جاري التحميل

زكريا الملوحي

الأعلام

                    زكريا الملوحي([1])
الشاعر الفنان والخطيب البليغ والقارئ المجيد المرحوم الشيخ زكريا الملوحي

لقد بذلت الجهد لمعرفة تاريخ ولادة المرحوم المترجم فلم أستطع الوقوف على أية معلومات من أحفاده ورغبت الاطلاع على شهادة القبر للتثبت من تاريخوفاته فوجدت العوارض الطبيعية قد لعبت بها وبقيت أثراً بعد عين، لذلك وبالاستناد إلى وقائع حياته وشهرته بين الناس ورثائه للمرحوم الشيخ أمين الجندي الشاعر الحمصي المشهور عند وفاته فإن ولادته كانت في الربع الأخير من القرن الحادي عشر في سني 1182 إلى 1185ﻫ ووفاته في الربع الثالث من القرن الثاني عشر في سني 1260 إلى 1265 هجرية على وجه التقريب والله أعلم.

أصله: هو المرحوم الشيخ زكريا بن إبراهيم بن علي الملوحي ويقال بأن أصل عائلة الملوحي من قرية السفيرة بحلب وأن مملحة الجبول كانت بتصرّف هذه العائلة، ويظهر أن اللقب غلب عليها فلقبت باسمها. ومن الثابت أن خلافاً كان وقع بين الملوحيين والحكومة على التصرف بهذه المملحة التي كانت وما زالت مصدر ثروة عظيمة للحكومة وكانت النتيجة أن أخرج من تلك الجهات جدهم الأعلى المرحوم (علي الملوحي) وأجبر على الإقامة في حمص.

ومن أبناء علي الملوحي من استقر في حمص ومنهم من تركها وأقام في جهات حصن الأكراد ومنهم من نزح إلى جسر الشغور حيث توجد هناك عائلة كثيرة العدد معروفون باسم عائلة الملوحي ويوجد في الميدان بدمشق عائلة من آل الملوحي.

ثقافته: لقد درس المترجم على أفحل علماء زمانه شتى العلوم فكان عليماً باللغة العربية وقواعدها وأصول الفقه، وهبه الله الصوت الشجي ويسر له حفظ القرآن العظيم عن ظهر قلبه فكان قارئاً ممتازاً لا يبارى ولا يجارى في علم التجويد، وكانت له حلقة خاصة لتدريس العلوم في الجامع النوري الكبير في حمص وتسمى بالمشهد الملوحي وما زالت معروفة بهذا الاسم وموروثة حتى الآن.

وقد وضع نفسه وعلمه لخدمة الناس وأغراهم على محبته بفضله وعلومه فاشتهر بما أفاد.

شعره: كان عالماً فاضلاً وشاعراً مجيداً، لم أعثر لدى أحفاده على أي أثر من آثار نظمه ونثره، وأبى الدهر إلا أن يمعن في قسوته عليه فقد كف بصره رحمه الله في أواخر حياته وأصبح في وضع لا يستطيع معه حفظها، غير أن اللوم يقع على أبنائه وأحفاده الذين أهملوا أمرها فتبعثرت وضاعت، وقد وجدت بعد جهد مضن بعض أشعاره وموشحاته ومن شعره الجيد مرثيته البليغة للمرحوم أمين الجندي منها قوله:

عيون الدهر تهطل كالسحاب

لفقد الحبر والأسد المهاب

على الشعرا أمين كان شمساً

وكيف الشمس تغرب في التراب

ومنها:

بأعلى جنة الفردوس أضحى

أمين بالبهاء وبالثواب

ومن تخميسه قوله في مدح الرسول الأعظم:

حروف نورك بالآفاق قد رقمت

وفي ظهورك كل الخلق قد رحمت

يا منة من كنوز الله قد عظمت

لولاك موسى كليم الله من سلمت

في اليم أمته والبحر ما سلكت

أنا الذليل وظهري بالذنوب ثقل

وحار أمري وللحيران أنت تدل

في يوم حشر الورى دعني حماك أحل

حتى وإن جيء بي نحو الصراط فقل

يا مادحي زكريا هات لي يدكا

ومن قوله البديع:

سرى فأثار نار الشوق ريَّا

نسيم هب من أطلال ريَّا

عجبت من العليل أتى يداوي

عليلاً قد كواه البين كيَّا

ويا برقاً أضاء ومضى فأبقى

لرعد الوجد في قلبي دويَّا

بسحب الدمع مني حيي عني

ربوع أحبتي حيًّا فحيَّا

وعرض بي لديهم عل يوماً

بسلك منك أن يوحوا إليَّا

وأنت حمامة الوادي أبيني

أنوحك كان شدواً أم نعيَّا

تأني يا حمامة لا تئني

ففرط النوح لا يجدي الشجيَّا

قفي نوفي النوى ما يقتضيه

فإنك لن تري مثلي وفيَّا

ولكن أين نوحك من أنيني

إذا جنَّ الدجى وسجى عليَّا

فإني قد ولعت بحب طه

إمام الرسل برًّا أريحيَّا

أغث بمحمد يا رب عبداً

بباب المصطفى ناخ المطيَّا

فنه: كان عالماً في الفن الموسيقي وضروب الإيقاع وله ابتكارات فنية وطرائف تسيل رقـة وظرفاً وهـو مـن الشعراء الصوفيين المتغزلين يعبر شعوره عن مآسي الأرواح وأشجان الأفئدة وأوطار النفوس.

كان رحمه الله يحب الفن والسماع والطرب لعلاقتها بالروح ويلازم أصحاب الأصوات الجميلة ويكره عكسها، فإذا سمع صوتاً منكراً استعاذ بالله وتشائم وقال إن (صوت البوم يدل على موت إنسان) وله موشحات بديعة منها موشح من نغمة الحجاز:

قد عيل بي صبري

فانظر لما فينا

من شدة الهجر

كلت مساعينا

من ثغرك الدري

عذب اللما يجري

فاغنم بها أجري

فاشرب وأسقينا

سفره إلى مصر: لقد سافر المرحوم المترجم إلى مصر وأقام فيها مدة شهرين ضيفاً على أحد أبناء عائلة توكل، العائلة الحمصية الأصل التي استقر لها الأمر في مصر وشكلت عائلة كبيرة، وهناك جمع له المضيف نخبة من الشعراء المصريين المشهورين بمناسبة كونه قارئاً مجيداً، وبدأ أكبرهم بالتلاوة ولم يدروا بأن الضيف هو (الشيخ زكريا الملوحي) القارئ المشهور وفي موقع من مواقع الوقوف بالتجويدلحظ القارئ إشارة من المترجم تشعر بوجود خطأ في التلاوة فأعاد القراءة المرة الثانية والثالثة وكانت الإشارة تتكرر من المترجم فثارت ثائرة القارئ وقال (تجي داهية) أهو الشيخ زكريا الحمصي، ثم تم التعارف بين القارئين وهذا ما يدل على شهرته في القراءة وبعد صيته.

كان المترجم رحمه الله جهوري الصوت فإذا استرسل في تجويد آي الذكر الحكيم أثر صوته الشجي في السامعين وغلب عليهم الخشوع فنثروا الدموع هيبة وإجلالاً. ومن مزاياه أنه كان عليماً بالنغمات وطبقاتها وقد ساعدته على تفننه بالتجويد، فقد كان يعرف كيف يتنقل بين النغمات المتقاربة التي تنسجم مع بعضها بشكل فاتن، إذ لا يجوز في عرف الفن أن يجري التجويد من نغمة إلى أخرى رأساً لوقوع الارتباك وضعف الانسجام الفني بين النغمات.

الخطيب البليغ: كان المترجم رحمه الله خطيب الجامع النوري الكبير الذي لا يبارى ولا يجارى فقد نشر معارفه وفضائله بين الناس بما يلقيه من خطب كان يرتجلها ويلقيها في تمهل وترفق ويجلجل فيها صوته كالأسد الهصور ويبرق ويرعد، تكاد تخشع أعواد المنابر إكباراً لقوة بيانه.

صفاته: كان تقيًّا صالحاً حاضر البديهة شديداً على كرامته، قليل الكلام عن نفسه وعمله، يكره الملق والرياء، فارع الطول عظيم الجثة والهيبة يرتدي الجبة والعمامة ويحب الطهارة إلى أبعد حدودها، وكان من أخلص الناس للمرحوم الشيخ أمين الجندي الشاعر المشهور، وقد تأثر بأسلوبه الشجي في نظم الموشحات البديعة.

وفاته: وفي أواخر حياته كف بصره فاستبدل عمامته البيضاء بعمامة خضراء وكان يقول للناس إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

وقد توفي رحمه الله عن شيخوخة صالحة تشعر بحسن الختام لا ضنك فيها ولا إملاق. وأعقب من الأولاد ذرية صالحة وهم الشيخ سعيد وأعقب هذا الشيخ أنيس والشيخ خالد والشيخ راغب وهو صاحب الصوت الساحر وأنجبت هذه العائلة التي راق لها التوطن في حمص نخبة من العلماء والصالحين فأحسنوا إليها بمعارفهم وفضائلهم وأحسنت إليهم بتقديرها لهم واعتزازها بأمثالهم.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 34 ـ 35).

الأعلام