جاري التحميل

صالح أحمد طه الدوماني

الأعلام

صالح أحمد طه الدوماني([1])

الهامة المتألقة في النبوغ الفطر
 الشاعر الفنان المرحوم صالح أحمد طه الدوماني

لقد درست تواريخ حياة كثير من الشعراء الفنانين فلم أجد بينهم من يماثل الشاعر المرحوم صالح طه الدوماني في أحواله وأطواره الغريبة ونبوغه النادر وذكائه المفرط.

لقد مرت حياة الفقيد القصيرة مرّ الكرام، وقضى نخبه في سن الكهولة المبكرة، ولـو امتـد أجله لترك فـي ميدان الشعر والفنون تراثاً خالداً لا يبلى، فقد أنتجت قريحته الجبارة آيات بينات من الشعر البليغ والفنون الرائعة.

أصله ونشأته: هو المرحوم صالح بن أحمد بن محمد طه الدوماني (نسبة إلى دوما القريبة من دمشق) ولد هذا النابغة بشهر صفر سنة 1277ﻫ 1858م ونشأ بكنف والده وكانت مخايل الذكاء الفطري المفرط تتقد فيه منذ طفولته. درس القراءة والكتابة والقرآن الكريم على بعض شيوخ عصره، ولم يتلق قواعد اللغة العربية وعلوم البيان والبديع والمنطق على أحد من العلماء الأعلام كما ثبت ذلك بالواقع، وهذا موضع الغرابة والسر العظيم في مواهبه الفطرية التي تجلت بأروع مظاهرها. توفيت والدته وكان في سن الوعي والرشد فأخذ إرثه منها واشتغل بالتجارة، وتبحر خلالها بنفسه في علوم الهندسة والحساب والخط والعلوم الروحانية فنبغ فيها، ثم توظف كاتباً في بلدية دوما وتولى إدارة أملاك الوجيه المرحوم محمد البارودي بالوكالة.

رئاسة بلدية دوما: لقد كانت حياة الفقيد المترجم مليئة بمختلف أنواع النشاط، وتنبئ بأنه سيكون يوماً ما علماً من أعلام الشعر والفنون. حاز على رئاسة بلدية دوما في ذلك العهد بطريق الانتخاب، ومن أبرز مزاياه التي كانت السبب في إجماع الناس على تقديره ومحبته أنه جعل بينه وبين المنافع الشخصية حجراً محجوراً وخدم بلده بنزاهة وإخلاص، فمنحوه ثقتهم وطال عهده فيها فقام بأعمال إصلاحية ما زالت ماثلة أمام الأعين وحديث الناس والرحمة عليه. فهذه الصفات ميزت ابن طه كإنسان ذي عقيدة مثالية في الأخلاق الفاضلة.

أوصافه: كان رحمه الله طلق اللسان قوي الحجة، ذا جرأة قوية وصراحة لا تعبأ بالحوادث والعقبات.

كان يطارح الناس النوادر الارتجالية ويلقاهم بثغر باسم، وهبه الله خصوبة في الفكر ومتانة في الاستدلال كان فيهما لا يجارى، فيعطي الجواب من روح السؤال، له حافظة قوية تميل إلى الصواب، يحمل في ذهنه ذخيرة علمية لا تقوم بمال، مسرف النشاط في عمله، وسيم الوجه، مشرق الجبين، يسدي الخير لمن يحيط به من الناس، يكره الشهرة وحب الظهور.

رحلته إلى استانبول: سافر المترجم رحمه الله إلى استانبول وقابل السلطان عبد الحميد ومدحه بقصيدة بليغة مطلعها:

أرخ ثنا قمر بالوسع والطرب

كرر ثنا مدحه في الحلم واللقب

فنالت استحسان السلطان، فسأله عما يبتغيه، فأجابه بأنه لا يريد سوى اكتساب مرضاة الله بتوسيع الجامع الكبير في دوما والدعاء لجلالته بالأجر والثواب، فأمر بمبلغ (650) ليرة ذهبية لهذه الغاية، وكانت عزة نفسه موضع إعجاب السلطان الذي كان يتهالك الشعراء على مدحه للحصول على عطاياه، وقد صرف هذا المبلغ بمعرفة لجنة خاصة كان الفقيد يرأسها في سبيل إكمال عمارة الجامع الكبير وأقام فيه الجسورة الشمالية بشكل هندسي بديع.

شعره: عاصر الشعراء: الشيخ طاهر الجزائري وكان شاعراً وأستاذ العلماء الأعلام في عصره والشيخ عبد الرحمن القصار والشيخ محمد المبارك والأمير محيي الديـن الجزائري والهلالي الحمـوي والشيخ طاهر شمس الدين الحمصي والشيخ عبد القادر بدران وغيرهم رحمهم الله وكانوا في حيرة من أمره وهو الشاعر الملهم الذي لم يدرس علوم اللغة العربية بأنواعها على أحد، يشابهه في هذه المزية العجيبة الشاعر المغترب إلياس فرحات.

كان هؤلاء الشعراء يترددون مع تلامذتهم لزيارته في دوما، وله اجتماعات ومساجلات أدبية كثيرة مع أفاضل علماء الشام وفي طليعتهم العلامة المرحوم الشيخ بدر الدين الحسيني، وكانوا إذا اجتمعوا به استهابوه، فقد كانت ارتجالاته الشعرية موضع العجب والإعجاز، ومن قوله الارتجالي في الوفاء:

إذا ذهب الوفاء فقل سلام

على أهل المحبة والوفاء

ولا تعتب على أبناء دهر

فلون الماء من لون الإناء

كان رحمه الله يميل إلى الشعر التأملي الصوفي والخمريات والمديح، فكان شعره من النوع الموشى بلطائف البديع والبلاغة، وأسلوبه في النثر جذاب أخاذ.

مدح الرسول الأعظم بقصيدة من النوع المهمل سماها (الدرر واللآل لمدح محمد والآل) بلغ عدد أبياتها (99) بيتاً، ولا يدرك إلا الشعراء أهوال مسلك الكلام المهمل، ونظمه ليس بالأمر السهل المنال ومطلعها:

أسر الأسود هلال سلع والحمى

لما رعى آل اللوى ولهم حمى

وسرى هواه إلى المعالم كلها

ووصاله أمر محال واللمى

وقد تبارى الشعراء في تقريظ هذه الخريدة الفريدة، منهم الشاعر الهلالي الحموي فقال:

أسحر حلال أم كؤوس مدام

أم سلك در أم كمال كلام

فنونه ومجونه: كان رحمه الله يمتاز بخبرته في الشؤون العمرانية الهندسية، بارعاً في حل أعقد المسائل الحسابية بسرعة فائقة حسب طريقته الخاصة، عليماً بقواعدالخطوط الجميلة وكتابتها، يهوى الطرب ويفتنه سماع الأصوات الجميلة، ذا خبرة في الفن الموسيقي وأوزانه ونظم الموشحات البديعة منها قوله:

يا لقومي ما لدمعي هملاً

وفؤادي حره في ضرم

لقد كانت المجالس الأدبية قرة عينه تضطرم فيها قريحته وتجود، فإذا غابعنها تعطرت بطيب ذكراه، سلوته قراع الأقلام والقوافي في خلوات عذرية، نشوته فيها خمر العيون، ومن قوله الطريف في المجون:

دعنا من النثر والأشعار والأدب

واعطف على اللهو والأوتار والطرب

وعاطني الكأس رغم اللائمين بها

وزوّج ابن سماء بابنة العنب

وطلب منه تخميس قول ابن الفارض (زدني بفرط الحب فيك تحيرا) فقال مرتجلاً:

سبحان من أسرى بصبري مذ سرى

دمعي فباح بسرِّنا وبما جرى

وغدوت محتاراً وصحت مكبراً

زدني بفرط الحب فيك تحيرا

يا من سبى بجمال طلعته الورى

وطلب منه أحد الأدباء تخميس:

(يا قاضي الغزلان جفني والكرى

خصمان يختصمان فاحكم واهدني)

وأدرك المترجم بقوة فراسته أنه يمتحن نظمه الارتجالي، فابتسم وكتب مخمساً:

نادى السلو فما أجاب فأقصرا

دنفٌ بأحكام الغرام تحيرا

كيف الخلاص من القضاء إذا جرى

يا قاضي الغزلان جفني والكرى

خصمان يختصمان فاحكم واهدني

فانصف ولا تشطط بحكمك لونه

يبقى الزمان وإن تطاول بونه

من كان معواناً فربي عونه

ورد الخدود إذا تكامل لونه

في روضة تحت العيون الفُتّن

وزهت نضارته وحيّر وصفه

وذكت روائحه وأرّج عرفه

ونما على خضرٍ وحسنٍ لطفه

هل للشجي المحتاج يوماً قطفه

أو يمنعنْ ما الحكم في ذاك أفتني

إن كان ينوي بعد قطف رشفةً

من ريقه المعسول يشفي غلة

أو كان يبغي بعد ذلك ضمَّة

نفتي بذلك للضرورة خيفةً

من أن يكون قتيل سيف الأعين

وله رحمة الله قصائد كثيرة في عزة النفس والكرامة، وقد شطر قصيدة عبد المطلب القرشي الهاشمي المشهورة (لنا نفوس لنيل المجد عاشقة) فقال:

(لنا نفوس لنيل المجد عاشقة)

والمجد يعشقها طبعاً من الأزل

ما إن تسلت بما يزري لنا حسباً

(ولو تسلتْ أسلناها على الأسل)

(لا ينزل المجد إلا في منازلنا)

وما حواه سوى آبائنا الأُولِ

ونحن والمجد إن شبهتَ إلفتنا

(كالنوم ليس له مأوى سوى المقل)

ومن نوادره: أنه امتحن في مناسبة واقعية الشيخ عبد القادر بدران في التصوف فقال:

ملأت الكون معرفة

وسرى سار كالنفس

فما عمري أرى أحداً

فسلم لي ولا تقس

وقد شهد أفاضل معاصريه من الأدباء والشعراء بأنه كان آية باهرة في الذكاء الفطري والنباهة والفراسة.

كان بينه وبين العالم والشاعر والأديب الدوماني المرحوم الشيخ عبد القادر بدران جفاء، وقد تهاجيا هجاء مرًّا ثم توسط الشاعر الهلالي الحموي في الأمر فكانت بينهما هدنة دامت حتى وفاتهما.

وقابل في استانبول المرحوم الأمير شكيب أرسلان ودعيا إلى حفلة ختان أنجال المرحوم أحمد عزت باشا العابد وكان بجانبه فسأله الأمير شكيب عما إذاكان هيأ قصيدة في هذا الموضوع، فأجابه بالنفي، وقال له الأمير وأنا كذلك مثلك، ولما بدأت الحفلة قام الأمير وألقى قصيدة التهنئة، فوجم صاحب هذه الترجمة وانتفختأوداجه، ثم قام وهنأ صاحب الدعوة بأبيات ارتجلها كان لها الوقع الحسن، ولو أتيح للمترجم اكتساب العلوم لنبغ وفاق، بل كان نظمه الشعر بدافع السليقة الفطرية.

وفاته: كان عفا الله عنه تقيًّا صالحاً نقيًّا في أواخر حياته يدل على ذلك تشطيره قول ابن الوردي:

فاترك الخمرة إن كنت فتى

وَصِلِ العقل  بعلم وعمل

فهي والله جنون ظاهر

كيف يسعى في جنون من عقل

لقد عب المعجبون من كؤوس فنونه حتى الثمالة، إلا أن الكأس الأخير كانت رائقة، ختامها هدى ورضا، فأشاد الفقيد في دوما جامعاً مشهوراً من ماله الخاص سماه باسمه اكتساباً لرحمة ربه وغفرانه، وحمَّ القضاء فأصيب رحمه الله بذات الرئة، وفي شهر صفر سنة 1325ﻫ 1906م قطفت يد الأجل القاهرة ثمرة حياته فتوسَّد الثرى. وأعقب أولاداً وأحفاداً لهم مكانة مرموقة في دوما.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 227 ـ 229).

الأعلام