سليم الشلاح
سليم الشلاح([1])
صحائف الخلود
المحسان الخالد المتكتم المرحوم الحاج سليم الشلاح
﴿ﲦﲧﲨﲩﲪﲫﲬﲭﲮﲯ﴾ صدق الله العظيم
رب معترض يقول: ما هي علاقة المحسنين لتدرج سير حياتهم في هذا السفر التاريخي؟
إن المحسنين الذين قدموا للمجتمع أجل الخدمات الإنسانية بتشييدهم المعاهد والنوادي العلمية ومؤازتهم الآداب والفنون هم جديرون بالذكر وأولى بالخلود من غيرهم، لتكون مبراتهم عبرة وذكرى وقدوة حسنة للخلف الآتي.
لو فكر الإنسان طويلاً في الحياة وأنها موقوتة لحاول كبح جماح أنانيته وغروره وقاد نفسه إلى الخير، ولكن هي النفوس وما فطرت عليه، (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها).
لقد آليت على نفسي ألا أعنى بترجمة الموتى إلا إذا كان في حياتهم عبر، وفي مكارمهم عظات، وفي مآثرهم ذكرى للخلف، وأن لا أحفل بترجمة أحد من أرباب المناصب والمظاهر الدينية ولا الدنيوية إذا خلت من هذه العبر.
والمحسـان المتكتـم، لكـل نبي آية، وآية المحسنين العطاء والشعور والنبل والأريحية، وإسعاد البائسين الذين حرمهم الدهر نعمة الحياة، فإن كانت مهمة الرسل هي الدعوة الصالحة لتوحيد الخلق وتوجيههم نحو الفضائل ومكارم الأخلاق، فقد كان هذا المحسان في جبروته الذاتي أكبر داعية إلى الخير والبر. فحياة المحسنين هي قدوة صالحة للخلف، والتاريخ أكبر مؤثر على أخلاق البشر، وهو الذي يجعل المحسنين مكرمين مخلدين، يهتدي بنبراسهم المضيء الخلف ويقتدي، وسيظل اسم الفقيد غرة في جبين الدهر وصفحة مشرقة في تاريخ المحسنينالخالدين، وشهاباً مرسلاً محرقاً إلى الذين عكفوا على الانزواء في مجاهل الحسد المظلمة، وتخلفوا عن الأعمال المشتركة التنظيمية في الحياة العامة.
هو كريم لم تكن نفسه لتقف في الإحسان عند غاية، هو من عباد الله الذين فطروا على حب الخير والمعروف في سبيل مرضاة ربه لا في سبيل الجاه والمنة، هو كريم في يده وروحه للمبرات والصدقات، تلك اليد التي تعطي دون مَنٍّ مع من يتحقق أنه معوز وأنه يحتاج إلى العون، كان يتمسك بقوله تعالى: ﴿ﲄﲅ ﲆﲇﲈﲉﲊ﴾ هو ذلك المحسان المتكتم الذي أبدع في مكارمه فأقام ولائم خالدة جعل موائدها من الحجارة والإسمنت ليذكر فيها اسم الله ولتكون مأوى للأيتام يرتشفون فيها مناهل العلوم والآداب، هو فريد في طراز مكارمـه فـي حـدود المثاليـة والواجبـات الإنسانيـة لم يحي الليالي ويدعو الناس للاسترسال باللهو وخلع العذار والإقبال على العبث والمجون، كما يفعل بعض الأثرياء الذين انحصرت مكارمهم بالخزي والعار فدانوا بمذهب التقليد الأعمى للمدنية الحديثةواستهتروا بالشرف والأخلاق، لم يسأل أن يمدحوه ويبجلوه، لأنه يعلم أن العظمة الحقيقية هي مرضاة الله والتجرد عن كل غاية.
لله رجال: إن المحسنين هم أبناء الرحمة والخير إلى البشر، وما يجودون به من مبرات وصدقات هي السبيل الوحيد إلى الخلود، فحياة ذوي الأريحية والكرم كنز لا يفنى، وبضاعتهم مروءة ظاهرة وشهامة باهرة لا تبور على كر الدهور هو ذلك المحسان الخالد الذي طالما أرق يفكر في الجائعين والأيتام والمرضى من الفقراء، فلا تغمض عينيه وتطمئن روحه إلا إذا أزمع على أمر يرضي الله وضميره، حتى إذا انبلج فجر الصباح نفذ ما نوى عليه بإطعامهم وإسعافهم والترفيه عنهم، هو المحسان المقنع الذي كان يدور على الأسر الفقيرة وعلى أعزاء قوم أذلهم الدهر فيعطي بالخفاء هبات لا يعلم قدرها إلا الله، هو ذلك المحسان الذي بقيت آثاره ومآثره بلسماً لجراح فئة أشاح الدهر بوجهه عنها فأشقاها وحرمها نعمة الحياة، هو فارس القدح المعلى في ميدان الخيرات والمبرات، إذا بر أرضى وإذا وهب أغنى، تسبق مكارمه عبرات الخشوع، تنسجم من عينيه حمداً وشكراً لرب أغناه، هو ذلك المحسان الذي لا يرى هناء واطمئناناً لروحه إلا أن تكون مبراته من النوع الذي ورد في الحكم الأخير من الآية الكريمة، ﴿ﱘ ﱙ ﱚﱛﱜﱝﱞ﴾ ولولا أن المعوزين هم الذين يفشون سر هباته لما علم بأمرها إلا لله.
ذلك هو المحسان الخالد المتكتم المرحوم سليم بن المرحوم الحاج رشيد بن سليم الشلاح.
أصله ونشأته: ولد المرحوم سليم الشلاح بدمشق سنة 1866م. وأصل هذه الأسرة من المدينة المنورة في الحجاز ولقبها (الخوص) حضر الجد الأعلى إلى الشام سنة 1070ﻫ 1650م وتكنى بالشلاح، نشأ في العفة والصيانة والتقوى، عني المرحوم والده بتثقيفه على أعلام عصره ولما بلغ سن الصبوة زاول التجارة فبرز في ميدانها فكان رحمه الله ذا ثقة إطلاقية في المجتمع قوالاً بالحق نطوقاً بالصدق أميناً مستقيماً متجرداً، ولعمري فهذه المزايا هي أسمى أخلاق الرجال الفاضلة كما وصفه أحد الشعراء بقوله:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي | إلا الثناء فإنه لك باقي |
والله لو خيرت كل فضيلة | ما اخترت غير مكارم الأخلاق |
كان رحمه الله إذا تعرض التجار للمشاكل التجؤوا إليه وارتضوا بحكمه، فكان قوله الحكم الفصل فيما بينهم، لا يخشى في الله لومة لائم.
مآثره وآثاره: وآية ذلك أن ترى الأرقام تنطق بالخلود، فبارك الله في رزقه ونسله، ﴿ﲷﲸﲹﲺﲻﲼﲽ﴾ لقد تبرع إلى جمعية الإسعاف الخيري بالأرض المشادة عليها بناء الجمعية وثمنها بما فيها أرض الجامع تساوي (200) ألف ليرة سورية وقد كلف بناؤها (250) ألف ليرة سورية ساهم به نخبة من الكرام الأفاضل. وشاركه المحسن الفقيد المرحوم مصطفى القباني بعمارة جامع الجمعية وقد كلف مئة ألف ليرة سورية. ويضم بناء الجمعية ست مئة طالب فقير تطعمهم وتكسبهم وتعلمهم، وقد وقف هذا المحسان الجليل باسم الجمعية المذكورة نصف بناية واقعة في السنجقدار تقدر قيمتها بثلاث مئة ألف ليرة سورية ليصرف ريعها على إطعام وإكساء الأيتام من تلامذة المدرسة فقال أحد الشعراء بهذه المناسبة:
يا سليم نلت في دار النعيم | ضعف أرض سجلت باسم اليتيم |
في جنان الخلد مع دار السليم | أنت ضيف الله في عز مقيم |
فاجتباك الله أباً لليتامى | نعم عبد فاز بالخير العميم |
قد وهبت الملك في دار الزوال | فاصطفاك الله من قلب سليم |
أشاد جامعاً في شارع الملك فيصل بوكالته النافذة إلى سوق الدبس ولم يترك هذا المحسن العظيم أي أثر خطي بما بلغت تكاليف بنائه.
ساهم في إنشاء جامع الزبداني ولما توقفت أعامل البناء لنفاد الأموال تبرع بمبلغ عشرة ألاف ليرة سورية لإكماله.
ساهم في ترميم جامع الشيخ محيي الدين بن عربي الأثري وتبرع لهذا العمل بمبلغ أربعة آلاف ليرة سورية.
ساهم بترميم باقي الجوامع فقد كان أهل الأحياء يدعونه للصلاة في مساجد أحيائهم بغية نيل هباته، فيجود بفرشها كلها.
فإذا أصابك من زمانك حادث | فاذكر هديت شمائل الشلاح |
عطفه على أرحامه: كان رحمه الله شديد الحنان على بنيه والعطف على ذويه لم يشغله عرض الدنيا عن مساعدة أهله، ولم تأخذ عليه الأنانية مسالك الشفقة على أرحامه وحياطتهم بعونه وحمايتهم من براثن البؤس والفاقة، وقد قاسمهم رزقه فتبرع بعشرة دور إلى الفقراء من أقاربه، تساوي ثمن كل دار عشرين ألف ليرة سورية، وكان وفيًّا لمن اشتغل عنده في تجارته، فقد كافأ أحد العمال واسمه (أبو حمود) الذي رافقه طول (56) سنة قضاها في خدمته وقد أصبح طاعناً بالسن فوهبه داراً للسكنى مع ثلاث دكاكين ليستعين بريعها وربط له راتباً شهريًّا مدى حياته، وأصبح كل من تمرن عنده على التجارة موفقاً بتجارته لاكتسابه من خبرته الفائقة.
أسرته: وقد أعقب رحمه الله خمسة ذكور وهم السادة محمد وبدر الدين وأنور وشفيق ورشاد وكلهم من الموفقين بأعمالهم يتمتعون بمكانة اجتماعية وثقافية بارزة وقد تبرعوا بأبنية تقدر قيمتها بمبلغ ثلاث مئة وخمسين ألف ليرة سورية يصرف ريعها على جامع أبي رمانة بدمشق.
ومن المأثور عن المحسان الفقيد أنه كان يكتب وصية الوفاة بيده فإذا انقضت السنة ومدَّ الله بأجله نفذ محتوياتها وظل كذلك مدة عشرين سنة وهو يكتب الوصايا وينفذها حتى كانت وصيته الأخيرة بمئة وخمسين ألف ليرة سورية نفذ أبناؤه محتوياتها في سبيل الخير والبر عن روحه الطاهرة. وساروا على خطاه في المكارم والفضائل، فإن الأخوين السيدين بدر الدين وشفيق أشادا جامعاً في مدينة القامشلي وقاما على إخراج فكرة بناء كلية علمية في الزبداني واكتتبا بمبلغ خمسين ألف ليرة سورية تشجيعاً لأهل الإحسان عدا عن مساهمتهم بتبرعات كثيرة لمدارس ومساجد الأقضية والقرى.
وفاته: وفي هذه الأيام المصابة بالقحط بالرجال من أمثاله خطبت المنية مكارمه فدعاه ربه إلى منازله العلية، إلى دار السلام والخلود، فألحد الثرى في مقبرة الدحداح بدمشق في العشرين من شهر ذي العقدة سنة 1366ﻫ الموافق للرابع من شهر تشرين الأول سنة 1947م وهكذا طوى الموت وجهاً تلألأت منه النورانية الإلهية، وبحر بر لا يدرك غوره، فكان فرداً بين أهل البر والتقوى مقتفياً ومقتدياً بالسلف الصالح، أفاض الله عليه صيب رحمته ورضوانه، وقد أشاد الخطباء والشعراء بتأبينه ورثائه.
طوبى لمن بجوار الله قد نزلا | وقد أعد له جناته نزلا |
ويا هنيئاً لمن أسقاه سيده | في معهد القرب من كأس الشهود طلا |
* * *