زكي مبارك
زكي مبارك([1])
الدكتور زكي مبارك
(1892 ـ 1954م)
نشأته: لقد تعذر علينا معرفة تاريخ ولادة المترجم، وأكد الذين رافقوه، أنه دخل الجامعة المصرية وهو في الخامسة والعشرين من عمره فتكون ولادته سنة 1892م على وجه التقدير، هو رجل عصامي نابه، نزح من الريف إلى القاهرة للعلم، بدأ حياته طالباً بالأزهر فلم يكن بالطالب الخامل، ولم يتعلق عظيماً ولم يستنجد ثريًّا لينجح في دراساته أو لنيل رزقه، إنما هو عصامي نجح نجاحاً عزيزاً مشرقاً، فإذا لم يكن في حياته إلا هذا، وإلا أنه شق طريقه بالنحت بإبرة في صخور الحياة الصلدة لكفاه فخراً وخلوداً.
طموحه: لقد دفعه طموحه إلى دراسة اللغة الفرنسية في فترات حياته الأزهرية، ولما أنهى دراسته في الأزهر دفعته عزيمته إلى الجامعة المصرية سنة 1916م فأصبح طالباً يتميز بين طلابها بالنشاط والكفاح، ووجد فيها أفقاً أرحب ومورداًأعذب، فجال فيها ونهل ونال إجازة الدكتوراه في الآداب سنة 1934م فكتب رسالة عن أخلاق الغزالي وكان الشاب الجامعي معتزًّا بمواهبه.
في باريس: سافر إلى باريس، واتفق مع جريدة البلاغ أن يمدها بمقالاته وأبحاثه نظير ما تمنحه من أجر يذلل به صعوبة الاغتراب، وأخذ يوالي البلاغ بآثاره العلمية تارة، وبمشاهداته وخطراته عن باريس تارة أخرى، وقدم أطروحة عنوانها (النثر الفني في القرن الرابع الهجري) ونال إجازة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون، وأقيمت له ثلاث حفلات تكريمية في باريس والقاهرة والإسكندرية.
عودته إلى وطنه: عاد إلى القاهرة وتقدم بكتاب ضخم عن التصوف الإسلامي وأثره في الأدب والأخلاق لينال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فؤاد، وتألفت نخبة من كبار أساتذة الجامعة لمناقشته وحسابه، فمنحته إجازة الدكتوراه الفلسفية بمرتبة الشرف.
وإثر ذلك واصل حملاته الأدبية في مختلف الصحف، وكان له مع أكثر أدباء العصر الحاضر صيال وملاحاة، وكان فخوراً بمعاركه الأدبية، وطالما تحدث عنها في كثير من التيه والإعجاب.
وطنيته: كان أحد الفرسان في ميدان الكفاح الوطني، فقد خاض غمار الثورة المصرية الأولى سنة 1919م في فجر النهضة الوطنية، وقذف نفسه في أتونها المستعر، وساهم بقلمه في إذكاء العاطفة الوطنية، وكان منبر الأزهر مذياعاً قويًّا ينشر على الملأ حماسته واندفاعه، وكان خطيب المحافل وشاعر المجامع، وكان الأستاذ أبو العيون ينتدبه للخطابة بالفرنسية حين يحضر إلى الأزهر بعض الأجانب من الفرنسيين وقد عانى الأهوال وأدى ذلك إلى غضب السلطة الإنجليزية فزجت به في السجون والمعاقل سنة 1920م.
خدماته الثقافية: وفي سنة 1925م عين معيداً بكلية الآداب، ثم انتدب إلى التدريس بدار المعلمين العالية في بغداد، فتطورت حياته الأدبية في رحلته هذه، إذ إن الفترة القصيرة التي مكثها في العراق قد ألهبت قريحته وأذكت نشاطه، فسطر مئات الصحف في الدعوة إلى العروبة وتوثيق الصلات بين القاهرة وبغداد، واتصل برجال الفكر والسياسة فنزل بينهم نزلاً كريماً، وقد وصف الآثار العربية بحاضرة العراق وصفاً بديعاً، وألقى محاضرات كثيرة حول الثقافة العربية.
وبعد عودته من العراق عين مفتشاً للغة العربية بالمدارس الأجنبية وتفرغ للنشاط الأدبي واتخذ من مجلة الرسالة ميداناً للصيال والحوار، وكانت هذه الفترة من حياته ألمع عهوده الزاهرة، وحلل كثيراً من الكتب الأدبية.
مراحل النحس والبؤس: قد يكون الحظ التعس مولعاً بمجابهة العباقرة، فقد وقف النحس له بالمرصاد ينغص عيشه ويكدر حياته، وينقله من الخفض الناعم إلى الجدب الموحش، ويجسم له أشجانه فتصبح أشباحاً قائمة تطوف أمامه مؤثرة بالسواد، فقد دفعه سوء حظه لمهاجمة وزير المعارف أدت إلى فصله من الوزارة، فتعرض للبؤس تعرضاً مؤلماً، ثم ألحق بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، واستسلم إلى الخمرة والتبذل والاستخفاف.
كان يصارع في معترك العيش، ويصارع في ميدان الأدب، وقد ظل على صراعه حتى نال منه الجهد في السنوات الأخيرة من حياته الحافلة فأدمته أشواك كان يبدي لها الجلد، فيضمد جراحه ويحاول أن يمضي في كفاحه، ولكن كان يغلبه الترنح الذي أسلمه إلى التفكك، وكان عشاق أدبه يأسفون لانتهائه قبل وفاته، وقد أوذي في سبيل النقد الأدبي، والنقد في الشرق ليس بمستساغ.
مؤلفاته: ألف كتابيه (حب ابن أبي ربيعة، ومدامع العشاق) وجذب بذلك كثيراً من الشباب إلى رياض الأدب العربي، فهاموا بالشعر الجيد والنظم البليغ، وألف (الموازنة بين الشعراء) وهو يفضل شوقي على ما يزنه به، وخلع على المعارضات الشوقية من الإطراء ذيولاً ضافيات، وجمع كتاب (ليلى المريضة) بأجزائه الثلاثة، وابتكر فنًّا جديداً حين نقل الغزل والتشبيب من الشعر إلى النثر، وعاد من العراقبمؤلف عن عبقرية الشريف الرضي، وهو مجموعة محاضرات أدبية ألقاها في كلية الحقوق، فكان أول باحث خص الشريف بجزأين كبيرين، وألف كتابه (النثر الفني) وقد تجلت شخصيته وفاض علمه واطلاعه في الردود المفحمة التي واجه بهـا كـل ما دار حولـه مؤلفـه المذكور، وكسـب المعركة، فهو ابن الأزهر المجتهد المستوعب، وابن الجامعات المصرية والفرنسية، وابن جامعة الحياة والصحافة.
مواهبه: كان علماً من أعلام الأدب في هذا العصر، وكان قلمه مدة أربعين عاماً يرن في مختلف الصحف فيثير العواصف الهوج ناقداً مصاولاً، ويرسل النغم شاعراً ملهماً، ويتابع الأحداث الأدبية والاجتماعية مؤرخاً فاحصاً، ويدبج الأبحاث العلمية والفكرية مؤلفاً باحثاً، وكانت حافظته قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في سن مبكرة، وقد درس الأدب والشعر على الأستاذ المرصفي، وكان من المتخضرمين الذين ربطوا الحياة الجديدة بالقديم.
ومالت به عواطفه إلى الغزل والنسيب فاستظهر رقائق العباس بن الأحنف، وروائع مهيار، وقد برزت ميزته في الوصف والتحليل، وقال عن نفسه بأن تشاؤمه المرير لم يفارقه في حياته قيد لحظة، وقد جمع أشعاره في ديوانه (ألحان الخلود) ولم يدخر وسعاً في التحدث عن نزواته ولحظات ضعفه، كأنه مولع بفضيحته والتشهيربنفسه.
وفاته: أدركته المنية في زلة قدم شديدة شجت رأسه ورجت مخه، ومزقت أعصابه وذلك في 23 كانون الثاني سنة 1954م، فإن كان فاته ما أدركته سواه مـن عرض الدنيـا، فقـد أثبـت اسـمه في سجل الخالدين، وقضى زهرة عمره في التعليم والتأليف والكتابة، وفقده الأدب بعد أن ترك للأدب ثروة كبيرة من مؤلفاته وآثاره، ولو انتهى كما ابتدأ لكان له في تاريخ الأدب والفكر شأن غير هذا الشأن، ومن المؤسف أن تغمره في أخريات أيامه المحن والقلق، فقد اعترضت طريقه الوعر عوائق طبيعية فلم يبلغ الغاية التي هيأه لها اجتهاده واستعداده، هذه العوائق نفسها هي التي جعلته آخر الأمر يعفي طبعه ويوفر جهده، فلا يكتب إلا عفو الساعة وفيض الذاكرة. وقد أقامت له نقابة الصحفيين حفلة تأبينية كبرى.
* * *