جاري التحميل

سيد الصفتي

الأعلام

سيد الصفتي([1])

الشيخ سيد الصفتي
(1867 ـ 1939م)

ولد المترجم سنة 1867م وابتدأ حياته قارئاً يجيد تلاوة القرآن الكريم فاشتهر وسعى الناس إليه، وخرج في سنة 1902م بلون جديد، فكان قارئ مولد، ومادح الرسول الأعظم، وتقرب بذلك إلى قلوب المصريين، وفي سنة 1904م انضم إلى بطانة الشيخ إبراهيم المغربي الموسيقي المعروف الذي لحن له كثيراً من الموشحاتالجديدة فكانت السبب فيما ناله المترجم من شهرة طائرة ومن ارتفاع سريع لم يكتف به، وقد ذاق حلاوة الشهرة والإقبال، فكان يقرأ أول الليل قرآناً ثم يثني بالقصائد النبوية حتى إذا كان الهزيع الأخير من الليل غنى أدوار الحمولي ومحمد عثمان بمصاحبة العود.

ولم يكتف بهذا التجديد الغريب، ولعله رأى أن هذا الخلط ينفِّر الناس فترك القرآن والقصائد النبوية وظهر عام 1905م على تخته الموسيقي القوي يرسلعلى الناس سحر صوته وقوة فنه، حتى تحكَّم في سوق الغناء وفي مسامع الشعب، فكان يشتغل تباعاً طول أيام السنة، ولكي نعطي القارئ صورة قريبة عن شهرة هذا الرجل العجيب في صدر شبابه، نقول: إنه استمر خمس سنوات يغني دون أن ينقطع ليلة واحدة، ومثل ذلك استمر عند زيارته سورية ولبنان.

أطواره: لعل هذا المتفنن هو أقرب الناس إلى الشذوذ والخروج عن تلك الأوضاع البشرية التي وضعت للحد من الطباع والغرائز والرغبات، فله دستوره وحده وله طباعه وتصرفاته التي يفرضها على الناس فرضاً، ثم هو بعد هذا الإنسان المرهف الحس، العظيم النفس، الممتلئ نبلاً ورجولة وكرماً.

والسيد الصفتي من هؤلاء العناصر الذين أضفت عليهم الطبيعة كل ما فيها من فن وجمال وإقبال وشذوذ حتى خطَّ لنفسه في كتاب الحياة وسجل الخلود صفحة نيَّرة مشرقة سوف يتلوها الزمن على سمع الأجيال المقبلة.

كان قصير القامة يلتهب نشاطاً ويمتلئ قوة وجبروتاً، ويزيِّن رأسه عمامة صغيرة تمتاز برشاقتها وأناقتها وشالها الحريري المفتول.

صوته: كان صوتاً مركباً من خمسة عشر مقاماً، وكان يمتاز بسلامة تامة، وبأداء بارع لم يعرف (النشوز) طول حياته، ولعله من الأصوات النادرة القوية التي كان يسمعها الآلاف بوضوح وجلاء.

كان أول موسيقي شرقي، اعتنى (بالبروفات) الفنية اعتناءً عظيماً، فكان يشتغل طول نهاره فيها دون أن يتعب أو يمل أو يشكو ألماً وتوعكاً، ولعل سحر الذهـب والإقبـال والمجـد هـو الذي كـان يمـد هذا الرجل بالقوة الخارقة التي لا يكاد العقل يصدقها. وهل يصدق العقل أن بشراً يشتغل أغلب يومه وأكثر ليله دون أن يستريح إلا ساعة أو ساعتين.

تسجيل صوته: سجل في حياته أكثر من أربعة آلاف أسطوانة، وهو رقم تاريخي لم يصل إليه مطرب ولا مطربة في الشرق وفي الغرب، وقد اكتسب منها الآلاف، ولكن إسرافه أضاع كل شيء، إلا ذكره ومروءته وكرمه... لقد أضاع ثروته ليشتري بها مجده وخلوده، وكانت إسطواناته توزع في الشرق والغرب كأنها الغذاء الذي لا يستغنى عنه حتى ظن السوريون أن الصفتي لابد أن يكون مارداً لا تقع العين على نهايته، فلما سافر إلى دمشق ورأوه بحجمه الضئيل النحيل خابت ظنونهم واعتزموا أن لا يسمعوه إلا في حفلة أو حفلتين من قبيل (الفرجة والاستطلاع) وكان هذا الفنان الجبار قد علم بهذا، فأعد العدة لحفلة الافتتاح ثم راح يشدو ويرسل سحره وقوة فنه في عقدٍ سحرية على هؤلاء الذين يظنون أن القوة في (العرض والطول) فماجوا وهاجوا وتقلبوا وصرخوا والشيخ يضحك، حتى إذا تأكد من النصر أراد أن ينتقم فأسكت التخت وسكت، ثم نزل وصرح للمتعهد بأنه يرغب في السفر والعودة إلى مصر بعد (يومين) لأنه قصير لا يحسن الغناء ولا تسل عما حصل من الشفاعات والتوسلات.

لقد اجتمعت لدى الصفي كل وسائل البهجة والسرور فاستمر خمس سنوات يغني على مسارح دمشق وحمص وحلب وبيروت لا يستريح فيها ليلة واحدة اكتسب فيها الآلاف. فلما رجع إلى مصر لم يرجع بقرش واحد منها. وأهله في بحبوحة من العيش.

كان أخريات أيامه يعيش عيشة فلسفية زاهدة في كل شيء، وتناسته محطة الإذاعة وأهملته كغيره، وكان يحيا حياة الرجل الذي شبع وشبع حتى مل كل ما تهافت الناس عليه، لقد فني هذا الفنان كما فني غيره ولكن فنه سيبقى لأنه من الخلود نشأ وإلى الخلود انتهى.

وفاته: وافاه الأجل صبيحة يوم الأحد في 18 حزيران سنة 1939م.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 570 ـ 571).

الأعلام