جاري التحميل

سليم الزركلي

الأعلام

سليم الزركلي([1])

الشاعر العبقري المتفنن الأستاذ سليم الزركلي

هو شاعر العروبة الملهم، انحدر من أصلاب طاهرة من أسرة الزركلي التي سخي الدهر عليها بالمواهب والنبوغ فأنجبت أفذاذ الرجال وهو ابن عم فخر العروبة بشاعريته الفذة ووطنيته المثلى الأستاذ خير الدين الزركلي.

مولده ونشأته: هو السيد سليم بن كامل بن المرحوم عبد الله الزركلي، نزح جده الأعلى من أرضرورم التركية منذ مئتي سنة واستوطن دمشق، ولد بدمشق سنة 1903م وتلقى دراسته الابتدائية في مدرسة بعلبك الرشدية الأميرية، ودراسته الثانوية في دار المعلمين بدمشق، وأنهى دراسته في سنة 1921م.

الوطنية المثلى: كان هذا الشاعر الحر شوكة دامية في قلوب المنتدبين الفرنسيين فأقض مضاجعهم بوطنيته ولهيب قوافيه، وفي سنة 1922م قبض عليه وقدم للمحاكمة وسجن، وكان معلماً نشيطاً مبشراً بالدعاية الوطنية، ثم صال وجال في عهد اعتقال الزعيم المرحوم عبد الرحمن الشهبندر ونفيه إلى جزيرة أرواد إبان حوادث استفتاء (كراين) المشهورة.

وفي سنة 1927م كان ملاحقاً من قبل الفرنسيين فهرب إلى شرق الأردن أثناء الثورة الكبرى وبقي سنة ونصف، ثم عاد لدمشق بعد صدور العفو العام.

وفي عام 1936م ألقى قصيدته المشهورة بمناسبة ذكرى ميسلون فاعتبرتها السلطات ماسة بكرامة الحاكم من قبل المحكوم، فأخرج من الوظيفة لغرسه بذور الوطنية في نفوس النشء الحديث وبقي مدة سنتين بلا عمل.

إلى العلاء: وفي سنة 1933م أعيد إلى وظائف التعليم في عهد أول حكومة اشترك بها الوطنيون حتى سنة 1936م، ثم انتدب للعمل في الإدارة المركزية بوزارة المعارف، وانتقل إلى أمانة السر للتعليم الثانوي.

ودار الزمن فكان فرقداً في مواهبه المتشعبة، فنقل في سنة 1942م إلى رئاسة مجلس الوزراء وأشغل أمانة السر لمجلس الوزراء وبرزت كفاءته بأجلى مظاهرها فعهد إليه في سنة 1947م برئاسة ديوان مجلس الوزراء. وفي عام 1951م نقل إلى مجلس التأديب الذي اختير من أفضل عناصر الموظفين ويشغل الآن وظيفة عضو مقرر فيه.

رحلاته: وفي عام 1946م أوفد بمهمة إلى مصر فكان موضع حفاوة أدبائها وإعجاب شعرائها. وفي عام 1947م زارها عندما كان مديراً منتدباً للإذاعة، وفي عهد الانقلاب السوري الأول عين مديراً للمطبوعات.

ديوانه الشعري: لديه ديوان شعري مخطوط لم يتسن له طبعه، تتجلى في قصائده الخالدة نزعات وطنية وعاطفية.

لا يحتاج القريض الذي جاء طبعاً منقاداً لعبقريته وخلجات روحه وإلهامه إلى تحليل، ففي كل شطر من قوافيه الرنانة روعة وفتنة وسحر وطرب، فديوانه كروض أنيـق كأنـه ارتـوى مـن ماء الكوثر فعمَّت عبير رياحينه الأجواء، وهذه خريدته العصماء في مدح الرسول الأعظم بعنوان (يوم أحمد) وهي تتألف من سبعين بيتاً قد ازدهت بها روعة شاعريته وخصيب خياله قال:

صحا الكون من ضلاته وغدا به

يسير على نهج الرشاد الممدد

جلالك وحي الشعر إنك مسعدي

فهب لي سحر القول في يوم أحمد

فأشرق مرجو الهدايات وانبرى

يسهل للسارين سبل التجدد

وراحت قريش بالسماحة والندى

وبالوحي والتنزيل في ظل مرشد

أطل على الدنيا كأن فنونه

نواسم تغدو بالربيع المنضد

ومنها:

فديتك أنشدني على الوجد والأسى

ملاحم فجر في الزمان مخلد

وخذ بيدي والذكريات تحف بي

نواحي للماضي الدفين الموسد

دع الليل والأفلاك بين شعابه

تهدهد أحلام الحلي المسهد

ومنها:

تبلج صبح الحق فانماث باطل

وتلك الفيافي في نعيم وسؤدد

إذا ما نسيم الوحي فاح أريجه

ونادى منادي الليل يا كون فاسعد

محمد يا فخر العروبة قد غدا

يطيب بهدي منك كل مهند

سننت على الأجيال شرعة ماجد

يرى الهون في ذل النفوس المبدد

ومنها:

فديتك فاشفع بي إذا الخيل قصرت

وعي ركوبي في رضاك ومصعدي

لك المجد فالأبطال عندك خشع

وخير عقول الناس منك بمرقد

وختم مدحه فقال:

عليك سلام الله ما ضاء كوكب

وما لاح نور في خلود مؤبد

ومن قصائده البليغة قوله في يوم الجلاء وقد استهلها باسم الشهيد البطل يوسف العظمة:

يا قبر يوسف لاعدتك مواطر

هن الرجاء لموطن ظمآن

يا قبر يوسف لست قبراً قائماً

ما أنت إلا كعبة الخلصان

وقد لحن مطرب دمشق الفنان رفيق شكري بعض أشطر هذه القصيدة فجاءت آية فنية بمعانيها الوطنية ولحنها البديع:

أدمشق ما أنت الغداة بساكن

ما أنت بالنادي الخصيب العاني

ما أنت بالبلد المضيع حقه

ما أنت بالبلد القليل الشان

كم وثبة لك في القيود تقطعت

أسبابها ودم تسرب قاني

رضت الجهاد فما استكان لغاصب

ولقد رويت ملاحم الفرسان

اليوم تنبعث الحياة فتية

في غوطتيك وترتعي بأمان

وتشع فيك كواكب وعباقر

وتطيب فيك معاهد ومغاني

فتجردي من كل قيد بائد

وتحفزي للهدم والبنيان

وثبي مع الأقدار لا تتهيبي

فالدهر ليس بخامل مزعان

روحه الفنية: خلق هذا الشاعر الحساس فناناً بطبعه وروحه، يهوى الطرب في حشمة ووقار، فقد تهافت الفنانون لتلحين قصائده وموشحاته البديعة. وقصيدته بعنوان (ومضة على ضفاف النيل) قد لحنها الفنان حليم الرومي وسجلتها دور الإذاعة لرقتها وانسجام قافيتها فكانت رائعة في ألحانها ومطلعها:

بارك النيل صبوتي وارتشافي

فانبرى الوجد في عبير القوافي

لا على الغيد أن تهلل فيه

للأماني والطيوف اللطاف

والشراع الخلي يهمس ليلاً

همسات الأمواج للمجذاف

وهو يطوي صحائفاً من لجين

لفراش مع الهوى رفاف

حان من ليله ائتلاق الثريا

واسطفاق الأجفان والأقواف

غردي للحسان يا ربة الشعـ

ـر وردي علي دهري ووافي

طاب ما أنت تنسجين غناء

وعزاء لفتية ألاف

لست والغيد حانيات بناس

كيف يحنو الهوى على أطياف

ربة الشعر والنجوم شهودي

وعيون النخيل والصفصاف

أنا للحب ما حييت أساقي الـ

ـكون وجدي وما تسر الخوافي

أرهف الحس كلما غفل الدهـ

ـر وأرنو بروحي الشفاف

كلما حرك النسيم خيال

طاب مسراي وازدهى إيلافي

أما موشحاته فقد اصطفاها الغواة ورأوا فيها بلسماً لافئدتهم الكليمة، فهي كالقيثارة التي تثير الأرواح وهذا نموذج منها:

يا سائق الريح

وحادي الأحلام

رفقاً بمجروح

يعالج الآلام

صوت الهوى رنا

في قلبي المعكوم

يا راحلاً عنا

لو تعرف المكتوم

الحب قد جنا

في صدري المحموم

والروح قد أنَّا

بحرقة المظلوم

حسن بنا الظنا

يا طيفة الموهوم

عدْ في غدٍ زرنا

أشفق على المحكوم

نرجع كما كنا

في عهدنا المرحوم

يا بهجة الأرواح

صبي لي الخمرا

فـي وارف الأرواح

واستقبلي الفجر

في الأفق إما لاح

يستعطف الذكرى

لا تبخلي بالراح

نسقي بها الزهرا

وتملأ الأقداح

للفرصة الكبرى

حتى إذا ما فاح

ونشر العطرا

تمثل الأفراح

فاهتز وافترا

غزله: أما أحاسيسه ولواعج وجده في الغزل فمن النوع المرهف الحاد كأنه سعير تلظى، فقد تغنى بالغيد والكواعب في قصيدته «ذكريات» ولانت لبلاغته عصي القوافي والخيال فأبدع في الوصف ما شاء له الإبداع:

أذكرتني معاهداً وملاعب

وأغاني مثل النجوم الغوارب

وتلاحين في الرياض تناجي

نغم الخلد في صداها ذائب

وطيوفاً على شفاه حيارى

تتلظى نوادبا ونواضب

والليالي على الهوى حانيات

تنتحيه مشارقاً ومغارب

يوم طافت على دروبي الصبابا

ت وحامت على كؤوس المشارب

وصفت لي من الزمان عهود

زينتها محاسن ومواهب

رف قلبي ويا لقلب معنى

حين تذكيه ذكريات لواعب

الأماني روعت والمغاني

لفها الدهر بالشجون اللواحب

والحشاشات ذبن غير بقايا

من خفوق لنعميات ذواهب

والفؤاد الذي تصبه دنيا

من تهاويل فتنة ومساحب

رف قلبي لذكريات عذاب

أيقظتها صوادح ونوادب

شد ما أرق الحنين إليها

خاطر سانح ودمع ساكب

يا فتون الكواعب الغيد رفقاً

بقلوب تصيدتها الكواعب

شاقها من زمانها كل ليل

أريحي الهوى سني المناقب

ودع الفجر يكتحل من ضياء

شعشعته ضفائر وعقارب

وعيون تنفس السحر فيها

ومعان منغمات خوالب

طف بروحي تطب بأنسك روح

شد ما همها وميض مسارب

الدراري مؤرقات عطاش

وظباء الهوى الندي عوازب

رثاؤه: ودعي إلى حلقة تأبين المجاهد الكبير المغفور له خالد الحكيم في حمص وألقى قصيدته العصماء بعنوان «دمعة على أبي ضياء» تجلى فيها وحي إلهامهوروعة نفثاته فأدمى القلوب:

هزتك داعية المنابر

وشكت إليك يد المقادر

فعلام تصطنع الونى

وعلام تصبر أو تصابر

يا شعر حسبك أن تمُرْ

رَ بك الخطوب وأنت سادر

كنت الحبيس فأطلقو

ك من الصدور إلى الحناجر

المجد في أعطافه

لا الكبر في الهمم الفواتر

العف عن مد الذرا

ع إلى الصغائر والكبائر

هذي حياتك أمة

تخضل بالسير الزواهر

غنى بها القلب اللهيـ

ـف وصاغها للخلد شاعر

أسرته: وفي سنة 1925م اقترن وأنجب ولدين وأنثى، فالكبير «بشر» وهو الآن معاون النائب العام في المحكمة العسكرية و«نصير» وهو في دراسة البكالوريا. وأما كريمته فهي في كلية التربية في الجامعة. اتصف هذا الشاعر بالسجاياالفاضلة وهو في جبروت هيبته ووقاره كليث أليف بصورة إنسان.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 389 ـ 391).

الأعلام