جاري التحميل

سليمان البستاني

الأعلام

سليمان البستاني([1])

(1856 ـ 1925م)

خلق الله هذا النابغة من طينة جبلت بماء الكوثر المقدس، ووهبه شتى عناصر النبوغ، فجعله معجزة الدهر في مواهبه وعلومه وآدابه ولست أحسبني قادراً على تحليل نواحي نبوغه المتشعب، فالعبقرية والكمالات الإنسانية مجسمة في روحه، فالذين كتبوا عنه ما استطاعوا سبر غور عبقريته، فهو أمة بمفرده تجمعت العلوم والفنون واللغات وعمل دهور في دماغه الجبار.

مولده: هو ابن خطار سلوم البستاني ولد في مزرعة (بكشتين) التابعة لقرية الدبية موطن البستانيين النوابغ، في 22 أيار سنة 1856م، ونشأ في مهد الفضائل والمجد الأدبي، تلقى مبادئ العربية والسريانية عن المطران عبد الله، وفي السابعة من عمره دخل المدرسة الوطنية لنسيبه العلامة بطرس الكبير، وبقي فيها ثماني سنوات وفيها تفتحت أكمام مواهبه، ولما أنهى دراسته أصبح من أساتذتها، ثم عكف على الدرس والتبحر في العلوم واللغات، فامتلك نواصيها بما يعز على غيره نواله من رجال العلم والنبوغ الذين حملوا لواء النهضة الأدبية.

في مجلس المبعوثين: عاد إلى لبنان وانتخب سنة 1910م نائباً في مجلس النواب التركي عن لبنان، وتولى نيابة رئاسة المجلس، وأوفدته الدولة إلى أوروبا مرات بصفة رسمية وترأس بعض الوفود، فزار العواصم الكبرى وقابل الملوك والعظماء وخطب في جامعة أكسفورد، وهو من النواب الذين قرروا خلع السلطان عبد الحميد، ثم انتخب عضواً في مجلس الأعيان.

وفي سنة 1913م عهد إليه بوزارة التجارة والزراعة، فلما استعرت نار الحرب العالمية الأولى حاول أن يرد الدولة عن خوض غمارها إشفاقاً على مصيرها، فعاكسه الحزب العسكري، فاستقال من الوزارة وسافر إلى سويسرة سنة 1914م وأقام بها خمس سنوات.

عودته إلى مصر: جاء مصر وأقام فيها حتى عام 1924م، ثم أبحر إلى نيويورك مستشفياً فاحتفى به المهاجرون وعقدوا له حفلات التكريم.

رحلته إلى العراق: دعاه وجهاء البصرة لإنشاء مدرسة وجريدة، فذهب إليها ولم يتجاوز العشرين من عمره، فأنشأ مدرسة أدارها مدة سنة، ثم تركها واشتغل في التجارة واتخذ بغداد مقرًّا له، وعين عضواً في محكمتها التجارية ومديراً للبواخر وأنيطت به إصلاح مطبعة الحكومة، وقضى في العراق ثمانية أعوام رحل خلالها مرات إلى العجم والهند بسياحات علمية مكنته من الوقوف على أحوال تلك البلاد، ودرس القبائل وعاداتها وفهم أخلاقها وأساليب حياتها وأحصاها وألف من أخبارها كتاباً كبيراً.

عودته إلى بيروت: عاد إلى بيروت واشتغل في دائرة المعارف ثم سافر إلى الأستانة يستأذن وزارة المعارف في إخراج ذلك المؤلف الجبار، وعاد إلى بغداد وتزوج بسيدة كلدانية غنية، وهي ابنة المثري أنطون البغدادي، وبقي في بغداد مدة سنتين، عاد بعدها إلى الأستانة ومكث فيها سبعة أعوام.

رحلته إلى أميركا: وفي سنة 1893م غادر الأستانة إلى أميركا الشمالية، فتولى إدارة القسم العثماني في معرض شيكاغو وأنشأ مجلة تركية مدة العرض باسم (شيكاغو) ومثل بلاده ورفع شأنها بعبقريته.

في مصر: أقام في مصر إلى سنة 1908م يضارب بالأسهم والأطيان، وقد جادت قريحته فأصدر سنة 1904م (الألياذة) الشهيرة الخالدة، وكان يأتي لبنان في الصيف وكثيراً ما جال في أوروبا وأميركا باحثاً منقباً يدرس التمدن الحديث ويقتبس معارف الغربيين وآدابهم حسًّا ومعنى وبقي حتى إعلان الدستور.

مواهبه العلمية: إن شهرة هذا النابغة السياسية لم تكن شيئاً بجانب شهرته العلمية، ومجده الأدبي المتألق، وإن تمكنه من معرفة خمس عشرة لغة سهل له أن يتقن العلوم الرياضية والكيمياء والحقوق والزراعة والتجارة وعلم المعادن والاجتماع، وافتتن في الاختزال، فألف فيه رسالة هامة.

آثاره الخالدة: لقد نشر بالاشتراك مع نسيبيه نجيب ونسيب البستاني الجزأين العاشر والحادي عشر من دائرة المعارف وألف:

1 ـ كتابه (عبرة وذكرى).

2 ـ (الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده).

3 ـ وأتحف اللغة العربية بترجمة إلياذة (هوميروس) شعراً، فقد بدأ بها في الأستانة، ووضع مقدمتها في القاهرة وهي أعظم وأنفس ما حواه الأدب العربي من روائع، وكفاه بها ذكراً خالداً، فقد صاغها بآيات محكمات من فنون البيان والبلاغة، وقد عربها عن اليونانية، ونظمها بأحد عشر ألف بيت، تتألف من أربعة وعشرين نشيداً، في خلال سبعة عشر عاماً، وبلغ عدد صفحاتها (2260) وقد نظم نحو خمسة آلاف بيت من الشعر، لم يحفظ عنده منها إلا ما اقتصر على وصف الحوادث وفلسفة الأخلاق، وهذا نموذج من شعره البليغ الذي عربه عن الفارسية.

قضيت إلهي بالعذاب ويا ترى

بأي مكان بالعذاب تدين

فليس عذاب حيثما أنت كائن

وأي مكان لست فيه تكون

واستمع إلى روائع نظمه في الأخلاق:

أنا ما أنا أمسي ويومي في غدي


سواء توالى الخير أو عظم الشر

أحب محبي نابذاً حاسدي الذي

قلاني كما لو كان قد ضمه القبر

ومن وصفه الغزلي المعرب عن الفارسية قال:

وحقك أدركت شفتي روحي


ومن شفتيك تنتظر الإفادة

فديتك عجلي في الأمر واقضي

بموت اليأس أو عيش السعادة

ونظم هذا الموشح البديع وعنوانه (الشفاء) بعد نقهه في أيام الربيع في أحد مستشفيات سويسرا في أيار سنة 1919م نقطتف منه مطلعه:

أفق ولو حيناً قبيل الرحيلْ

لم يبق من صحوك إلا القليل

أفق فذي شمسك رأد الأصيل

إن آذنتْ بالعبورْ

عم الظلام

ونمت عاري الشعور

بين النيام

وفاتك الحس وسمع الكلام

والمنطق العذب ومرأى الجميل

وفاته: لقد أصابه مرض في عينيه ففقد بصره، وفي غرة حزيران سنة 1925م استأثرت بروحه المنية وهو في مدينة نيويورك، وحمل جثمانه إلى الوطن واستقبلت بيروت جثمان هوميروس العرب في 15 آب سنة 1925م، فكان له مأتم وطني عظيم، وفي 17 آب نقل إلى السعديات، وأودع جثمانه غرفة من غرف البيت الذي ولد فيه، والذي جادت عبقريته بإتمام الألياذة فيه، ثم نقل إلى ضريح شيد له، وهكذا طوى الموت أحد عباقرة الدهر في الأدب، والعالم المتضلعبكثير من اللغات، والشاعر النابغة، والسياسي المحنك الذي تسنم أكبر منصب وزاري خطير في العهد العثماني بين العرب، وأحد أركان النهضة الحديثة، ومنشئ إلياذة هوميروس معجزة الفن والدرة الفريدة في جيد العرب التي تتباهى فيها لغات العالم.

وقد أفاض الشعراء والخطباء والأدباء بمآثره وآثاره الخالدة.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 255 ـ 257).

الأعلام