ـ التفسير المختصر المفيد في عدة مجلدات أيضاً.
3 ـ تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في ثلاثة أجزاء.
4 ـ كتاب نداء للجنس اللطيف.
5 ـ حقوق النساء في الإسلام.
6 ـ الوحي المحمدي.
7 ـ ذكرى المولد النبوي الشريف.
8 ـ الوحدة الإسلامية.
9 ـ يسر الإسلام وأصول التشريع العام.
10 ـ الخلافة أو الإمامة العظمى.
11 ـ الوهابيون والحجاز.
12 ـ السنة والشيعة.
13 ـ مناسك الحج وأحكامه وحكمه.
14 ـ المسلمون والقبط.
15 ـ رسالة في الصلب والفداء.
أما تآليفه التي لم تطبع أو تنشر فهي:
16 ـ حقيقة الربا.
17 ـ مساواة المرأة بالرجل.
18 ـ رسالة في حجة الإسلام الغزالي.
19 ـ كتاب المقصورة الرشيدية.
20 ـ رسالة في التوحيد.
21 ـ كتاب الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية.
أحواله العامة: وفي يوم الجمعة السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة 1329ﻫ آذار 1911م احتفل في (درة) من أعمال الكورة الشمالية بجبل لبنان بعقد المترجم على الأميرة (أمينة) كريمة المرحوم الأمير هدى درويش الأيوبي، والأمراء الأيوبية كانوا حكام هذا القسم الشمالي ـ من كورة لبنان، وهم ينتسبون إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وفي 18 من شهر جمادى الأولى سنة 1331ﻫ تموز سنة 1913م اقترن بزوجة ثانية، وهي سعاد كريمة الشيخ حسن الصفدي في طرابلس الشام.
رحلاته: زار البلاد السورية سنة 1908م عقب إعلان الدستور العثماني، وقام برحلة إلى الهند والعراق وعمان سنة 1912م، وإلى سورية سنة 1918م، وأقام فيها مدة سنة، ولما أراد العودة إلى مصر بطريق البحر أوقف من قبل الفرنسيين بضع ساعات ثم اعتذر له المفوض السامي وسمح له بالسفر، وكان أينما حل يستقبل ويودع بالحفاوة والإكرام إجلالاً لعلمه وقدره.
وفي 12 آب سنة 1922م سافر إلى جنيف لحضور المؤتمر السوري الفلسطيني.
مصائبه وصبره: لقد عكر الدهر صفو حياة هذا الإمام المصلح الديني العظيم الذي حمل رسالة الإصلاح نحو أربعين سنة، وهو بين الوعظ والإرشاد والتأليف، فقتل شقيقه حسين رضا في طرابلس الشام، وتوفي شقيقه السيد صالحمخلص رضا بمصر، وتوفيت والدته بعد مجيئها إلى مصر سنة 1931م فعظم عليه الخطب والمصاب فكان صابراً متوكلاً.
أدبه: كان الإمام الأستاذ رشيد رضا شاعراً متيناً، غير أن انهماكه في التأليف حال دون تعاطيه القريض، ومن نظمه القصيدة الطويلة المسماة (المقصورة الرشيدية) ومطلعها:
كم ليلة أبيتها منكراً | يفي لي السهد ويخلف الكرى |
أطوي جناحي على جمر اللظى | أرضك عينيَّ على الماء الروى |
وكان خطيباً مرتجلاً ومرشداً بليغاً لا يبارى ولا يجارى، ذا حافظة قوية.
إخلاصه: كان صريحاً في الحق، ومن الأمثلة على شجاعته الأدبية أنه لما نشب الخلاف بين الملك ابن سعود وإمام اليمن أرسل إلى الملكين خطاباً حاسماً صورته واحدة قال لهما فيه: «إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله وخاتم النبيين للإسـلام والمسـلمين، لا لعبـد العزيـز الفيصل السعودي، وليحيى حميد الدين، فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له قائمة في غيرها، فجميع المسلمين تحت سلطان الأجانب إلا قليلاً من الأعاجم، فيجب أن تبقى هذه البقعة ونتقي الله، ونحرص على حسن الخاتمة والسلام».
ولما أثيرت مسألة خليج العقبة ووجوب استيلاء الملك سعود عليه كتب إليه خطاباً طويلاً يبين له فيه أن الذي يستولي على خليج العقبة يحكم جزيرة العرب، وقد استحثه بحرارة على التفكير في هذه المسألة المهمة، ولما قرأ ابن عمه عبد الرحمن عاصم الخطاب وجده شديد اللهجة فراجعه فيه، فرد عليه قائلاً: مزيتي أنني ناصح مخلص، ومزيته أنه يقبل النصح.
وفاته: كان مصاباً بضغط الدم، فأصابته نوبة قاسية بينما كان عائداً من السويس إلى القاهرة بالسيارة بعد قيامة بوداع ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير سعود، وقد شعر بدوار فاضطجع، وقبل وصوله إلى مصر الجديدة وجده رفاقه جثة هامدة، وذلك في منتصف الساعة الثانية من مساء الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 1354ﻫ الموافق الثاني والعشرين من شهر آب سنة 1935م وقد دفن بجوار أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده، وأعقب ولدين وهما شفيع والمعتصم.
وفي يوم الخميس 10 محرم سنة 1355ﻫ ومارس 1936م أقيمت بدار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبينية كبرى لفقيد الإسلام، وعدَّد مناقبه ومآثره وآثاره الخالدة الخطباء والشعراء، وقد ألقى الأستاذ محمد الهراوي قصيدة بليغة، نقتطف منها بعض أبياتها:
أي صرح هوى وحصن حصين | ولواء طوته أيدي المنون |
وكتاب في الرشد يهدي إلى الرشـ | ـد وسيف مهند مسنون |
مات رب المنار والأمر للـ | ـه وما مات غير داع أمين |
عاش لله مخلصاً في جهاد | نصف قرن مبارك في القرون |
ومضى باليراع يدعو إلى الحقـ | ـق وبالقلب واللسان المبين |
ورثاه الشيخ إسماعيل الحافظ فقال:
داع إلى الحق غالت صوته النوب | أصيب في فقده الإسلام والعرب |
وكوكب من سماء الفضل حين هوى | هوى منار الهدى وانثالت الكرب |
وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى | من ثكله شرف الأعراق والنسب |
قضى الإمام فوجه الحق مكتئب | مما دهاه وطرف الهدي منتحب |
والحزن مستعر النيران متصل | والصبر منقطع الأوصال منقضب |
وهكذا ودع هذا الإمام المصلح المرشد الدنيا إلى دار النعيم والخلود بعد أن قدم للعروبة والإسلام أجل الخدمات.
* * *