جاري التحميل

سيد درويش

الأعلام

سيد درويش([1])

الشيخ سيد درويش

(1892 ـ 1923م)

مولده ونشأته: هو الفنان الجبار الخالد الذي حطم أغلال الفن من قيوده القديمـة وأخرجه من الظلمات إلى النور، ولد سنة 1892م في حي كرم الشقافة بالإسكندرية وحصَّل القليل من العلم في مدرستي (شمس المدارس) والشيخ إبراهيم باشا والمعاهد الدينية وحفظ القرآن الكريم وأجاد تجويده وترتيله، نشأ فتى معمماً وقطع في دراساته شوطاً بعيداً، لولا ميله الفجائي إلى احتراف التلحين وشغفه بالموسيقى والغناء، ولكنه لم يصب نجاحاً في بادئ الأمر وانقضى عليه وقت طويل وهو مغمور لا يسمع عنه أحد وفي سنة 1918م ترك الإسكندرية إلى القاهرة فوافاه النجاح، ولم يمض سنوات حتى ذاع صيته واعترف له الكل بالزعامة، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لفنان قبله ويندر أن يجتمع لأحد بعده.

كفاحه في الحياة: لقد كافح الحياة وقبل أن يبلغ قمة المجد عرف الشيخ سلامة حجازي له قدرة وسمح له بالغناء على مسرحه ذات ليلة بعد أن قدمه للجمهور، فلما بدأ الشيخ سيد درويش يغني، وكانت ألحانه فذة غير مألوفة استنكر الجمهور غناءه وراح يصيح طالباً الشيخ سلامة، فخرج هذا إليهم وهتف (عاوزين إيه يا ناس يا للي ما تقدروش الفن؟) وراح يصب على الجماهير وابلاً من قارص الكلم ويرميهم بالجمود.

أما الشيخ سيد درويش فقد اختفى خلف الكواليس وأخذ يبكي ويتأوه، وبهذه الدموع والآهات والكفاح المضني تربع على عرش الموسيقى، وبلغ من المجد في حياته ما لا مزيد عليه، فقد اعترف له الجميع بأنه جدد الموسيقى للمرة الثانية بعد الحمولي، ووضع الغناء التمثيلي على أسس مكين، وأثبت أن الموسيقى الشرقية كأختها الغربية قادرة على التعبير عن مختلف المشاعر وتصوير الطبيعة أروع تصوير.

لم يكن من شأن الشيخ سيد درويش التواضع وإنكار الذات، فقد كان يحب أن يرى تمجيد الناس له ويسمع إشادتهم بذكره، وكان يثور على كل من يحاول إنكار عبقريته، ويعبر عن تلك الثورة بالقيام ومغادرة المجلس الذي يجلس فيه منكر فضله، بيد أنه عاد فأنكر عبقريته في أواخر أيام حياته، وهذا عجيب من رجل مات وهو في ذروة مجده، فقد قال من رأوه قبل وفاته إنه ثار على نفسه إن صح هذا التعبير وراح ينكر كل آثاره الموسيقية ولا يرضى عن مجهوده العقيم...! وهذا يدل على ضخامة آماله، وقد صمم على السفر إلى إيطاليا ليدرس الموسيقى الغربية دراسة تفصيلية جامعة، ولكن الموت ختم حياته وقضى على كل أمانيه.

الفنان البوهيمي: لم يكن من المتوقع أن يجتمع الزهد والحياة البوهيمية في شخصية سيد درويش، فأما البوهيمية فلم يكن يحدها حد، فقد كانت حياته فوضى يندر أن يكون لها مثيل في سائر الفنانين، كان يأكل كل شيء وفي أي مكان، وكان يصوم أياماً فلا يأكل ولا يشرب إلا ما يسدُّ الرمق.

وكان يُرى في كل مكان، ثم يختفي فلا يعرف له أحد مستقرًّا، وقد روي عنه أنه كان مختلياً بنفسه في قهوة على ضفة النيل ليتم تأليف لحن من ألحانه بينما كان بيته غاصًّا بأصدقائه ومعارفه، وكانت عروسه تنتظره ليلة الزفاف.

وكان ينام ويسهر، فلا ضابط لنومه أو سهره، كان طيباً ورقيقاً جدًّا، فإذا ثارت ثائرته تبدلت حاله وأصبح شرساً وقاسياً.

أما ملابسه فقد كانت فوضى لا حد لها، ولم يكن ينتظم منها إلا رباط رقبته، وكان يتقاضى ثمن ألحانه في فترات منقطعة، إذ لم يكن له مرتب اللهم إلا عند اشتغاله مع نجيب الريحاني، فكان يرسل جانباً من النقود إلى عائلته في الإسكندرية وينفق الباقي وقد يتجاوز مئات الجنيهات على أكثر من عشرة من أصدقائه كانوا يصاحبونه في سهراته البوهيمية ولياله الليلاء، وقد مرت به أيام سوداء في أواخر الحرب العظمى وخلال الثورة المصرية سنة 1919م كان فيها مفلساً بكل معاني الإفلاس، ومع ذلك لم يحد عن حياته البوهيمية قيد شعرة.

زهده: أما زهده فقد كان فريداً بين أبواب الزهد المعروفة، كان هذا الزهد يأتيه على نوبات تشبه نوبات الجنون، وكان تارة يئساً من الحياة وأخرى نفوراً من عالم اللهو والحياة البوهيمية، كما كان في أحيان أخرى متشائماً ومتوقعاً للموت القريب، ومن أشد ذكريات تشاؤمه إيلاماً أنه كان يتوقع الموت في كل حين، وكان يهدي صوره إلى أصدقائه ويكتب عليها.

صديقي إن عفا رسمي

وهدَّ الموت بنياني

فناج الروح واذكرني

نزيل العالم الثاني

ومن الغرائب أنه بينما كان في غرفته وقعت صورته بجانب زهرية ورد على الأرض لوحدها دون أن يمسها أي شيء، وقد مرَّ على ذهنه بأن أجله سينتهي في هذه السنة، ومن المصادفات العجيبة أن سيد درويش مات بعد هذه الحادثة ببضعة أشهر.

وكان استبداله العمامة والجبة والقفطان بالملابس الإفرنجية مظهراً من مظاهر زهده، ولذلك حكاية مؤثرة، فقد كان عليه أن يقف خلف ستار المسرح بين الممثلين والممثلات وكلهم من الشبان والحسان، فكان يشعر بألم الشديد كلما فكَّر في أنه المعمم الوحيد بين عشرات ممن قد يسخرون من العمامة، وقد برح به الألم ذات ليلة فانخرط في البكاء، وراح يلوم نفسه على تحقير الزي الديني المحترمفي أوساط لا تحترمه، وقد قرر خلع الملابس الدينية وارتداء الكسوة الإفرنجية، بيد أنه ظل يدعى (الشيخ سيد درويش) إلى آخر يوم في حياته.

ملحن النشيد: هو أول موسيقي هجر التخت وما إليه هجراً تامًّا واعتمد في ألحانه على صدق التعبير والقوة، وهو أول عربي رفع لواء الثورة على الأغاني الشرقية الراكدة ويخطئ من يظن أنه كان في ثورته مقلداً أو ناقلاً أو مقتبساً للألحان الغربية، فقد كان مبتكراً مجدداً في الموسيقى الشرقية، ولم يكن يخطر بباله أن يسرقألحاناً غربية، إذ كان في غنى عن ذلك بعبقريته وخصب خياله، فقد كانت ألحانه حزينة تثير الأشجان وتبعث روح الحماسة، وأكبر دليل على ذلك النشيد الوطني الحماسي الذي لحنه، فجاء آية من آيات القومية العربية.

ألحانه الخالدة: لا شك أن الأغاني هي عنوان مجد كل أمة وبها تعرف ما ينتظرها من نهوض أو خمول، وكان الفن العربي عبارة عن أغان مبتذلة يمجُّها الذوق وتأباها مكارم الأخلاق، والأدلة على ذلك كثيرة، وكان له الفضل في الانقلاب الفني للحركة الوطنية الجارفة في مصر، فقد كان الأدباء يتبارون في وضع الأغاني الجديدة مصبوغة بروح الوطنية البعيدة عن الذل والخضوع، وكان الشيخ سيد درويش يلحن هذه الأغاني بروح قوية لم يكن لها وجود من قبل، وكان أكثر الفنانين إنتاجاً في هذه الناحية، وقام المجد الفني وعظمته على التجديد الذي أدخله في الأغاني بعد الحركة الوطنية، وروايتا (هدى) و(شهرزاد) أكبر شاهد على ذلك، كما وأن ألحانه في رواية (العشرة الطيبة) لم تقتصر على بث روح الحماس والنخوة في نفوس الشباب وحسب، بل إن بينها أغان أخرى لها أثرها في خلق النهضة النسائية الحديثة، ولحن أدوار رواية (راحت عليك) لمؤلفها أمين صدقي وعلي الكسار، وكان للسيد درويش صديق إيطالي اسمه امبرتوبياتشي، وهو من أكبر هواة الموسيقى، وكان له رأي في الملحنين الشرقيين، ولما سمع ألحان رواية (فيروزشاه) الممثلة 1918م شهد أنه يتنازل عن رأيه القديم، واعترف لأول مرة بأن الشرق فيه ملحن لا يقل عن زملائه في الغرب. وكان إذا سمع الأوبرات التي ألفها نوابغ الموسيقيين الغربيين ينكسف من سخافته وتلحينه العقيم.

وفاوضته شركة التمثيل العربي لوضع ألحان لرواية (شمشون ودليلة) فطلب ألف جنيه على تلحين فصولها، وطلب هذا المبلغ الكبير ليسافر إلى إيطاليا لدراسة الفن الغربي، أما ألحانه من أدوار وموشحات فستبقى خالدة على كر الدهور، ويضيق الحصر بتعداد جميع الأدوار التي لحنها أو ألَّفها ولحنها معاً، فقد ألف ولحن عدداً كبيراً من الأدوار والموشحات التي لا مثيل لها، ومع كثرة المسجل منها على الأسطوانات فإن هناك أدواراً كثيرة لم تسجل ولا يحفظها سوى نفر قليل من خاصة أصدقائه والمعجبين به، ولم يكن يهتم بتسجيل ألحانه بنفسه، وكان ضعيف الذاكرة ويصطحب معه ولده محمد ليحفظ له الألحان قبل صياغتها،ولم يظهر بين الموسيقيين في الشرق أسرع ولا أقدر ولا أبرع من الشيخ سيد درويش في سرعة التلحين، وقال الأستاذ الشاعر أحمد رامي: إن الشيخ سيد درويش كان شاعراً أديباً.

أوقات تلحينه: لقد كان من عادة الشيخ سيد درويش حينما يريد تأليف لحن يهيئ لنفسه جوًّا يلائم موضوع اللحن، فقد وضع لحن (عذارى الماء) على شاطئ القناطر الخيرية فاستصحب أوراقه وعوده وظل ثلاثة أيام متواليات يستلهم الماء والخضرة حتى خرج اللحن شجيًّا ممتعاً، وجلس مرة بين الصخب والازدحام مدة أسبوع لإخراج لحن البرابرة ولحن الأروام وغيرهما، ولا غرو فلقد ابتدع هذا النحو الجديد في الموسيقى العربية ألا وهو وضع الألحان التي تعبر عن حياة الشعوب وأمزجتها وقد انقضى هذا اللون الجميل من الموسيقى العربية بوفاة مبدعه.

ولمـا كانـت حيـاة العباقـرة كلها وثوب إلى الأمام، فقد كان من عاداته أنه لا يرضى عن عمل أتاه مطلقاً، وكثيراً ما كان يغير في ألحانه كلما سمعها.

إسرافه: لقد كان متلافاً مبذراً للمال، وقد بزَّ في إسرافه الشاعر حافظ إبراهيم والموسيقار كامل الخلعي وغيرهما، فقد كان يتناول الأربعين أو الخمسين جنيهاً فينفقها في ليلة واحدة على رهط من الملحنين والأصدقاء، وكثيراً ما كان الناس يرون رتلاً من العربات يسير في الطرقات يحمل نحو ثلاثين رجلاً وسيدة بينهم الشيخ سيد درويش إلى خلوة يلقنهم فيه ألحان الروايات وكل من فيها يطلب العشاء وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى قروش قليلة.

وقد عمل عملية في منخريه وقال له الطبيب ستموت إن لم تترك شرب الكوكائين.

وفاته: لقد تعاون الشيخ سيد درويش مع نجيب الريحاني فعصرا دماءهما ليقدما للناس فنًّا خالداً، وقد أهداه الريحاني خاتماً من ألماس، فكان الشيخ سيد يردد أمام أصدقائه بدنو أجله، وأن أهله إذا احتاجوا إلى نفقات دفنه فبإمكانهم بيع هذا الخاتم وتأمين دفنه بأثمانه.

وقد لعبت المرأة دورها في حياة سيد درويش كما تلعبه في حياة كل فنان فدفعته إلى الشهرة والمجد دفعاً، فخلقت (جليلة) في رأسه فكرة السفر إلى إيطاليا وعقد النية على السفر، وفي الرابع عشر من شهر أيلول سنة 1923م أبرق له أصحابـه بالحضـور لحفلـة عرس فحضـر مـن القاهرة إلى الإسكندرية، وشرب الويسكي بدون سودا، واستنشق الكوكائين بإفراط، فقضى نحبه في صباح ذلك اليوم لحفلة العرس في بيت أسرته الكائن في حي (كوم الدك) في الإسكندرية. لقد مات الشيخ سيد درويش صفر اليدين كما مات هوميروس فقيراً، والفردوسي مؤلف الشاهنامةمعدماً، وكان هذا الفنان الخالد ألعوبة الدهر وضحية الفاقة في حياته القصيرة.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 578 ـ 581).

الأعلام