جاري التحميل

سليمان ربوع

الأعلام

سليمان ربوع([1])

(1852 ـ 1892م)

بوركت أرض حمص العزيزة التي أنجبت أعلام الشعر والأدب، فكانوا غرَّة في جبين الدهر، ولا يسعني وأنا ألمع عما بذلته من جهد مضن في سبيل تخليد نفر عزيز من شعراء حمص البائسين الذين اندرست آثارهم الأدبية في ظروف غامضة، ثم تسنى لي جلاء مواهبهم الأدبية المشرقة، إلا أن أجهر بالحق بأن الأدب لا يدين بالطائفية، فنحن إن اعتززنا وافتخرنا بشعراء الطائفة الأرثوذكسية وتراثهم الأدبي الخالد، فهذا لا استئثار فيه، بل هو مشاع بين المجتمع الحمصي خاصة والأدب القومي عامة، ومن الإنصاف أن نشيد بفضلهم ومآثرهم، فهم بحق أركان النهضة العلمية والأدبية في فترة الانحطاط العلمي.

أصله ونشأته: وهذا شاعر حمصي وكوكب دري سطع في سماء الأدب ثم خبا إلى الأبد، ولو كان الموت حليفاً للحياة لأمهل هذا الشاعر المسكين ليتمَّ رسالته الأدبية، ولكن حياته كانت كالغلس الذي يعقبه إشراق النهار، وكالشفق الذي ينذر بزوال الأنوار.

هو سليمان بن يوسف بن سليمان ربوع، وأسرته قديمة العهد، وهي حمصية الأصل، تكنت بـ (الجد) لأن جد يوسف كان شيخاً للحارة وذو لحية طويلة فغلب عليه لقب (الجد) بدلاً من (ربوع).

ولد الشاعر المترجم في حمص سنة 1852م وتلقى علومه على شيوخ عصره من الطائفة الأرثوذكسية العريقة التي اشتهرت بما أسدته لمدينة حمص من خدمات ثقافية كان ثمرها يانعاً بما أنجبته من أعلام العلماء والشعراء والأدباء.

مراحل حياته: لم نستطع الوقوف على مراحل حياة هذا الشاعر البائس التي يكتنفها الغموض؛ لضياع ثروته الأدبية التي تبددت وتلفت بسبب موته الفجائي في حادثة مؤثرة.

نزح المترجم من حمص إلى مصر للعيش والاستقرار في محيط واسع تتجلى فيه مواهبه الأدبية كما استقر فيها غيره من السوريين واللبنانيين الذين برزوا في ميدان العلم والأدب والتأليف، ولو أسعفه الحظ لكان كخليل مطران وشبلي شميل وأنطون الجميل وغيرهم.

غير أن الأقدار عاكسته، فلم يمض على وصوله للإسكندرية ثلاثة أيام حتى اندلعت نيران الثورة العرابية، فتوارى مختبئاً وهو غريب لا يدري أين المفر، واستطاع بعد مغامرات الهرب إلى أمريكا الشمالية وحط رحاله في مدينة نيويورك ليهنأ بالاستقرار والاطمئنان، ولكنه عاش هدفاً لعذاب الضمير لما رأى الزنوج عرضة لإجحاف مر واعتساف مستمر.

مواهبه الأدبية: إذا كان الألم يوقظ الحواس ـ والشاعر كالطير يعبر عن كل آلامه بالبكاء ـ فإن شاعرنا الذي كبت البؤس إحساسه وكتم العسر أنفاسه واجتاحه العوز والحرمان ـ والإملاق ضرب من القسر والإذلال ـ قد تحدى الدهر بصبر وأناة وجلد دون شكوى أو بكاء، والحق أن البؤس أسدى إلى بعض الشعراء إحساناً وأضفى على شعرهم روعة وإتقاناً فلا تجود قرائحهم بالنفائس إلا وهم بائسون، وإنهم لمَّا يلمسون بعض السعادة يخلدون إلى البلادة، ولمَّا يرتاح بالهم يقل في الشعر مقالهم، كما هو الحال مع الشاعر العراقي الأستاذ أحمد الصافي النجفي، فإن قريحته قد جادت بأروع القوافي عند بؤسه، ولما امتلك المال، انعكس الأمر وانطفأت جذوة شاعريته.

كان الشاعر المترجم ذا قريحة طيِّعة تساعده على إرسال الشعر من غير تصنع، يرى في الاغتراب ضالته المنشودة، ويتجلى في كل شطر من شعره آيات البطولة والطموح، ويعتقد أن الحي إذا لم يظفر بأمنيته قبل منيته، فإن الذكر والنسيان في الموت يستويان، ومن روائع شعره قصيدة يواسي بها نفسه ويشيد بفضل الاغتراب نقتطف منها قوله:

سافر تجد عوضاً عمن تفارقه

وانصب فإن لذيذ العيش بالنصب

ما في المقام أرى رغداً ولا أدباً

في كربة فدع الأوطان واغترب

إني رأيت وقوف الماء يفسده

إن يجر طاب وإن لم يجر لم يطب

والشمس لو وقفت في الفلك دائمة

لملها الناس من عجم ومن عرب

والبدر لولا أفول منه ما نظرت

إليه في كل حين عين مرتقب

والأسد لولا فراق الغاب ما افترست

والسهم لولا فراق القوس لم يصب

والتبر كالتبن ملقى في أماكنه

 

والعود في أرضه نوع من الخشب

فإن تغرب هذا عز مطلبه

وإن تغرب هذا زين بالذهب

لقد كان دقيق الوصف في الغزل، تخرج روائعه سحر عينين ذابلتين بالأسى والحزن ومن غزله البديع هذا التخميس:

سلك الغمام تناثرت في حندس

فوق الربا فتنظمت من سندس

فهتفت والأحشاء غب تنفسي

يا صاح إن وافيت روضة نرجس

فأدرك فإن المشي فيها يُحرم

أحداقها تهدي لكل مهذب

أقداح خمر في اللجين المذهب

فالزم مراعاة النظير فمذهبي

فالأصل تحكيها عيون معذب

ولأجل عين ألف عين تكرم

فاجعة موته: إن يوم الشقاء نحسه لا يأفل، فقد كان الدهر القاسي لهذا الشاعر الأبي البائس بالمرصاد، فبينما كان يتخطى أحد الشوارع الكبيرة في مدينة نيويورك دهمته قاطرة كهربائية فقطعت أوصاله وذلك في سنة 1892م وهو في سن الكهولة المبكرة لم يتجاوز الأربعين من عمره، وقضى حياته عازباً مجداً في عمله، فوضعت الحكومة يدها على مخلفاته وأكثرها من الكتب والمخطوطات التي لا أهمية لها بنظر من لا يعرف قدرها، وهكذا ضاعت آثاره الأدبية. رحم الله هذا الشاعر البائس، لقد عاش فقيراً كريماً ومات فقيراً كريماً.

*  *  *

 



([1] (ا) (2/ 71 ـ 72).

الأعلام